نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 25-11-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4468
مقتطف من كتاب:
الترحال الأول: “الناس والطريق” (1)
الفصل الرابع: “الحافة والبحر” (24)
(ما زلنا فى الجنوب: الجمعة 13 أغسطس 1985)
………………
……………..
كان لبعد الأولاد عنا فضل فى مزيد من الاستقلال بما يسمح لى بالحركة التلقائية، فما أن انتصف النهار حتى تسحبتُ إلى الشاطئ المجاور أستكشف وأرى، اتجهت فى اتجاه أشاروا علىّ به بعد السؤال، بعد بضع خطوات كدت أتعثر فى سور جميل من خشب جميل، فترددت، وتصورت أنه شاطئ خاص، لكن، أبدا. دخلت وأنا أتلفت، وفجأة وجدت نفسى فى وسطهم تماما كما كنت أسمع، وأكثر، وكدت أطأطئ رأسى فزعا وخجلا، ولكن كيف سأغفر لنفسى لو أنى تركت هذه الفرصة تتسرب من بين أصابع وعىى. ثم ألست أدعى أنى المغامر الدائم فى اتجاه “ما ليس كذلك”.. وهذا هو أمام عينى. وتقدمتُ وأخذت أنظر فى الوجوه أولا، وجوه الرجال أولا يا سيدى، وعيون الرجال. فعجبت أشد العجب أنها ليست كعيونى، وحاولتُ ـ من باب التيقن- من فرضٍ خطر ببالى: رحت أجرى التجربة فأوصل خطا مستقيما- أو منقطا- بين اتجاه عينىْ أى رجل مثلى، وبين الهدف الذى فى ذهنى. لم يتحقق الفرض. كل الرجال ينظرون إلى حيث يقع نظرهم، لا أكثر، ولا أحْوَل(!) .لماذا أنا أنظر إلى حيث لا ينظرون؟ إما أنهم ليسوا رجالا، وإما أنى مثل الذى عمره لم يأكل لحما، فلما رأى ما رأى..، حدث لعيونه هذا الحوَل الخاص
ما باليد حيلة. لا بد أن أكمل لأعرف ماذا يجرى مما لا أعرف، وكيف تحول هؤلاء الرجال إلى ما يجعل عيونهم عادية فى هذه الأحوال غير العادية، إلى هنا… والأمر لم يتعد اتجاهات العيون. كما أنى، على الرغم من المحاولات الصادقة، لم أستطع غض البصر؛ لأننى كلما غضضت بصرى، (أى أنزلته إلى الوضع هابطا) وقع على “نفس الشىء” أسفل مستوى النظر وهو ملقى “هكذا” فى أشد حالات التمام أو حسب الحالة. ولم يكن ثمَّ احتمال أن أغمض عينى بالكامل. وقد أحاطنى هذا الـ “هكذا” من كل جانب، وهنا زاد تصميمى على عدم الانسحاب. وحتى لو أردتُ الانسحاب مغمضا فإنى سوف أتعثر فى أجساد حية واعية ناطقة عارية حرة، بل “محترمة” غالبا جدا، وساعتها، لا أحد يدرى ماذا يمكن أن يصيبنى من عواقب غير حضارية، أو ماقد أجره على أمّتى من صفات ليس لها ذنب فيها. فرحت أقرص فخذى لأتذكر أننى لست “أمة المصريين” ولا “أمة لا إله إلا الله” ولا “أمة البشر”، أنا لا أمثل أحدا فى هذا الموقف ـ أو أى موقف ـ إلا شخصى، ولم ينفع القرص. فمازلت أعانى من هذه الأوهام بشكل أو بآخر.
قلت: أسهل طرق الهرب هو الاقتحام السريع إلى داخل البحر، وبما أنى لا أعوم، فثمة فرصة للنظر تجاه بلدنا العفيفة الشريفة على الشاطئ الآخر وبالتالى أحوّل النظر ما دام غض البصر لم ينفع. ثم إنه لو تحوّل البصر بالرغم منى نحو الشاطئ الأوربى، فثمة فرصة للغطس مغمض العينين ، أسلم شىء. وفعلا، فاستطعت أن أتوقف وأهدئ أفكارى لأستعيد ما جرى لى بالسرعة الأبطأ.
