نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 27-1-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4531
مقتطف من كتاب:
الترحال الأول: “الناس والطريق” (1)
الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (8 من 8)
(ما زلنا فى نفس الفصل)
………………..
……………….
الاثنين 3 سبتمبر 1984
اليوم نشد الرحال شرقا إلى مونت كارلو، مونت كارلو “البلد” هذه المرة، فقد أشرتُ فى الفصل الثالث إلى مونت كارلو المحطة!!، حين مررنا على مشارفها ليس إلا، و قد كان من أكبر محمسات هذه الزيارة أنها ستتيح لنا الفرصة لنمر على الأماكن ذاتها التى سبق أن عبرناها وأحببناها وحين عبرنا بلدة “البقعة الجميلة فوق البحر” (بوليو سيرمير). ولمح الأولاد الفندق ذا الستائر الزرقاء الذى قضينا فيه أول ليلة وصولنا، جعلوا يحيونه، وكأنهم يحنون إلى جزء من وطن قديم، وكما تعلمت مؤخرا من ممارسة المشاركة فى تقديم أو مناقشة ندوات أدبية أن العمل الأدبى، الروائى خاصة، لا يصاحـَب إلا فى المرة الثانية. فقد تعلمت من تجوالى الرحلاتى، أن المرة الثانية (لا الثالثة) هى أثرى ما يثرى الوعى اليقظ بما يحيط به، وما يصل إليه. فى الأولى المرّة تتلاحق الرؤى، وتقتحم “المعلومات” كيانك بإيقاع “الاستكشاف” و”البلاغ” وفى الثانية تستقبل من جديد ما كدت تعرف، فيلتقى الداخل بالخارج فى عناق إبداعى منعش، وتستطيع أن تنتقى أعمق، وأن تؤلف أعلى، وأن تترك اختيارا ثم لعلك تحذر ـ معى ـ من المرة الثالثة، إلى ما لا عدد له.. حيث قد تتوارى الطزاجة والكشف فى التنظير والتأويل والحكم والوصاية.
دخلنا مونت كارلو، هكذا، نعم “هكذا” جدا، لا شئ إلا علامة ولافتة، وأهلا بكافة بالأجناس من كل مكان، جنبا إلى جنب مع ماهو فرنسى (أو مونت كارلوى). يا ناس، هذه هى فرنسا بالتمام والكمال. العملة، واللغة، والناس، والطباع، والمحلات، وكل شىء، كل شىء، إذن ماذا؟. وأحاول أن أصدق أن هذا بلد مستقل له سيادة، وأمير، وأميرة، وشعب، واقتصاد، وصدقت مرة، وكذبت مرة، وحين صدقت قلت لنفسى، ولماذا لا تكون بلدان العالم كلها كذلك، لا جيش، ولا حرب، ولا حدود ولا يحزنون، ما الذى يحمى هذا البلد “القرية” من الغيلان المحيطة؟ كلمة شرف؟ مجتمع عالمى؟ لماذا لا تجتاحها فرنسا، أو إيطاليا، أو إسرائيل، أو جنوب أفريقيا؟
وحين كنت أتمادى، كنت أفترض أنى فى جزء من فرنسا، لا أكثر ولا أقل، وما هذه المونت كارلو إلا بورسعيد فرنسا، بورسعيد 1948، التى لا أعرفها، فأنا لم أذهب إليها ـ عمدا ـ منذ 1962، كان عزوفى فى البداية: احتجاجا على الاحتلال، ثم أصبح بعد ذلك احتجاجا على الحرية المشبوهة والتسوق الاغترابى، والملابس “البالة”، وقلت ـ بلا جدوى ـ أكف عن مقارنة عاجزة، وأكتفى بأن “أرى” وأتمعن ما أنا فيه الآن: فى مونت كارلو وجدنا بسهولة فائقة مكانا لانتظار السيارة (تصور؟!) واشترينا شيئا ما، من محل ما، لنختبر الأثمان، (وهذه وسيلة نستعملها لدراسة مقارنة للأسعار، نحدد صنفا بالذات، ثم نتابع ثمنه فى مختلف البلاد بعد تحويل العملة، والمسألة هنا سهلة إذ أنها العملة الفرنسية ذاتها)، ولم نجد فرق السعر كبيرا، ومضينا دون خريطة، هكذا مع الناس، وبدا لى أن أغلب الناس هنا مثلنا، لا يفعلون شيئا إلا أن يذهبوا حيث يذهب الناس!!