نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 12-8-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4363
مقتطف من كتاب:
الترحال الأول: “الناس والطريق” (1)
الفصل الثانى: “بعد ظهرِ يوم سبتٍ حزين” (9)
(مازلنا يوم السبت: 25 أغسطس 1984)
………..
……….
أعود إلى بلجراد ذات الوجه الحزين، وأسأل رفاق رحلتى إن كانوا قد لاحظوا ما لاحظت على الوجوه الشابة وغير الشابة على حد سواء، فينبهوننى إلى أن اليوم والوقت هو بعد ظهر يوم السبت، وقد بدأت عطلة نهاية الأسبوع، وأغلب المحال مغلقة، ولابد أن الناس إما رحلوا إلى خارج المدينة… وإما أنهم قابعون فى البارات والمقاهى والبيوت . وأصدقهم وأقبل تفسيراتهم المتفتحة، لتصادف حضورنا فى هذه الأيام (السبت/الأحد) الأمر الذى حرمنى من أن “ألتقط” ما هى بلجراد بطريقتى الخاصة حين أحشر وعيى وسط ناسها؛ لأنهل أكبر جرعة من الوجوه والعلاقات والأصوات والتصادمات المفيقة والأدب (أو قلة الأدب) المتميز- ونركن السيارة بسهولة، ونسأل عن فندق نقضى فيه الليلة، فالوقت المقدر ليوجسلافيا كلها لا يحتمل تخييماً، ونحن نريد أن “نعيش العاصمة” (وليس فى العاصمة) يوما وبعض يوم. و لانجد إلا فندقا ذا أربعة نجوم. الحجرة فيه بالشئ الفلانى فى الليلة والعياذ بالله، ويضع كل من أولادى يده فى جيبه، وأكاد ألمح أرقام الآلات الحاسبة وهى تدور خلف الجباه، وأفرح بالنتيجة التى عرفتُها مسبقا؛ حيث كنت قد فضلت مواصلة الرحلة مادام لاينتظرنا هنا إلا “يوم أحد”، خال من الناس والحياة، وقد صح توقعى، واكتفينا بثلاث ساعات فى جولة حرة، على أن نلتقى لنواصل السير على أمل أن نبيت فى أول موتيل يحل الليل علينا بقربه، ورحنا ننسخ اسم حروف الشارعين على الناصية التى سنفترق منها، وكذا أسماء أكبر المحلات المحيطة، وبدأنا الجولة الحرة الاستطلاعية على أن نلتقى فى الميعاد المحدد.
مضيت وحدى – كالعادة- فاتجهت إلى وسط الحديقة العامة التى ركنا بجوارها، فى حين انطلقوا هم فى الشارع العريض يغنون بالفرنسية أغنية بسيطة تجعلك ترقص وأنت تمشى تقول الأغنية:
كيلو متر على الأقدام، يليـّن الحذاء.
كيلو متراين على الأقدام..
هذا يليـّن،.. يليـّن،…. يليـّن،.. الحذاء.
ثلاثة كيلومترات على الأقدام…وهكذا
وأتساءل: أين أغانى العمل عندنا، أليس هذا هو ما يقابل: يا مهوّن هوّن!! كيف تراجعت هذه الأغانى مثل أشياء كثيرة ثمينة. هل معنى قلتها أو ندرتها أنه قد أضيف إلى قهرنا الخارجى قهراً داخليا يحول دون الناس والغناء الجماعى، فى العمل أو فى اللعب على حد سواء؟.
دخلت الحديقة الخالية، حتى الحديقة خالية، مع أنى كنت أتصور أنه فى يوم العطلة، وفى هذا الجو، ينطلق الناس إلى الحدائق. ولم أفهم معنى لخلوّها إلا من رجل وامراة فى منتصف العمر يجلسان غير ملتصقين، وبجوار الرجل زجاجة- نصف ملآنة ونصف فارغة – وبينهما شئ يؤكل (فى الأغلب)، موضوع على ورقة فوق الأريكة، وركبنى تطفـلى فاقتربت أكثر، وقلت أسأل عن اسم المكان الذى نحن فيه، وعن أقرب المعالم الممكن مشاهدتها، حتى لا أغادر المدينة كما دخلتها. وحين اقتربت أكثر حتى لم يعد شك أنى أقصدهما، هش لى الرجل وبش (باليوغسلافى طبعا!!ا)، لكن السيدة- التى كانت تكبره بعدة سنوات- اكفهرّت، وكأنى سأخطف رجلها منها. وما بين جذب الهشاشة والبشاشة، ودفع الاكفهرار، تقدمت وأنا أكاد أدور على عقبى دون تراجع!!، وقلت له: إنجليزى؟English ؟، فضحك وبرطم ورفع حاجبيه بلا أى معنى، وقلت أطرق بابا آخر فتساءلت: فرنساوى؟ Français؟، فأنزل حاجبيه، ونظر إلى ساعته، وزادت بشاشته، فزاد اكفهرار وجه المرأة، وقلت لنفسى: لافائدة، لابد من “سلاح الإشارة”، فأخذت أشير بسبابتى إلى الأرض، ثم بذراعى الاثنتين إلى ماحولى، وإلى الميدان على مرمى البصر، والكنيسة من ورائه، وأردد كلمتى “اسم” name، و”مكان” place، مرة بالإنجليزية، ومرة بالعربية، ومرة بلغة ثالثة لا أعرفها. أنا، ولا هو طبعا، ويبدو أن الرجل قد أعجب بإصرارى غاية الإعجاب لدرجة دفعته للانصراف عن صاحبته المتجهمة (بعد الاكفهرار) متأملا حركاتى وحماستى كأنى كائن قادم من كوكب آخر، ثم يبدو أننى-أنا أيضا- استحليت اللعبة، فزدت إصرارا، وزاد وجه الرجل احمرارا، (ثلاثة أسباب للاحمرار: الخواجاتية، والزجاجة المترنحة بجواره، وابتهاجه بهذا الكائن الغريب الذى هو أنا). وبين الحين والحين، ينظر إلى صاحبته، ويتكلم كلاما كثيرا، وهو يشير إلى شخصى، وتصورت- بشكل ما- أنه يترجم لها ما أقول، مما لم يفهم (!!) ياحلاوة !!.
