نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 17-2-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4552
مقتطف من كتاب:
الترحال الأول: “الناس والطريق” (1)
الفصل السادس: “لابد من باريس، وإن طال السفر” (3 من 3)
العيد المفاجأة !!
ركنّا الحافلة فى مكان رائع، بين رصيفين معدين لذلك، وقررنا أن نتركها تستريح بضعة أيام؛ فقد فضّلنا ألا نعود اليها إلا عند شد الرحال إلى خارج باريس. فباريس عندى ـ وربما عندهم ـ هى المشى والمترو والناس، السيارة تحول دون ذلك.
يقترب منا ونحن ننزل أشياءنا ذلك الوجه العربى، متأملا فى أرقام السيارة بالعربية، وأفرح بهذا الإعلان المميز الجاذب للأخوة وأولاد العم، ويقول: “بالسلامة”، فنفرح مهللين أن يسلمه الله، ونتعرف عليه “جزائريا/باريسيا” ممن أعتبرهم من معالم باريس بالذات. سألناه ـ وكأننا تذكرنا فجأة ـ عن العيد، فقد كنا قد انقطعنا تماما عن متابعة الزمن العادى، فلا صحف، ولا متابعة أخبار إذاعات عربية، ونحن نعلم أننا بالقرب من العيد الكبير، فقال لنا “فجأة” (أيضا) إنه اليوم، وفزعنا لأول وهلة، ونظر بعضنا إلى بعض فى غيظ وعتاب، ثم انفجرنا ضاحكين، سُرقنا والذى كان قد كان.
هكذا وجدنا أنفسنا فى وسط العيد بلا إشعار سابق. لا…ليس هذا هو العيد، لا يمكن أن يكون اليوم، ليس هو العيد الذى نعرفه.
فالعيد هو الاستعداد للعيد: يابرتقال احمر وجديد، بكره الوقفة وبعده العيد، يابرتقال أحمر وصغيّر، بكره الوقفة وبعده نغيّر، فإذا أتى اليوم التالى فــــ: بكره العيد ونعيد، وندبح أبوك الشيخ سيد. ثم يأتى العيد، فيصبح العيد هو صلاة العيد، والسلام على الناس الذين لا تعرفهم باليد، والرجوع من الطريق غير الطريق الذى قطعناه ذهابا، ثم قبض العيدية، أو إعطاء العيدية (حسب السن والمقدرة). وينتهى العيد مع ضحى النهار. نعم هذا هو العيد، ولا عيد بغير هذا، لا عيد بغير “انتظار” العيد، ثم إنى كنت ـ حتى الآن ـ إذا حدث ـ لا قدر الله ـ أن فاتتنى صلاة العيد، كنت أشعر شعورى نفس هذا الشعورالذى لطمنى فى باريس، أنى سُرقت، وأن فجوة قد فتحت فى حائط الزمن بلا مبرر، فأصاب بحزن دفين أخفيه عن المعّيدين حولى بكل وسيلة.
أتساءل: لماذا أعطى كل هذه القيمة لصلاة العيد، وهى السُّنة المؤكدة لا أكثر؟ ولماذا كانت سنة بالذات، وما كان أسهل أن تكون فرضا، وما أخف أداءه مرتين فى العام؟. وأجيب نفسى فرحا بأن هذه الصلاة ربما لم تـُفرض لأنها تـَفرض نفسها بهذه الدلالة وهذه الوظيفة. فأنا أميز بها العيد تحديدا، وأكتشف علاقتى بالسُّنة، وعلاقتى بالفرض، وكيف أنى قبلت تفسير الحديث الذى أوردت معناه فى هذه الرحلة، من أن “ركعتى الفجر خير من الدنيا وما فيها “قبلت تفسيرا يقول إن الحديث يشير إلى ركعتى السنة وليس الفرض، وأتذكر “قيام الليل”، الذى نزل بشأنه أمر مباشر “قم الليل إلا قليلا، وأتأكد من تفسيرى الخاص لعلاقة الفرض بالسنة فالسنة فعل طواعية واختيار، وكأن الشرع قد نظم علاقة الفرض بالسنة. نظاما يحل مشكلة الحتمية والحرية، يفرض الحد الأدنى لنتحرك بعده مختارين.