، وفى نهاية الشارع الرئيسى (هكذا خيل إلينا) وجدنا مدخلا إلى مصعد، تصورناه قصرا من قصور موناكو، فتلفتنا حولنا لنرى أى حارس، أو مُوجه، أو مرشد، أو مانع، أو بصاص، فلم نجد، فقرأنا اللافتة الموضحة لما هو، فإذا به مصعد عام، ينقلنا إلى أعلى حيث يمكن أن نتوجه إلى “الكازينو” أو “حديقة النباتات الغريبة Jardin Exotique”. وتصورنا أن علينا أن نقطع “تذاكر… ما” إذ من غير المعقول أن يكون كل هذا الرخام والجمال والنظافة، هكذا، لاستعمال أمثالنا مجانا، لكن أبدا، وأخذنا نمشى فى الممر الرخامى أرضا وحوائط، ونحن لا نصدق، فنلمسها لنتأكد، ولم يكن فى الممر ـ على طوله ـ سوى اثنين أو أربعة غيرنا، حتى كدنا نشك فى صحة طريقنا، ونحن بلا خريطة ولا دليل، نعتمد على الناس، فأين الناس؟ ولم نتراجع؛ فاللافتة واضحة، ونحن فى حالة استكشاف دائم، خاصة وأن الهدف الأول قد أصبح ـ الآن ـ هو التأكد من أن استعمال هذه الرفاهية الملوكية، هو من حق عامة الناس أمثالنا، ممن هم ليسوا كذلك. (أو بتعبير أدق: ليسوا وجه ذلك). وجدنا أنفسنا داخل المصعد الذى هو مثل مقصورة الأحلام، عجبنا ـ للمرة الكذا بعد الألف ـ من فرط النظافة، والتقطت إحدى بناتى قصاصة لا تزيد عن عدة سنتيمترات، وكادت تخفيها فى حقيبتها حتى لاتشوه المكان. فهمتُ كيف أن النظافة تولـّد النظافة، والعكس صحيح، وصعدنا، تهدينا اللافتات إلى اتجاه حديقة النباتات الغريبة”. قابلنا شابا يهبط شارعا صاعدا، وحقيبة ظهره تلهث وراءه، ولكنه سعيد بالنزول الطروب، فسألناه ـ لنتأكد ـ عن تلك الحديقة، فأشار إلى أعلى وهو يمضى فى طريقه، لكنى استزدته استفسارا: ” هل تستأهل”؟.” فابتسم متعجبا، ثم أكد شيئا ما، فى الأغلب يعنى أنها تستأهل، وجعلت أتعجب من سؤالى؟ وبأى مقياس؟ ولمن؟ ما أسخفنى. توكلنا على الله وجعلنا نصعد، ونصعد، لاتبدو للطريق نهاية. فنصعد، ولا يصبرنا على الصعود إلا يقيننا من أننا كما صعدنا سنهبط، ثم نصل إلى حيث ينبغى، ويفضل بعضنا عدم الدخول. ربما لارتفاع رسم الدخول نسبيا، وربما لأن “كله مثل كله”، فينتظروننا فى الخارج يملؤون العين بأبعاد مونت كارلو من أعلى،
يدخل الآخرون معنا إلى هذه الطبيعة الجديدة، فتُكلمنا الطبيعة بلغة متميزة أخرى، لغة تشعر فيها بالتحدى الجميل، ويختلط عندك التاريخ بالحياة الآنية، فهذه “الآثار” الحية تنعش وجدانى أكثر من حكايات مومياوات الملوك ومدافنهم. فأنا حين أشاهد آثار بلد ما أشعر أنى أشهد قدرة الإنسان على مجرد الخربشة على جدار الزمن، أما حين أشاهد فعل الطبيعة الحى المتحدى الآن، فإنى أشعر أننى أمام نموذج مكثف مختصر لتجليات الطبيعة وهى تقرض شعرا حيا ينبض، وقد جمع الإنسان فى هذه الحديقة، مجموعة من نبض النغم الأخضر، فنجح أن يتلاءم مع المبدع الأعظم. إذ أتقن تلحين هذه الصورة التى تعلن بعض تجليات الجمال الحى، فنصلى فرحا وحمدا إذ نقترب أكثر مما “هو” “هكذا” ـ وأبحث عن ذلك أو عن بعض ذلك فى وجوه صحبتى، فأجده قليلا أو كثيرا، وأتيقن من صدق رسائل الطبيعة إلى طبيعتنا، حتى لو عجزنا عن ترجمتها إلى مثل هذا الكلام الذى أكتبه الآن، شريطة أن نحتفظ بمسام وجودنا “سالكة” فكيف ذلك؟
ما زلت أذكر متحف الأحياء فى واشنطن والأرقام بآلاف السنين تحدد عمر هياكل الديناصور بالذات، وما زال منظر هيكل طفل ديناصور عالقاً فى ذهنى حيث لم أكن أحسب أن الديناصور يمكن أن يكون طفلا أصلا. وفى أمريكا بالذات، ناس تبحث عن تاريخها فى تاريخ الحياة، وهنا فى مونت كارلو يواكبون التاريخ مع نبات غريب عريق، ونحن أصحاب التاريخ نغطيه بما لا يليق…
ولكن: أليس لكل شئ نهاية. فلم اليأس والسخط والنعابة؟ قف!!