رويدا رويدا، زالت حدة المفاجأة، وظل الشعور بأن هذا الذى رأيت هو أقل جمالا مما يحسبون، ويحسبن، فلماذا كل هذا العرى، كان أكثر من نصف النساء على الشاطئ قد تخلصن من أى شىء، أى شىء، يستر نصفهم الأعلى، وجعلت أرى أُمًّا لأطفال ثلاثة، وهى تلاعبهم قرب الشاطىء، وتنحنى عليهم، وهى “كذلك”، وزوجها بجوارها، وتذكرت جاموسة جسيمة فى حظيرتنا، تعمل نفس العمل بنفس الطبيعة مع ابنتها، دون أن تثير الفحل إلا إذا “طلبت”، وكنت أفرح من منظر هذه الجاموسه.. تلحس ابنها الرضيع أثناء رضاعته فى حنو بالغ، إلا أن هؤلاء الأطفال الثلاثة- هنا- كانوا قد تخطوا سن الرضاعة. ومع ذلك فثمَّ وجه شبه، أقول: رويدا، رويدا، رويدا (لاحظ: زادت واحدة) كدت أنسى تماما كل هذا الجديد، لأنهن، على ما يبدو، قد نسينه أصلا، ولأن كل من حولى قد نسيه أيضا. وتعجبت- بصراحة- لسرعة تأقلمى هكذا فى أقل من نصف ساعة، حتى رحت أتصور أن هذا الذى يجرى حولى هو أمر طبيعى”لهم” وأن مجرد ستر بعض الأجزاء لا تفرق معهم، بل لعل العكس هو الصحيح. لأن زيف “روافع الثدى” يغطى آثار الزمن “وسوء الإستعمال”، فيضاعف الخداع!!.
ما كدت أعتاد كل ذلك حتى وجدت مقلتى عينى قد استقرتا فى محجريهما مثل سائر الرجال، اللهم إلا عن فتاة فى عز الشباب، قد استلقت فى عز الشمس، على عز الزلط المتعدد أشكاله، فى جمال فائق (أعنى الزلط، ومن عليه) جعلت هذه الفتاة – دون مناسبة عامة !!- تعبث بحلمتىْ ثدييها الواحدة تلو الأخرى، وهنا قلت “لا”. قد يكون عرى النصف الأعلى طبيعيا حسب عاداتهم، وحتى النصف الأسفل، خلِّها تكمل، وقد يكون هذا أقرب إلى جاموستنا الجميلة وابنتها الحلوة، ولكنى لم أر جاموستنا تعبث هذا العبث المثير والخاص جدا “بموضع حساس” مثل هذا، وقلت فى نفسى: الذى يتعرى، يتعرى، هو حر، أما هذا” الاستلذاذ الذاتى الثديى العلنى”، فقد تعدى الحدود، لكن.. أنا مالى؟، واحدة مبسوطة من بعض جسدها الفائر إلى هذه الدرجة، تشبع به.
استدرتُ إلى اتساع البحر الكبير وعاودت حوارى معه، ذلك الحوار الذى يتواصل كل صيف، نفس بحر بلدنا، نفس الرائحة، ونفس الريح، ونفس الهمس، ونفس التحريك، ونسيت الأرضية البشرية خلفى، واتجهت إلى التقاء الأفق بسطح الماء، فجعلت أكمل ما قد بدأتـُه من سنين، وأنا أعتبر العجز عن العوم – جدا- مزية لمن ينزل مثلى ليتعرف على أصله، لا ليمرن عضلاته، كلما نزلت إلى البحر… أخذت أنسحب إلى نهايته، على حد حدسى، لا على حد معلوماتى الجغرافية، فأتراجع فيه إليه، وأترجّـح معه به، وأستشعـر الفرق الجوهرى بين حمام السباحة الغريب عن كيانى، وبين هذا الكيان الحى النابض، وأعتقد أن جُماع حركة الموج من تحت السطح، مع رائحة الحياة الخاصة المنبعثة منه، هو ما يحرك فىّ ذلك البعث القديم لموج داخلى يمتد إلى تاريخ لا أعلمه، وبصراحة، فأنا إذا سئلت من أنت، وإلى ماذا تنتمى؟ ومن أين؟ لما استطعت الإجابة طبعا. لكن إن كان للحركة هوية، وكان للحياة رائحة، وكان للسعى نظام ، فهو إجابتى آملا أن أنتظم موجة فى الكون الزاخر، ومن لم يستطع أن يلتقطنى هكذا فليتصور مجازا نغمة تبحث عن مكانها فى اللحن الأكبر”، لا.. لستُ كذلك، الحقيقة أبلغ من المجاز،
أقرأ مؤخرا (مع مراجعة هذه الطبعة الثانية) فى كتاب” المعنى والأسطورة” (فراس السواح) فأستشعر كيف كان الآلهة “يمزجون أمواههم معا”، الماء بداخلنا يتحرّك ونحن لا ندرى بما يولّده فينا باستمرار.
