نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 9-12-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4482
مقتطف من كتاب:
الترحال الأول: “الناس والطريق” (1) (26)
الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم”
هات شومه يا جدع
واه، واه، يا بوىْ
وانا ادلع الجدع
واه، واه، يا بوىْ
دى “بلدهم” ياجدع
واه، واه، يا بوىْ
أنا قلت لابويا حسنين
واه، واه، يا بوى
أنا عندى فكرة زينْ…
تنطلق المجموعة، وبلا مناسبة ظاهرة كالعادة ، بهذه الأغنية. وتصدر الفكرة الزين من أى من أفراد المجموعة، فنستجيب لها، أو لا نستجيب، ولكننا نتمتع بحرية الغناء، وحرية البدء، وحرية المشاركة ما دامت الخطط المسبقة غير محكمة الإلزام. وتستمر الأغنية تصدح من داخل حافلتنا الصغيرة، تحكى أفكار الصعيدى الذى يحلم بالقفزة الى المدنية (أو المدينة)، أو إلى ما ليس “كذلك” أو ما ليس “هنالك”؛ وذلك بأن يزرع: “الخمس قراريط، بيضا وجبنا وسميطا، ويبذرها دُقة، ويرويها بالزيت..إلخ” ويعلو صوت الأغنية من داخل العربة – على الرغم من أن ذلك ممنوع أصلا فى بلاد الفرنجة، هكذا قالوا لنا فيما بعد – لكننا نواصل فى الممنوع، وكأننا نعلن بذلك عن وجودنا المتميز وسط “أيها خواجات”، فخورين بالنغمة واللغة والروح التى تدفعنا، فنعلن هويتنا دون استئذان. وفى الممنوع، قبل أن نعرف أنه كذلك، ويبدو أنه لم يكن ممنوعاً جداً فـلم ينبهنا أحد إلى التوقف عن الغناء.
كان أتوبيسنا الصغير قد اعتاد الطريق من “فيل نيف “Ville Neuve -المدينة الجديدة ـ إلى نيس وبالعكس، وكأنه يتجول فى طريق صلاح سالم، (آسف…، فقد احتج الأتوبيس، وهمس لى بأنه تشبيه سخيف، وأنه كان أولى بى أن أقول ما بين شاطئ أبى هيف والمنتزه مثلا،).
أرجع بهذه الفكرة (فكرة أن يحفظ الأتوبيس الطريق متى ألفه) إلى أيام كنت أذهب مع أبى إلى الحقل، وأُصر على البقاء معه طول النهار، ويصر هو على أن أرجع للبيت مبكرا قبله لعمل “الواجب” المدرسى، أو “لسبب لا أعرفه”؛ فأدعى، ثم أؤكد:أنى لا أعرف الطريق الى البيت، فيضعنى على الحمار، ويقول لى ألا أحاول أن أوجهه إلى أى اتجاه، وسوف يوصلنى تلقائيا إلى البيت، وأمتلئ غيظا من أبى، ومن الحمار المفسِد لخططى نتيجة ثقة والدى به، أكثر من ثقته بى.
أشد خيط الذاكرة فى هذه المنطقة، أو هو ينساب وحده، فإذا بتاريخى مع وسائل المواصلات التى استعملتـُها طول حياتى يتجلى لى، فأذكر تطور علاقتى بقطار الدلتا ذى الخط المنفرد، والشخصية المتميزة؛ حيث بلغت بى خيالاتى الإحيائية أنى تصورت أنه يأكل الذرة المشوية، والخيار، والعنب، التى كنا نهديها الى محصليه وسائقيه فى مواسم حصادها… (لا تصدقوا حكاية عزومة الشراقوة للقطار فلابد أنهم كانوا مثلى، إحيائيين، لا أكثر)، وقد ظل قطار الدلتا يمثل علامة خاصة فى أرضية وعيى بالحركة وبالناس بما تميز به من صفتين خاصتين: بطؤه المتبختر، وعدم انتظام مواعيده إطلاقا، مثل قصيدة حداثية، نعم، كان قطارا ذا مزاج خاص تماما، تفرق مواعيد رحلاته عدة ساعات تأخير (أو تقديم إذا اقتربت الساعة من اليوم التالى)،
ذات مرة تأخر قطار العودة من زفتا إلى بلدتنا، من الثانية إلى السادسة بعد الظهر، وترتب على ذلك اتهامات من أخى الأكبر: أين، ومع مَنْ كنت؟ ولماذا؟ واحْلِف. وسنى لم يكن يتعدّى العاشرة آنذاك، اتهامات ما زالت ترعبنى وتثيرنى، برغم أنى تبينت بعد سنوات أنه كان يمزح (!!!). أى والله، يمزح،!! أى مزاح هذا الذى يبقى أثره عشرات السنين؟؟.