انتهت زيارتنا لهذا المتحف “متحف نبات الصبار” الرائع من النباتات الحية التى لم تبخل أيا منها أن تهمس لى بتاريخها وصلاتها، ورجعنا إلى بقيتنا خارج الحديقة ينظرون من أعلى إلى كل شئ فى مونت كارلو البلد، أشارت ابنتى تدعونى إلى مشاهدة حمام سباحة ضخم يجاور ميدانا قريبا، وسألتنى هل ياترى هذا حمام عام مثل المصعد التحفة، والممر الرخامى؟. لم أستطع أن أجيب، ولم أستبعد ذلك، ولم أَخـَفْ عليه من القذارة، أو سوء الاستعمال. ألم نتفق أن النظافة تجلب النظافة؟.
رجعنا من حيث أتينا فرحين بالنزول الذى كنا نحلم به صاعدين، فتوجهنا إلى المصعد ذاته وفى نفس بعضنا أننا ركبناه فى المرة السابقة عن طريق الخطأ، أو الصدفة، ولكننا تأكدنا ـ من جديد ـ أنه مرفق عام، ياحلاوة.
توجهنا إلى الكازينو (بمط الياء والواو) وهو نادى القمار الشهير جدا، وكنت عازفاً عن الدخول، فما لى أنا بهذا؟ وماذا هناك يـُرى؟ ولكنى ما إن علمت أن الدخول ممنوع لمن هو أقل من 21 سنة، حتى انتعظتْ قرون استشعارى، فدخلت، وجعلت أنظر إلى وجوه الناس فى صالة الاستقبال فلم أجد شيئا. وما أن دلفت إلى الصالات الأخرى، وقد وقف كل زائر أمام آلة ما، يضع الأشياء ويجمع أشياء (عملات أو ماركات أو ما لا أدرى)، ثم يجمع الأشياء ويعيد الكرة، وكلما كسب خسر، (وقد كنت أعرف ذلك من بعض تعبيرات الوجه)؛ إذ لا تتركه الآلة حتى تبتـلع فى النهاية كل ما تبقى، فيذهب ويستبدل، أو يفك، ويرجع، أو لا يرجع حسب نتيجة التصارع بين ما بقى معه وما يتمتع من إرادة أو أحلام، ولكن مابال القوم لا يلاعبون إلا الآلات. وقد كنت أحسب أن الميسر (القمار) مثل أى لعبة فيه كاسب وخاسر من البشر، كما نشاهد فى السينما، جريجورى بيك، أو تقرأ فى مقامـِـر ديستويفسكى.
لم أتصور أبدا أن اللعبة قد أصبحت بين شخص فرد وبين آلة ملتهمة، وتصورت أن هذه هى النقلة ذاتها التى حدثت فى تطورنا المعاصر، فنحن فى الحياة العامة، وبالذات فى لعبة الحرب الحديثة، لم نعد نواجه بعضنا البعض، ولكن الأضعف منا يواجه آلة الحرب العمياء دون مـُـشغِّـلها، حتى أن هذا التعبير “آلة الحرب” أصبح أكثر ملاءمة وهو يطلق على الفريق المسئول عن إدارة عملية الحرب: من أول خبراء تكنولوجيا رحلات الكواكب حتى جهاز المخابرات (المركزية). قانون الحرب العصرية أن الإنسان الأفقر، والأضعف يخوض حربا محسومة نتائجها أمام آلةٍ “ما”، لا يعرف تحديدا من يديرها. وأتذكر هذه اللعبات التى كادت تنتشر كل يوم عبر العالم ليلاعب الإنسان نفسه بدلا من أن يلاعب إنسانا مثله، تلك التى أصبحت هى الأصل. القاعدة الآن هى “الإنسان ضد الآلة: فى اللعب والحرب”.