للبحر رائحة ليست هى رائحة السمك، ولا رائحة العشب، ولا الصخر. هى رائحة البحر. حين تمتزج رائحة البحر بأنفاس مياهنا الداخلية تتولد حياة لا توصف إلا بأنها “الحياة”، امتزاج رائحة البحر مع حركة أمواجه تحفز مَنْ لا يعوم مثلى أن يقفز معها كطفل يلهو، فإذا بها ترفعه وتهبط به، لتسحب حسه إلى سُرَّة الكون، حين أنزل البحر لا أحتاج أن أتذكر إن كنت أعرف العوم أم لا (حتى بعد أن تعلمت العوم على كبر). أنزل البحر لأصافح الموج وأحاور الكون.
يناسبنى أن يكون الموج هادئا أو هائجا، بل إننى أحسست يوما بأن الموجة العباءة هى أحنى علىّ إذا ما كان البحر هائجا، كانت تلطمنى ثم تحتوينى، وكأنها تدربنى على حقيقة “ما ينبغى” إزاء طبيعة “ما يجرى” كانت موجة حنون وفى بحر هائج” حركت شعرى فقلت فيها:
تغُمرُنى، تذوبُ قطرتى ببحرِهَا، أغوصُ فى مَدَارِهَا، تَدْفعَنُى
أتوهُ فى رحابِ صدَها، فَتَنْحَنَى، فَاَنْحَنى لَهَا
تلطمنى، تردَنى،
متى ترانى أمَىَ الحنون؟ أطلْ من تحت الوِسَادهْ. تبتسمْ. فألثم الرذَاذَ والزبدْ.
نسيت فى انجذاب صلاتى للبحر كل ما حولى وخاصة من العاريات اللامعات، وحين انتهى هذا المقطع من حوارى الذى لا ينتهى مع موج البحر والحياة والتاريخ، خرجت منتعشا متجددا، وانتبهت إلى أن الحال كانت لاتزال كما تركتُها. وهل كنت أنتظر أن يتغير شئ لمجرد أننى قد أهملته وتجاوزته؟. نعم تجاوزته حتى اعتدته بسرعة. وجعلت أتعجب أن تُختصر معركتنا مع الغرب إلى المعايرة بمثل هذا النكوص، الذى قد تكون له دلالة خائبة، أو قد لا يكون له معنى أصلا إلا أنه بدعة سرعان ما ستُنسى أو تختفى، هذا ليس هو مربط الفرس، ولا ينبغى أن يكون، إذ يجدر بنا أن ننتبه إلى أن معركتنا معهم أعمق وأخطر من العرى واللاعرى، إنها تتعلق باختلاف جذرى فى موقف كل منا من الكون عامة، وفى هذه الحياة ضمنا، وهو اختلاف يغير طعم الحياة وطبيعة مسارها، من أقصاها إلى أقصاها.