كان التفاهم وثيقا بين هذا القطار ووالدى، حتى أنه كان يرسلنا قبل وصوله ـ أحيانا ـ لنطلب من إدارة السائق أو ناظر المحطة أن ينتظره؛ حتى ينهى ما هو فيه بالمنزل أو بالحقل. وكان السائق والكمسارى يستجيبان لمثل ذلك بترحيب مصرى، ودى، ،سهل ،
ذات مرة (كان عندى 9 سنوات) طلبت من السائق (الذى يعرف أننى إبن والدى!!!)، والقطار فى طريقه إلى زفتا، أن يطيل انتظاره فى محطة “كفر الجنيدى”؛ حتى أذهب الى منزل أحد الزملاء فى الكفر أستعير منه طربوشا “زيادة”؛ حين تبينت أنى نسيت طربوشى حيث لم أجده قابعا فى الحقيبة المهلهلة. كان الطربوش ضرورة رسمية للسماح بدخول المدرسة، حتى ونحن فى الابتدائى، حتى وسراويلنا قصيرة، فردة أقصر من فردة أحيانا دون أن ألاحظ، أما الاستعمال الاستثنائى للطربوش فهو فى لعب الكرة إذا لم نجد غيره نتقاذفه أثناء عودتنا.
ظلت صورة قطار الدلتا ذى الخط الواحد مرتبطة بذكريات بلدنا بشكل ماثل، وارتبط ذلك بفرحة ومخاوف تتعلق بما هو سوق، وسويقة وسوق بديل، حين يختلط الفرح بالخوف تنتج مشاعر أخرى ليس لها اسم، لكنّها رائعة، كانت فرحتى بيوم السويقة والسوق متواترة وحاضرة، وكان من ضمن ما تتباهى به بلدنا أن بها ثلاثة أيام سوق، سويقة بلدنا الخاصة كل اثنين وخميس، يضاف إليها يوم السبت وهو سوق بركة السبع، حيث يذهب الناس سيرا أو على الحمير فى الأغلب، يتسوقون بيعا وشراء واستبدالا، والبعض يذهب فى قطار الدلتا لكنّه قد يعود ساحبا أو راكبا أو العكس، ولم تكن بركة السبع قد أصبحت مركزا بعد، ولم تكن بلدتنا منوفية أيضا (بعد)، وكان بعض ناس بلدنا، ونساؤها بالذات، تستقرب وتفرش حاجتها على قضيب قطر الدلتا وهى فى انتظاره، وأحيانا يتم البيع والشراء ويوفرون الانتقّال إلى سوق السبت فى بركة السبع أصلا، وكنت أرعب كل سبت وأنا أرى النساء وقد فرشْن أشياءهن على القضيب بالذات، وأتصوّر أن القطار قد يأتى فجأة ويدوسهم، مع أنى أعرف أن كلمة “فجأة” هذه لا توجد فى قاموسه أصلا، وحين كان يأتى القطار كان النساء يهرولن بعيدا، فى دلال، وليس فى فزع كما تبينتُ فيما بعد، وبمجرد أن يمر القطار يهرولن عائدات إلى مواقعهن على القضيب.
حضرنى كل هذا بعد أربعين عاما وأنا أرسم نوعا من زحمة الانفعالات أثناء نظرى فى عيون بعض أصدقائى ومرضاىَ فى العلاج الجمعى، وتجرأت ورسمت الصورة من خلال هذه الذكريات المصوّرة، مع أنى أعرف أنه لا زملائى، ولا أحد من الجيل الأصغر عنده أدنى فكرة عن هذه الصورة التى أسميتها “السويقة”، قلت:
(1)
والنظرةْ التانيةْْ الزحمهْ،
زىّ سويقةْ السبتْ، فى بلدنا.
زى القفف المليانة حاجاتْْ وحاجاتْ،
محطوطهْْ بالذاتْ،
على قلب شريطْْ قطر الدَّلتا.
كلّ ما القطر يصفَّر، بتلاقى الزحمة اتفضتْ.
والقفف السودا النـِّسْوانْْ، بتشيل القفف البيضاَ الملْيَانهَ
حاجات وحاجات.