كم فزعت حين دخلت مقهى فى لوس أنجلوس، فوجدت به أربعة رواد وأنا خامسهم، وقد جلس كل منهم على مائدته وحده يحرك أزرارا ما فى جنب المائدة، فحسبت أنى دخلت المكان عن طريق الخطأ، وأنه ليس مقهى وإنما سنترال لإرسال وتلقى إشارات خاصة. وهممت أن أعود على أدراجى لولا أن جاءنى النادل وسألنى عن ماذا أطلب؟ فطلبت ما تيسر، لكنه عاد يسألنى وكم من “الماركات”؟ ولم أفهم بداية، ثم اعتذرتُ بأنى لا أعرف هذه اللعبة، ولا أريدها، فانصرف مندهشا. تصور، هو الذى يدهش وليس أنا.
عندنا فى طبنا النفسى نقول على الشخص الذى يكلم نفسه، أو يضحك وحده أنه الشئ الفلانى، فما هذا الذى يجرى من حولى بالله عليكم؟ وحزنت ـ آنذاك ـ على اختفاء معنى “المقهى” الذى كنت ـ دائما ـ أتصور أنه “علاج جمعى وقائى” بالمعنى التلقائى، إذ أن الناس إذ يجتمعون ويتكلمون ويختلفون ويتفقون، لابد أن يتقاربوا فيتواكبوا، فلا يمرضون. لكن يبدو أن الحال قد انقلبت حتى أصبح الواحد يذهب إلى المقهى، ليضع أمامه كأسا يغيب بها عن نفسه، وعمن حوله، أو يقترب بما هو ليس هو، ثم يلاعب نفسه أو منضدته، فى انتظار قدر أكبر حتى تنقض عليه آلة الحرب العملاقة، أو آلة السوق الملتهمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، (كيف؟).
أخذت ـ فى الكازينوو ـ أتأمل استغراق الناس من حولى، فى هذه الألعاب الذاتوية الملتهمة، فتقفز إلى هامش عقلى إجابة لذلك السؤال الملح الذى ما زال يطاردنى، “ماذا يفعل الناس الأثرياء بفائض نقودهم؟” (وذلك بخلاف شراء السُّلطة، والتخزين ورموز التفاخر، وموائد الرحمن). أعنى ماذا يفعلون “شخصيا” بها “شخصيا”؟. كيف يقنعون أنفسهم أنها فعلا أموالهم وأنهم يمكنهم أن يتمتعوا بها أكثر من غيرهم؟ كيف ينفقونها الآن، فعلاً؟ فجاءنى الجواب الآن: “يمكنهم أن يلقوها فى هذه البالوعة الدوامة، التى يمكن أن تبتلع أى عدد من الأصفار بجوار أى رقم ضاق صاحبه بمنظره المتراكم”.
أتصور أن أموال أغلب هؤلاء الأثرياء قد “انفصلت” عنهم بشكل أو بآخر، لم يعد أحد منهم يدرك أن: “عنده ما عنده”، فهو يضطر أن يأتى إلى هذه الأماكن؛ ليحرك قوانين التهديد والتحدى. التهديد بالخسارة، التهديد بالفقر، بالجوع، من ثمّ يوقظ غريزة التحدى للاستمرار ومعاودة الالتهام. هذا هو ما وصلنى من وظيفة القمار: إنها تقوم بعملية التحريك والتقليب والتنشيط لعمليات المكسب والخسارة”. وربما يقوم هذا التحريك، بإيقاظ الأحاسيس الميتة بشكل أو بآخر. وربما كانت الخسارة ـ هنا ـ هدفا خفيا أقوى من المكسب باعتبارها انتحارا تدريجيا بديلا. لكن من ذلك الغول الذى يقف وراء آلة الميسر هذه، أو أى آلة: آلة الحرب، وآلة الاستغلال، وآلة الاستهلاك؟. أهو شخص رمزى، أم مؤسسة تدميرية، أم قانون الانقراض؟ ما هى الفائدة المحددة التى يمكن أن تعود على هذا الغول الخفى، وليس فقط على الإنسان الضحية؟ هل هى جهنم التى لا تمتلئ أبدا؟ هل من مزيد؟.