أرى أن هذه الطقوس والعبادات التى تجعل يوم العيد مختلفا هى نوع من الوقاية ضد ما يمكن أن يسمّى “اكتئاب الأعياد”، وهو أمر شائع من أيام “عيد بأية حال عدت يا عيد”، والشطر الثانى الذى يربط العيد بالتجديد له دلالة خاصة، لأنه يربط العيد بـ”التجديد”، وحتى لو لم يكن المتنبى يقصد تجديد الذات أو إعادة الولادة، وأنه كان يركز على تجديد علاقته بسيف الدولة، فإنه لاعيد دون تجديد، وكل ما هو جديد وتجديد يحوى جرعة طفليّة طازجة، بدونها لابد أن نشكك فى حقيقة وعمق التجديد.
أحسب أن اكتئاب الأعياد (وإلى درجة أقل: اكتئاب الإجازات) هوالنتيجة المباشرة لإحباط الطفولة حين تصطدم بالفرق الشاسع بين الوعود (الداخلية، والخارجية)، وبين الواقع المتواضع، ربما هذا الوعد بالفرحة هو الذى يفسر أنه لاعيد دون انتظار واعد، وحيث أن الوعود، لا تتحقق عادة ، لأن أغلبها يكون سريا، فهو الاكتئاب.
بعد ضحى عيد طيّب، بدا طيّبا، كنت فى الاسكندرية، والعيد ليس إلا يوما واحدا مهما زعموا غير ذلك، بل إنه ينتهى فى أول أيامه بعد الضحى مباشرة، هذا ما نبهتنى إليه أمى، وهى تردد: “قال دا لإيه؟ للعيد، طب دا لإيه؟ للعيد. مستنى إيه؟ العيد. كلّه عشان العيد، قال إيه؟!! ضحْويةً وفات العيد”، مهما طال الإعداد أسابيع أو شهورا”، فالعيد ينتهى عند الضحى فعلاً خاصة عند الفلاحين الذين ينطلقون إلى الحقل قبل ظهر أول يوم.
فى هذا اليوم أول شوال سنة 1402 ـ الموافق 12 يوليو 1982 ـ هكذا وجدت الورقة مؤرخة بهذا التاريخ وجدتها يوم 12 يوليو 200 وأنا أعيد أوراقى المبعثرة، فتذكرت أننى فى ذلك اليوم العيد احتدت وحدتى وأنا أشاهد المعيّدين من شرفة بيتى – فى الاسكندرية – المطلة على بلاج السراية (أبوهيف)،احتدّت وحدتى حتى غمرت وعيى دون سبب، فى الأغلب نسوا طفلى تماما بفضل حركاتى طبعا، وجدتُنى بين أوراقى بهذا التاريخ أنهنه شعراً قائلاً:
ما رتَّبَ مهدى قبل النومْ، بعد النومْ”
ما مرّت كفٌّ حانيةُ ـ غافلةُ ـ فوق الخصلهْ
ما أعطانى اللُّعبه
فحملتُ الآلهْ
حدباءَ بغير علامهّْ.
من هو الذى قصّرفى ترتيب مهدى؟ ليس والدى على كل حال، وليست والدتى فعلاقتى بهاعامّة (أنظر بعد، ربما فى الترحال الثالث إن شئت) ، وفى الأعياد خاصة لا تسمح بانتظار ذلك أصلا. رجّحت مؤخرا جدا، قريبا جدا، من”هو” الذى لم يعطنى اللعبة، ولم يرتب مهدى. تذكرت أبا العلاء (هذا تفسيرلاحق) وهو ينبهنا أن كل واحد منّا، وإن طالت سلامته “..يوما على آلة حدباء محمول”.