وَمَّا القطر يعدى: ترجعْْ كومْة القففِ النسوانْ، القفف النسوانْ:
تتلخبط على بعض، كما دقن الشايب.
(2)
أهى نظرة عينُهْ زىّ سويقةِ السبتْ.
فيها كلّ كلامِ الدنيا، وفْ نفس الوقتْْ.
فيها”رغبهْ” على ”دعوهْْ”، على ”إشمعنَى”،
على”رعشِةْ خوفْ”،
على “صرخة طفلْ”، على حَـلَمةْ بزْ،
على “عايزه اختارْ”، و “انا مالى ياعمْ”،
”مش عايزهْ ألمْ”،
على “نِفْسِى أعيش”، “بس ما تمشيشْ”،
”خلينى معاكْ”، “خلينى ْبعيدْ”،
وِاذَا قلت أنا أههْ، أنا جىْ،
يسمعنى كَمَا صُفارة القطر، ويْخَافْ.
وينط كلام العين جُوَّهْ: فى البطنْ،
أو تحت الأرضْ.
وتْلاقى سوادْها وِبَياضها بيجرُوا ورا بعض،
زى النسوان اللى بتجرى بقففها.
وامّا ابعد تانى،
ترجع كل الكلمات الساكته المليانه ألم وحاجات،
و “تعالَى” و “رُوحْ” و “قوامْْ” و “استنَّى”،
”وانَا نِفسى تْقَـرّب .. إٍلا شويةْ”. “طبْ حبّه كمانْ”
”يانهار مش فايتْْ !!، أنا خايفَهْ”،
”أنا ماشْيهْ”.
(3)
والقفف المليانهْ الغلّهْ الكوسهْْ البادنجانْ،
الحُـبّ العطفْْ الخوفْ العَوَزَانْ،
تِفْضَى من كلهْْ.
ولا يفضلْْ غير قضبان القطر.
زىّ التعبان الميتْ.
مستنيَّه السبت الجىْ،
اللَّى ما بــيــجيشْْ.
أعود من رحلة ذكرياتى هذه الى حافلتنا الصغيرة الطيبة، وقد سارت معها المسألة حتى اعتادت الطريق، وأنِست إلى العربات الخواجاتى، وإلى أضواء المرور المنضبطة، وخفة ظل الشاطئ ومَنْ عليه، وسعادة الناس بالناس، وقد زاد انطلاقها وخفتها وألُفتها، بعد أن عملت لها الخدمة الدورية (الصيانة) فى محطة قريبة، فإذا بها أسلس قيادا، وأخف خطوا، وأكثر تلقائية، فأعلم أن نصف صعوبات الجبل كانت نتيجة لإغفالى حاجتها العميقة لهذه اللمسة الضابطة التوازن، والدافعة إلى الانسياب السهل. ويلومنى على هذا الإهمال من أحبوها كثيرا، زوجتى وابنتى منى يحيى، فأعتذر لها أولا، ثم لهما، فتقبل هى، ولا تقبل ابنتى ولا زوجتى.
المهم أننا بعد أربع وعشرين ساعة من وصولنا إلى مقر المخيم على هذا الشاطئ اعتبرنا أنفسنا من أهل الحى، برغم أنف احتكار الناس الفوقيين لهذا “الكوت دازير” ـ والذى أسميناه شاطئ الزير منذ البداية، مسخاً، واعتزازاً، وتذكرة بالزير سالم، ومن يعجبه، نعم..اقتحمناه بطيبة شُجاعة، و آنسناه بما نعرف، فسمح لنا بما نحن فيه، فأين كل هذا الوهم الشائع بتميز رواده إلى “فوق الفوق”؟
حدث حادث فرض نفسه على بداية الإقامة على هذا الشاطىء؛ بحيث جعل هذه البداية لا تخلو من غُصة لها مذاقها المر بثقل خاص. ذلك أنى كنت قد اتفقت مع ابنتى فى الليلة الماضية، أن تمر علىّ فى الصباح الباكر لنذهب الى المطار القريب نستبدل العملة، حيث البنوك العادية مغلقة يوم السبت. واستيقظت كعادتى فى الصباح الباكر جدا، وسحبت أوراقى وكتبى، وجلست فى الحديقة الخلفية للموتيل، والمذياع الصغير يؤنسنى بما لا أفهم، والأراجيح الصغيرة البيضاء “الخاصة” تتحرك بهدوء، أمام دفع نسيم الصباح الحانى، والدنيا فى أجمل حالات الطيبة والتمام، فأجدنى فى أرحب تجليات الحمد والحفز.