أنا لا أميل إلى استعمال كلمات لا أُحسن فهمها، مثل الإمبريالية والشمولية والاستعمارية وما شابه، ولكنى أظن أن قوى الدمار فى العالم قد استشرت ولبست أثوابا متعددة، مخاتلة، بحيث يصعب تمييزها. وأحسب أن ميل الميزان ـ مرحليا ـ إلى جانب قوى التدمير والانقراض، إنما يرجع ـ أساسا ـ إلى ما تم تجميعه من تكتلات معرفية متفرقة تحت عناوين العلم والصناعة وأوهام الحرية. مما أدى إلى انفصال جوهرى بين ما هو إنسان السلوك الفردى اليومى، وما هو لحن الوجود البشرى الأشمل، وما هذه الآلات الملتهمة (آلة الميسر، وآلة الحرب، وآلة الاغتراب المعرفى، وآلة الاستهلاك، وآلة المنهج الكمى. الخ)، إلا التجسيد الحى للانفصال والاغتراب جميعا.
فمن يلحق الناس؟
هممت أن أقترب من أحد المستغرقين فى التحدى، أمام آلة لا حظتُ أنها تخرج له لسانها المرة تلو المرة، وهو لا يشعر. فإذا شَعَر وهمَّ بالاحتجاج لــوَّحت له بمكسب تافه يترنح أمامه معتذرا، فإذا به يرتد أغبى من فراشة حول نار حامية، وهكذا.. حتى تأتى عليه، ثم عدلتُ، وقلت لنفسى.. إن روعة هذه الزيارة، هذا “الكازينوو” أنه نموذج مصغر للحياة برمتها، الحياة المعاصرة تتسارع فى اتجاه تجسيد هذا النموذج على مستوى العالم.
أقترب من قاعة أكثر ذهبا وثريات وزخارف، وأجد فئة معينة هى التى تخطو إليها شاهرة السيجار أو الغليون، مرتدية أوجها تاريخية أو سينمائية، مألوفة لى على الرغم من أنى لا أعرف أسماءها، فأقول: هأنت يا ولد بين عـِـلية القوم، وخاصة وأن القوم هنا تعود على العالم أجمع. فادخل يا فتى هذه القاعة ـ أيضا ـ تكتمل رؤيتك، لكنى قدّرت أن رفاقى فى الخارح ينتظرون، ولا يصح أن يطول انتظارهم ، وهم أقل من 21 سنة حسب التعليمات، ورجحت أن الأنسب كان أن يمنعوا من الدخول من لا يزيد دخله عن كذا، أو من لا تقل درجاته فى اختبارات الإرادة والانتماء عن كيت، أو من لا تزيد قوة بصره أو بصيرته عن الشئ الفلانى، ما للسن وما يجرى هنا ؟ لابد للعصر ـ فى السماح والمنع أيضا ـ من مقاييس معاصرة، أما حكاية السن فهى فكرة قديمة باخت، ولم تعد تصلح.
تمنيت وأنا فى طريقى إلى الخارج لو أن من وراء هذه الآلة التى تكسب دائما، حكومة سرية، أسميتها جماعة امتصاص الفائض لصالح البشر، فإنها سوف ترحم الأثرياء ـ يا حبة عينى ـ مما جمعوا كما يمكن أن تسرب العائد إلى قوى الإبداع وحلقات الذكر، ولم أبتسم.