من طقوس العيد الطفلية، مهما بلغت سنّك، أن تلبس جديدا، وقد تراجعتْ هذه العادة بشكل أو بآخر، وأرجّح أن معنى لبس الجديد، يرتبط بشكل أو بآخر بالتجديد الذى كان يبحث عنه المتنبى، وبطزاجة الطفولة، أو حتى إعادة الولادة التى تكمن وراء هذا وذاك، ما زلت أذكر حكاية جلبابٍ اشترته لى عمتى بتكليف من والدى كاد يفسد علاقتهما،سمعت صوت حفيف هذا الجلباب الجديد وأنا أكمل قراءة شعرى:
ما حاكت لى جلباباً ذا صوتٍ هامسْ
لم يمسسه الماءُ الهاتكُ للأعراضْ
لم يتهدّل خيطــُــه
لم تتكسَّر أنفاسُــه
صدّقتُ بأن المَاحَدثَ طوال العامْ يأتينى الآنْ
لم يأتِ سوى الطيف الغامضْ
لا تتوقف التوقعات من العيد عند حد، و”العيدية” التى أصر على إعطائها حتى عهد قريب لكل من حولى حتى زوجتى (ثم إنى -دون سبب – كدت أتراجع مؤخرا لكننى – والحمد لله – لم أفعل)، هى رمز أبوتى المزمنة، فمن يعطينى أنا عيديتى؟ ثم أعود إلى شعرى:
أجرِى بين الأطفالِ وأرتقبُ “العادهْ”،
ذات بريق وحضورٍ وروائح وكلامْ
يقطر ثدىُ العمَّ رحيقَ الرُّضَّعْ
أتلفع بُالورقةِ تُدْفئنى
تتمايلُ، تتأرجحُ مثل الأيام
تتفتَّح أكمام الحبَّ الآخرْ
فأخاف النوم وصبحا يترقَّبنُى
أحيانا، عندما تحتد بصيرتى بما لا أحتمل، ولاقوة إلا بالله، أبطّن أحلامى بإحباط جاهز. هذا نوع من الوقاية التى تجعل وقوع البلاء مثل انتظاره، وربما هذا الموقف أيضا هو ما يفسّر هذا الغم الخبيث الذى يحرم المصرى خاصة من فرحته، حين ينبّه نفسه فى عز بهجته أنه “اللهم اجعله خيرا”، والخوف من النوم فى آخر الفقرة السالفة فى شعرى هو خوف من يقظةٍ تالية قد تؤكد أن كل توقعات العيد لم تكن إلا حلما فعلا.
أقف بذيل الصَّفَّ وأفركُ كفى،
أيديهم فرحَهْ،
تبحثُ عن ظِلَّ البسمهْ،
وذراعى مبتورهْ،
تختبئ بثنيات الوعد الميّت،
أنزعُها..تَــنـْــزَعُــنى،
أهربُ من كومة ناسٍ مختلطهْ،
أخرج من باب الدرب الآخرْ .
أكثر ما يغيظنى، فى مثل هذه المناسبات، وأحسب أن شيئا من هذا قد حدث فى ذلك اليوم البعيد، هو أن يصدّقنى من حولى، أن يتصوّروا أن عندى حل بديل، أن يحسبوا أن لى دربا يجدر بهم أن يسلكوه ما دمتُ لاأشاركهم، أظن أن هذه لعبة أنا مسئول عنها بشكل أو بآخر، ولا أعرف كيف أوصل لهم، وربما لى، أنه ليس لى درب أعرفه، وأن غاية أملى هو أن أجد من “يحاول” فى نفس الاتجاه، سعيا إلى توجّه يعد أن يضمّنا يوما ما، حتى لو لم يأت هذا اليوم أبدا، من يتحمّل آلام الجدّة معى؟ وأكمل:
دربى بِكرٌ فوق حصاه تسيل دماءُ القدِم العارِى،
يتبعنى الناسُ الـمِثلى، ليسوا مثلى،
من مثلى لا يسلكُ إلا دربـَــه
يحفرهُ بأنين الوحدهْ
يزرع فيهِ الخطواتُ الأولىَ
ـ دوماً أولىَ ـ
يَرْويهاَ بنزِيفِ الرّؤيْــةْ
تتفتح أكمامُ العيد بلا موعدْ
ذات بريقٍ وحضور وروائحَ وكلامْ
مازلنا (أيضا) فى: 5 سبتمبر 1984
فى ذلك اليوم ونحن على أبواب باريس، وفى زحمة السفر، والاستعداد للسفر، فالسفر، سُرقنا حين فوجئنا بنا وسط العيد هكذا، فعلا: لا عيد بلا إعداد، لا عيد بلا تمهيد، لاعيد بلا انتظار: الذى كان قد كان، وها هو العيد، وها نحن بعد الضحى، ولم تكن ثمة وقفة، ولا برتقال، ولا شيخ سيد، وأسأل ابن العم الجزائرى: هل أنت متأكد؟. فيقول طبعا، لأنى فى إجازة بسبب عيدنا، فعدت أسأل، وهل صلّوا العيد اليوم فى الجامع (أعنى جامع باريس)، فيقول لست أدرى، فأنا أعرف عيدنا بالإجازة لا أكثر، وداخلنى غيظ متوسط.