حمدُ الله عندى له طعم خاص، ومقياس خاص، وناتج خاص، إذ لابد أن أجد به ومعه توجها إلى فعل مرتبط بكلمة، لها حضور واقعى يُعدُ بأثر باق، إلى الناس وفى الناس، وحين أتعثر أو أتراخى فى الحمد إذ يصدر من شفتى لا من نخاع عظمى، أعرف أنها حالة حمد فاتر لا داعى له، حمد استرخاء مشبوه. حينئذ تبطئ الكتابة ـ مثلا ـ حتى أكاد أتوقف، وباستعمال هذا “الترمومتر” الدقيق، أحاول أن أكون أكثر صدقا مع ربى، فيعود القلم يفرز ما ينساب فى مجراه الدقيق، ثم أصبح أنا والقلم والورق واحدا، فتتجه “الأمانة” الى مستقرها، فأقول لنفسى ـ اقتناعا أو تبريرا ـ : لا شك أنك يا ولد تستأهل “هذا”، ما دمتَ لا تنسى “هكذا”، ما دمتَ لا تتوقف للراحة، أو تتجنب المخاطرة، فأرضى عنه، ويرضى عنى.
يتجسد لى معنى ذلك “الرضا” فيما حمانى ـ حتى الآن ـ من ألعاب الحسابات الغبية والأطماع الخفية، فالغلبة عندى هى شعورى طول الوقت أنى فى “رضا” يجعلنى أغْنَى الناس قاطبة، بغض النظر عن الإمكانات الحقيقية؛ ذلك أنى عودت نفسى ـ مثل المصرى المتمرس على خبطات الزمن ـ ألا “أرجو” ما لا أقدر عليه، وألا أحسب أكثر مما فى يدى.
كم كان طيبا يوما ما، بعد تخرجى وزواجى المبكر، والحالة شديدة الشدة، أن أذهب كل مساء إلى مستوصف شعبى ملحق بجمعية مسجد سيدى نصر ببولاق أبو العلا، أمارس فيه التطبيب العام ـ على الرغم من اكتمال تخصصى فى الطب النفسى. الكشف فى هذا المستوصف كان “بشلن كامل” (خمس قروش) لو سمحت، لا أنال منه إلا ثلاثة قروش ؛ ليصل صافى الحسبة فى نهاية الليلة إلى حوالى الخمسة عشر قرشا بالتمام (بعد المواصلات والقهوة) ـ فأفرح بها فرحة المنتصر الكسّيب، وأشترى أثناء عودتى رغيفين “ملدنين” من الحجم الكبير، بنصف فرنك، ثم بثلاثة قروش باذنجاناً مخللاً بالشطة، وطعميتين كبيرتين، محشوتين بأشياء حريفة لم أعرف ماهيتها أبدا، ويتبقى معى عشرة قروش أعود بها إلى زوجتى، فنتناول عشاءنا بذلك “الرضا” الخاص، وأشعر أنى قد كسبت فى هذا المشوار ما هو كاف لعشائنا.. و.. وزيادة، صحيح أنى كنت محتاجا ـ آنئذ ـ لكل دقيقة وأنا أحضر رسالة الدكتوراه، ولكن صحيح أيضا أنى كنت محتاجا للقروش العشرة، ولأنْ أتناول مع زوجتى عشاء ما، وظللت هكذا أتحرك فى منطقة الأمان هذه ما بين إمكاناتى واحتياجى المنضبط حتى يومنا هذا، مهما كانت الظروف.
وأُرجع تاريخ اكتسابى لهذه “الحسبة” الراضية المُرضية إلى عهد سحيق، كنت أتدبر فيه أمر التعريفة، مصروفى اليومى، فأشترى من عم جمعة (بجوار المسجد الكبير بزفتا، مسجد الرفاعى على ما أذكر) بمليم دومة، وبمليم لباً، وبمليم حب العزيز، وبمليم بختا أختار به طلبين زيادة لو كسبت ثم يتبقى معى مليم للظروف والأدوات المكتبية الترفيهية الزائدة.