ماذا فعلتْ بى هذه الآلات بهذه السرعة دون أن أقربها؟. لقد أوصلتنى إلى بؤرة اليأس المركزى الذى لا أطيقه أصلا، والذى أشعر أنى لو استسلمت له فأنا لا أستحق أن أختلس نفحة أكسجين أو لقمة عيش أو شربة ماء يستحقها أكثر منى كل من أحب الحياة على الرغم من هذه الآلات وهذه الحاسبات، فانتزعتُنى من تلك البؤرة الساكنة إلى الدوائر المتحركة، فأنظر إلى صحبتى فأجدهم يشاركوننى بعض مشاعرى دون هذا اليأس القبيح، فأطمْئنُ نفسى، وأفرح بهذه الإجابة المؤقتة لسؤالى الحائر، وأشكر الآلات الملتهمة على الرغم من جهلى بالغول الوراءها
فائض النقود (وفائض كل شيء) يذهب إلى آلة عملاقة تديرنا لحسابها إلى ما لا ندرى فى الأغلب، إلى ما لا تدرى هى أيضا، على الرغم من كل المحاولات التفسيرية الاقتصادية الحديثة والشاطرة، على الورق فحسب، لما لا تخافون من الانقراض مثلى؟
نخرج من الكازينو، لنكتفى باللف حول المَعْلـَمِ الثالث فى مونت كارلو، “قصرالأمير”، زوج جريس كيلى. نكتفى بالنظر إليه من الخارج؛ إذ أننا لم نتصور أن يكون أفخم من ذلك المصعد العام، ذى الممر الرخامى، ثم هذا قصر أمير. ابن أمير، ولعله الآن فى قيلولة ناعمة، فلماذا نزعجه بزيارتنا، أليس عيبا هذا؟. فإن لم يكن هناك سُمُـوه، فلا داعى لزيارة الحوائط، يقول أحد الأولاد: إذن، هذه هى مونت كارلو، فنقول نعم، فيرد آخر. إنها ليست إلا حديقة وكازينو وقصر. فأضيف: وناس، ومصعد، وحكمة ملقاة لمن يلتقطها، فلا يفهمنى منهم أحد، ويمضى يسأل بعضهم عن الإذاعة “هنا مونت كارلو: إذاعة الشمس!!. تراللم”. فأسخر وأشير إلى أحد المارة أنه أميجو حكمت وهبى (رحمه الله)، ثم أتذكر ـ فجأة ـ حوارى مع جاد الرب حول اتهامه إذاعة مونت كارلو بالتجسس عليه وإطلاق إشاعات سافلة تعوق مشاريعه الأخناتونية الموحدة، وأقارن ذلك بما انتهيت إليه من افتراض ذلك الغول المجهول القابع وراء الآلات الملتهمة، أين أنت يا جاد، فقد شاركتُـك أفكارك أخيرا من مدخل آخر، وهأنذا أتمادى فى تصور عبادة هؤلاء الناس لهذه الآلات، ضد كل إخناتون، وكل “لا إله إلا الله”، أليست هذه كلها أصناماً؟ ألا يحق لى أن أتصور احتمال تعليق لافتة على كل آلة (فى الكازينو أو فى الحياة) باسمها الأحدث “اللات 85″ ـ العزى 2000” وهكذا؟
فى طريق عودتنا كنا نودع كل شبر نمر عليه، لأننا نعلم أن هذه هى آخر ليلة لنا هنا، ولم يكن ينقصنا إلا أن نمد أيدينا من السيارة نلامس أديم الأرض الذى هو من أعين ساحرة الاحورار: مدد!!.
نكاد نوصى الأرض خيرا بمن يطأها بعدنا فى أىة صورة بشرية طيبة، وترد علينا الأرض والأبنية والشجر والأسيجة أنْ: بالسلامة، فنشكرها،
نمضى لنصل نيس. “فالمدينة الجديدة” ـ فيل نيف ـ، ونوصل الأولاد إلى معسكرهم؛ لأعود أنا وزوجتى إلى الموتيل الجديد الذى انتقلنا إليه مضطرين، وهو أحدث وأرحب، اتفقتُ فيه مع صاحبته على استقبال من أشاء كيف أشاء، حتى الأولاد، وأن يستعملوا الحمّام ليستحموا حمام الوداع، إذا شاؤوا، فالرحيل غدا، من يدرى أين ومتى سنجد الماء الساخن مرة ثانية، وأتذكر كيف كان الاستحمام فى بلدنا للأطفال موسمياً فى الأعياد. كذلك كان أكل اللحم وتنظيف المنازل وخاصة الشُراعات أعلى الأبواب، كان كل ذلك موسميا أيضا!!.
ونتفق على الاستيقاظ المبكر لشد الرحال إلى باريس، فتهفّ علىّ روائحها.
نداؤها خاص، وريحها واعد.
…………..
ونبدأ الأسبوع القادم: الفصل السادس: “لابد من باريس، وإن طال السفر”
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net