تذكرت حرصنا (مع الأولاد) فى العام الماضى على صلاة عيد الفطر فى جامع باريس حيث كنت آمل أن يتعرف الأولاد على أهل دينهم فى مناسبة عامة فى هذه الغربة الموقـِظة للتجمع، لكنى ما زلت أذكر الانطباع السلبى الذى تركته الصلاة فى نفوسهم حين وجدوا أنفسهم فجأة أمام سلبيات المسلمين أكثر من إيجابيات الإسلام ـ من أول “ممنوع التصوير” حتى السماح بالشحاذة باستعمال الأطفال الرضع نصف عرايا، وسيلة لاستدرار الشفقة، ناهيك عن الخطبة المعادة، والتكبير المنغم بنغم لم نعتده، وافتقاد حرارة المعية بعد الصلاة،
المهم ها نحن الآن قد سُرقنا.. والذى كان قد كان..، فجعل الأولاد يذكروننى بما يشبه العتاب، كيف قضوا ليلة العيد جلوسا فى عربة منهكة على مشارف باريس.
قلنا ـ فى نفس واحد ـ: “ولو”.. سوف نعيّد تعييداً خاصا، وسوف نأكل لحما ومرقا؛ احتفالا ـ أيضا ـ بسلامة الوصول، وافترقنا ـ كل إلى فندقه ـ نـُزيل آثار عدوان الليلة الماضية، والتقينا كما تواعدنا، وانطلقنا إلى المترو متوجهين إلى نقطة البداية التى تعودت أن أبدأ منها: “ميدان النجمة” (الإتوال) الذى تحول مؤخرا إلى ميدان شارل ديجول (أو إن شئت الدقة: أضيفَ إليه اسم شارل ديجول قبل اسمه القديم: إتوال). ومع احترامى المحدود لهذا الرجل: ديجول، إلا أنى أكره تغيير الأسماء لأى سبب من الأسباب، ومازلت أعتبره ميدان الإتوال لا أكثر. حيث قوس النصر يتوسط نجمة تعلن بداية تفرع الطرق الضخمة الفخمة من الميدان،
أنا أشعر أنى أنجذب إلى هذا الميدان فور وصولى؛ لأنى أبدأ منه استعادة استنشاق ريحه بشكل جديد، فأدور حوله، بدءا بطريق “فوش” مارا بالشانزلزليه حتى أكمل دائرة كاملة أوشبه كاملة، أسترجع من خلالها تاريخا خاصا مثيرا، فقد كان معهد تعلم اللغة الفرنسية الذى بدأت إقامتى فى باريس سنة 1968 بالذهاب إليه لتعلم اللغة. كان هذا المعهد هناك فى شارع فرعى متفرع من طريق فوش، يبدو أن هذه الفترة بالذات (ثلاثة أشهر لتعلم اللغة) كانت السبب الحقيقى وراء نقلة التعرى السالفة الذكر. فقد أمضيت فى هذا المعهد الخاصInter-Langue عزلة إجبارية رائعة، قطعتنى تماما عن كل المثيرات المعتادة. فانفصلت عن لغتى، وعن كل ما هو طب نفسى، وكل ما هو مريض نفسى، وكل ما هو علم نفس، بل تعمدت أن أنفصل عن زملائى فى المهمة العلمية من المصريين (إلا قليلا) ـ وأحسب أن كل ذلك كان من أهم مقومات التعرى بالسفر، حتى تجتمع إغارة “المعلومات” الجديدة، مع توقف كامل (أو شبه كامل) عن تلقى المعلومات القديمة. ربما لذلك أكره ـ عند السفر ـ الاتصال الهاتفى المتكرر مع الوطن، والذى أصبح مقررا بعد تسهيل الأمر بالتكنولوجيا الحديثة فهو يجهض النقلة أولا بأول، أقول إنى أكتشف الآن أنى قد انتهزتها فرصة ـ بنصف وعى ـ لكى أتخلص من ذلك السجن الفظيع الذى أعيش فيه، من خلال قيود مهنتى والتزامى، المثيرات والمؤثرات ذاتها كل يوم… طول اليوم….كل ليلة… كل ليلة… طول الليل…نعم، سجن يمسح أولا بأول أىة مساحة باقية لتلقى أى نوع آخر من الوجود المختلف، والمحاِورٌ، والمفيِقْ، فما إن ذهبت ذلك العام (1968/1969) إلى باريس، حتى عدت تلميذا فى الحياة يتعلم أحرف الهجاء الجديدة، خمس ساعات متصلة كل صباح، بلا فسحة إلا ربع ساعة بالدقيقة، تلميذا كل ماعليه هو أن يكرر، أو يجيب المُدرسَّة، أو يتبع جهاز التسجيل، أو أن يغنى مثل الأطفال مع زملائه الطلبة الكهول.