رجعت إلى زوجتى وحكيت لها أغلب ما حدث لى، ومنى، فاقشعرتْ مقدما، أو احتياطيا، فعرضت عليها أن تأتى وتتفرج هى بنفسها، وما راءٍ كمن سمعَ. وأخذت أقنعها أنها فرصة لا ينبغى أن تفوتها. وبعد لأى شديد، وافقتْ على مضض، ومرتْ، ورأتْ، ورفضتْ، وتقيأتْ، أعنى كادتْ وجعلتُ أحاول أن أنقل إليها ما مر بى من أفكار وتحولات، وأفهمها أنها لم تسمح لأى احتمال آخر أن يهز موقفها المسبق، وأذكـّرها بجاموستنا الطيبة و ابنتها الظريفة، ولا فائدة. أما أولادى وبناتى فقد رفضوا أصلا أن يذهبوا. وحين ألمحت أن هذا ربما يكون أمرا طبيعيا بالنسبة لهم، قالت منى يحيى، ابنتى (حيث معنا منى السعيد صديقتها ابنتى أيضا) “أبدا”. فقد سمعتْ من صديقتها الفرنسية التى تقيم فى إحدى ضواحى جنوب باريس (سيأتى ذكر زيارتها لاحقا) ومن أقاربها المقيمين فى مقاطعة “بريتانى” شمال فرنسا، أن مثل هذا العرىْ مرفوض منهم أيضاً، وأنهم يعتبرونه مقزِّزا مثلنا سواء بسواء.
استفدتُ شخصيا من الخبرة بكل ما فيها، على الأقل… فإنى لم أسمح بموقف مسبق أن يحول دون أن أعيد النظر، وأن أعتاد النظر، ثم أن أغض النظر..، وعموما فقد كنت وما زلت أعتبر أنه لا علاقة بين العرى والجنس، بل أحيانا أتصور أن ثمة علاقة عكسية.
استعراض التعرى (الاستربتيز) هو الوحيد الذى سمحت لنفسى أن أقبل الدعوة إليه فى باريس. لم أتحمله أكثر من بضع دقائق وانصرفت قبل أن يتم العرض، شاعرا أنه “ليس بشىء”. لا حرية، ولاجمال، ولا طبيعة، هو مجرد امتهان للجسد البشرى، لأنه “عرى للبيع”، أما هذا العرى النصفى هنا، فهو أقرب إلى الطبيعة والاختيار، وأنا أرفض كل شئ إنسانى للبيع، وأتحفظ ضد كل ما هو ليس اختيارا، ولو بدرجة ما، ونحن نثور ثورة مضرية ضد مظاهر احتمال عرض الجسد أو بيعه، ولا نتحرك – بدرجة كافية – إزاء بيع العقول والكرامة والرأى، مع أن هذا البيع الأخير لا يتم فقط بمقابل دنيوى، بل قد يكون بمقابل أخروى كذلك. أنا لا أتصور أبدا أن الله – سبحانه – قد خلق لنا فكرا لنسلمه لغيرنا بأى مقابل. أيا كان هذا المقابل، وما أخفى الشرك بأنواعه إلا على الوعى اليقظ بلا حدود. نعم أرفض كل بيع.
كم كان نشازا تدهوريا أن أقرأ فى واجهة بعض محال سان فرانسيسكو لافتة تقول: “تفرج على عذراء عارية بدولار واحد”، وبقدر ما حاولت أن أفهم معنى ذلك أو فائدته، عجزت، وجزعت، الجسد البشرى، (والعقل البشرى بعض نتاجِه) أصبح فرجة بدولار، لماذا كل هذه المهانة؟ هذا هو الذى احتاج منى الرفض والغثيان، وليس ذاك العرى الاختيارى على الشاطئ من أم مع أطفالها، ثمَّ بيع آخر لم أقف منه نفس موقف الغثيان، ربما لأنى عشت بجواره مدة أطول حتى ألفته، هو بيع اللذة، لا الجسد. وأحسب – من عمق ما – أن بيع المتعة أكرم عندى من بيع كرامة العقل وشرف التفكير، وأكرم طبعا من عرض الجسد عاريا للفرجة بدولار. أنا لا أدافع عن دعارة معلنة أو خفية، ولكنى أتذكر بعض تأملاتى الطليقة، لا أكثر ولا أقل.
……………
ونكمل الأسبوع القادم
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: “الحافة والبحر” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net