وعندما انتقلنا الى مصر الجديدة، أدخلتُ نفسى بعد توفير خمسة أشهر متتالية تجربة سرية ـ وكنت حول الرابعة عشرة ـ لأختبر قدرتى على”ذلك”. إذْ قررت فى هذه السنة (ما يقابل سنة ثالثة ثانوى نظام هذه الأيام) أن آكل طول الشهر بذلك المبلغ الذى اقتصدتـُه خلال خمس أشهر (كان مائة وخمسين قرشا بالتمام) آكل به لمدة شهر كامل، ثلاثين يوما، أى بشلن فى اليوم الواحد، وفعلتها دون تفسير، ممتنعا عن الأكل فى منزلنا مما أثار عجب أمى التى تصورت أنى “زعلان” من شئ ما، أو من “أحد” ما، من والدى مثلا، أو من أحد إخوتى، ولا هذا، ولا ذاك كان واردا، لكنه التجريب والتحدى، ولم أصرح لها ولا لغيرها بطبيعة ما أفعل حتى انقضى الشهر، ونجحت التجربة، وتتعمق معانى الرضا والقدرة معا.
يتكرر الموقف بعد ذلك فى فرنسا (“عمرى 36 عاما” سنة 1969)؛ حين أعلم أن بعض العمال الجزائريين قد لا يتحصل الواحد منهم ـ آنذاك ـ إلا على ثمانمائة فرنك شهريا، يسكن منها، ويرسل بعضها إلى ذويه، ويعيش بالباقى، فقلت: كيف ذلك؟. ولم لا أجرب حتى أشارك، وأفهم؟ فقررتُ أن أعيش شهرا كاملا بمائتى فرنك بما فى ذلك المواصلات (عدا السكن)، وتعلمت من خلال هذه التجربة أن كيلو البطاطس أبا ثلاثين سنتيما لا يفرق ـ فى الطعم ـ عن ذلك أبى فرنكيْن وستين (وإن كنت لم أفهم سر الفرق السعرى حتى الآن). وكان هذا الكيلو (أبو30سنتيماً) يكفينى مسلوقا لوجبتين كاملتين، مع بعض الملح والزيت اللذيْن يعتبران من الرصيد الشهرى الدائم.
من هذا، ومثله، تأكد اقتناعى بأنى أغنى واحد فى العالم، وتعلمت أن الغنى إنما يتحقق بمحاولة ذكية، وليس بالجمْع التراكمى، بالقدرة على ضبط الحاجة على قدر المتاح طول الوقت، ولأننى أعرف كيف “أترك”؟. وماذا “أرجو” ؟. عشت بهذه المعادلة الطيبة التى حلّت لى مواقف بلا حصر، وساعدتنى فى إتخاذ قرارات حاسمة.
حين سترها الله، توارت المشكلة المادية فى خلفية حياتى، ومع ذلك ينقضّ على وعيى، أحيانا،(أصحبت نادرة والحق يقال) ما يشبه التهديد بالموت جوعا، فأكتشف من خلال ذلك أن بداخلى مازال يوجد عمقٌ خفى لم يصلــه ما أكرمنى الله به من ستر. ثم أصبحت مسألة الرضا هذه ـ بعد الستر ـ لا تقتصر على ضبط احتياجاتى فى حدود أدنى من قدراتى الآنية، إذ دخلت فيها حسابات أخرى سخيفة سبقت الإشارة إليها فى هذا العمل، فقد امتدت حساباتى إلى احتياجات الناس، فنغّصت علىّ حقى فى هذه المتع التى لا ينالها غيرى. وراح يعاودنى بنكد شائك إلحاح التساؤل عن شرعية هذه المتع التى جمعت أسبابها بجهدى وعملى شخصيا. لا أنا ورثتها، ولا أنا سرقتها، ومع ذلك كثيرا ما ينغص علىّ استمتاعى بها، ولن أكرر مناقشة هذه المسألة وعلاقتها بشكّى فى قدرتى على التمتّع غير المشروط، فقد كررت ذلك من قبل كثيرا، على أن ما يطمئننى دائما هو أننى حين أسمح لنفسى بالمتعة لا أتفرج، أو أترفه، أو أسترخى،أو أنسى، أو أدعى. ومع ذلك فكثيراً ما أحرم نفسى ـ بغباء ـ من متعة أشتهيها؛ لأسترجع شعورى بما يشعر به الناس، لكنى أكتشف أن هذا عبث وتصنعّ لا يحل شيئاً، و هو حتى لا يبرر شيئاً.
(ثم حدثت خبرة أخرى علمتنى الكثير عن نفسى وموقفى من كل ذلك، فإلى الأسبوع القادم)
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net