تتردد فى أذنى الأغانى الفرنسية التى كنا نكررها أثناء الدرس غناءً، ونحن فى هذه السن فتعود تملؤنى. وأنا جالس على المقهى الصغير، أطل على هذا الميدان الكبير (الإتوال) فى ربع الساعة الفسحة الوحيدة خلال خمس ساعات متصلة من شحن المخ بالمعلومات الجديدة، أقول إن هذه الأشهُـر الثلاثة الأولى، فى ذلك العام الباريسى (68 ـ 1969)، كانت أهم مما تلاها تحت زعم ما يسمى “مهمة علمية” أو “فذلكة ثقافية”، وأكتشف أن تعلم لغة جديدة ـ وخاصة بهذه الطريقة المكثفة ـ لايفيد فقط فى فتح نافذة جديدة على عالم جديد، وناس أخر، وإنما هو يسحبك سحبا إلى طفولة جديدة، وبدايات جديدة، وتهتهة جديدة، وروح جديدة، وخاصة مع هذه اللغة الرشيقة الغنائية (الفرنسية)، التى اكتشفت أنها تشترك مع لغتى الحبيبة فى كثير من نبضها الداخلى، مع تفوق لغتى (حسب حدسى) فى المرونة والحركة والإيقاع المكثف، تذكرت كل ذلك، واكتشفته أوضح وأبلغ، وأنا أتجه إلى نقطة انطلاقى من ميدان الإتوال لأشعر أنى وصلت باريس.
ربما يرجع تفضيلى الإقامة فى الحى اللاتينى، أثناء زياراتى العابرة بعد ذلك العام إلى أنى عشت الحوار الذى كان ـ ومازال ـ جاريا بدرجة كافية، الحوار بين ما يمثله كل منهما. ذلك أنى كنت قد وصلت باريس عقب أحداث حركة الشباب (الطلبة ـ مايو1968) ـ وكان الأمل فى هذه الحركة ـ كما قال لى صديقى بيير (ذكرته قبلا) ـ أن تحيى هذه الثورة الطلابية إيجابيات الثورة الفرنسية، حتى بدا لصديقى هذا أن باريس (وفرنسا، فالعالم) على أبواب يوتوبيا حقيقية من العدل والإنارة. إلا أن كل هذا سرعان ما تضاءل حتى لم يبق إلا الحماسة وحسن النية، وإزالة شكلية للمنصات المرتفعة من قاعات محاضرات الجامعة (!!) (دون إزالة المنصّات الأخفى والحقيقية داخل نفوسهم ونفوسنا). وحين كان اليساريون يتجمعون احتجاجا على ديجول، فى الحى اللاتينى، يتجمعون بالمئات فالآلاف، حتى يكاد المشاهد يتصورهم أنهم الأغلبية الغالبة، كان ديجول يخرج إلى التليفزيون يخطب بصوته القديم الجهورى داعيا أنصاره أن يتجمعوا فى ميدان الإتوال ليردُّوا بنفس الطريقة. وفى خلال نصف ساعة أو أقل، تتضح الصورتان، وكأنه استفتاء مباشر مصوّر وهكذا يتم الحوار ـ خلال ساعات ـ بلا دماء، ولا رشاو، ولا منظمات تحتية، ولا مفرقعات ولا تكفير ولا ازدراء.
ربما لارتباط ديجول ـ هكذا ـ بهذا الميدان، سمى باسمه بعد وفاته، “ولو”.
أخذنا بعضنا إلى هناك وقمت بالطقوس الأولية، وحين وصلت إلى الشانزليزيه، وجعلت ظهرى لقوس النصر ـ كالعادة ـ أطّلت على فى نهايته فى ميدان الكونكورد قمة مسلتنا، وترحمتُ ـ مغيظا ـ على نابليون. تشابكتْ أيدينا، فرحين بالبرد المنعش، ونظرت إلى وجوه الأولاد، فوجدتهم ينظرون فى وجهى، وكأنهم لم يتأكدوا ـ بعدُ ـ من أنى لن أعيدُهُم إلى المخيم قسرا: تهذيبا وإصلاحا. ويبدو أنهم قد بدأوا يغفرون لى مبيت الليلة الماضية فى العربة، فى مقابل أنى أعفيتهم من عقوبة التخييم فى هذا البرد. وحين لاح لنا مدخل “برجر الملك” (برجرـ كنج).. ذلك المطعم التحتى الذى اعتدنا أن نتناول فيه “السندوتشات، والبطاطس المحمرة”، تذكرت وعدى لهم باللحم والمرق، فاكتشفنا ـ زوجتى وأنا ـ أن الأولاد قد بروا أنفسهم من ورائنا ـ بفلوسهم، فى فترة الظهيرة التى افترقنا فيها، فأكلوا لحما يليق بالمناسبة (عيد الأضحى). فنظرت إلى زوجتى التى لا تتعرف على العيد إلا إذا ذاقت اللحم المسلوق وثنـّت بالفتة أم تقلية فى الافطار بالذات، نظرت إليها محتجا كالقائل: “علّقونا العيال”. ويبدو أنهم فعلوها نظرا إلى انعدام الثقة فى وعودى؛ الأمر الذى أكاد أفخر به وأعمل حسابه إذ عادة ما أربط وعودى بشروط غامضة، ثم إنى اعتبر حقى فى المرونة جزء لا يتجزأ من أى وعدٍ أقطعه، فاكتفينا بأكل البرجر والبطاطس، وشربنا البارد، وأحسسنا بعيد غريب رمادى فى بلاد الفرنجة.
كان الرفض يتجمع داخلنا دون أن ندرى حتى إذا عدنا إلى السير فى الشانزليزية لنقابل أجناسا وأجناسا. انتهينا إلى ثلة من الشباب يتمازحون ويمرحون ويغنون أحيانا معا أغانى قصيرة سريعة بلغة لم نفهمها، فأفقنا إلى حقنا المشروع فى بلاد كل الناس. اليوم عيدنا نحن ياناس، وقلنا نجرب بما لا يؤذى، فلا عيد بلا تكبير، حتى أن ما تبقى لى من دور “المسحراتى” هو ما اخترتُ أن أقوم به راضيا حين أوقظ أولادى فجر كل عيد بتكبير متصاعد، لا بمنبه يسرسع، ولا بهز مزعج.
تحّرج الأولاد فى البداية من اقتراحى أن نردد التكبير معا بالعربية، احتفالا بالعيد فى الشانزلزية، ثم تشجعنا، وانطلقنا معا جميعاً، وخذ عندك: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا،، والحمد الله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. لا إله إلا الله، وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده.. وأكملنا، وكررنا، بدأنا هامسين مترددين، نردد التكبير والصلوات، بنغمتها المصرية الرقيقة. وحين استقبلنا المارة بابتسام، فإعجاب علا صوتنا رويدا رويدا، وكأننا حصلنا على الإذن فى التمتع بحقنا بالشروط ذاتها، أن نفرح معا علانية، وأخذتنا النشوة، وكأننا نستعيد مسروقاتنا من الزمن الذى تسحب من ورائنا، فسرق منا العيد، فرحنا نمسك بأيدى بعضنا البعض، وجعلنا نتمايل قليلا أثناء المشى مع التكبير، ثم نشطنا أكثر ونحن نكتشف معنى جديدا للفرحة ولمشاركة الناس من كل الأجناس، يشاركوننا فى عيدنا دون استئذان، وكنا نلمح على بعض الوجوه العربية رفضا، ثم حرجا، ثم ترددا، ثم ابتساما، ويلقى بعضهم تحية العيد همسا ثم علنا.
قلبناها عيدا بحق، فى شارع الشانزلزبه شخصيا، ونحن نمسك أيدينا بعضها ببعض.
(انتهى الترحال الأول ويليه الترحال الثانى)
“الموت والحنين”
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل السادس: “لابد من باريس، وإن طال السفر” الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net