أحس أن المسألة طالت، وأنى قد زودتها حبتين، فبدأت فى الاعتذار والتراجع تدريجيا (بالإشارة و”البرطمة” طبعا)، لكن الرجل قام متحمسا فجأة، والمرأة تحاول أن تثنيه بلا جدوى، فأمسكنى من يدى، واتجه بى إلى الشارع مترنحا، فتصورت أنه سيُرينى لافتة دالة أو معلما خاصا، أى شئ مكتوب يمكن لـمن مثلى أن يقرأه، ولكن: أبدا، فقلت له للمرة الكذا Place فردد ورائى لفظا كالذى قلته مع اختلاف غير واضح، شيئا مثل: Plaza أو Plasar لست أدرى، ومضى بى أكثر، والتفت يلوّح لصاحبته فخورا بشهامته، رغم يأسها البادى من كلينا، وتصورت أنى فعلت فيه جميلا بالابتعاد عن هذه المرأة، ذات الريح الشائك والحضور الجاثم، ثم يبدو أننا تبادلنا الأدوار فأخذ هو يتكلم بلغة ما (فى الأغلب هى لغة أوروبية؛ لأننا فى أوروبا على الرغم من كل شىء!!!) وهو يشير بيديه إلى الأمام، ثم إلى اليمين، ثم يعد على أصابعه عددا ما، ويئست من إمكان إيقافه، إذ لن ينفع بحال أن أحلف له بالمصحف الشريف أنى لا أريد عنوانا- أى عنوان-، وأنى لاأبحث عن أحد- أى أحد، إلا أن “الجلالة”، فالشهامة أخذتاه، وهات ياشرح، منتهزا الفرصة للابتعاد عن صاحبته أكثر فأكثر، وابتسمت إذ تصورت أنه يستعملنى (مثل رجل بروكسل الكفيف)، حتى إذا وصلنا إلى ناصيةٍ ما بعيدا عن مجال رؤية صاحبته، أطلقَ ساقيه للريح هربا من هذه الورطة “المكفهرة”، الجالسة على الأريكة فى انتظارٍ متربص. لمحتُها تلاحِقُنا بفحيح السخط، حتى كدت أضع كفى على ظهرى اتقاءً لسياط الاحتجاج. وبدهى أن الرجل كان من السكـْـر فى حال. وحين اقترب منى فاحت رائحة الكحول تمام التمام. أخذت أهز رأسى بالإيجاب مع كل إشارة منه أو تأكيد، وأطبطب على صدرى بالامتنان، ثم فتح الله علىّ بكلمة كنت التقطها من محطة بنزين تعنى- فى الأغلب- شكرا (باليوغسلافى!!). وهى “فَــلاَ ” ومما ذكرنى بها أن بعض أولادى قالوا إنها كلمة قريبة من العربية حين نقول استحسانا: “نعم… هكذا..وإلا: فَــلاَ. وما إن نطقتُها “”فلا”!! حتى تهلل وجهه منتصرا، فأخذتُ أرددها وكأنها “كلمة السر”، وأحييه وأحنى رأسى، وأرفع يدى شاكرا (فَالِياً)، وهو يترنح عائدا إلى قضائه وقدَرْهُ القابعة فى عرينها مثل النمرة المهجورة.
على الرغم من أن المنظر كله ليس فيه جديد بعينه، إلا أنه ترك فىّ شيئا طيبا. فلقد أحببت الرجل، ولم أكره المرأة (على الرغم مما وصلنى من عدوانها المزعوم)، ولوكان حُسن النية ذا رائحة، لـشـممتها رائحته تفوح من هذا الرجل طول الوقت، وهو فى أشد حالات الحماسة لمساعدتى بلا أدنى داع، حتى ولو كان الداعى الخفى هو الهرب- بعض الوقت- من قَدَِره المتربص على الأريكة. لم نكن قد أمضينا فى هذا التمثيل الصامت أكثر من بضع دقائق، عدت بعدها إلى الشارع الكبير، فإذا بى ألتقى بأولادى وزوجتى يدورون حول الناصية المقابلة، فهتفنا للقاء وكأننا قد افترقنا زمنا، وكأن أحدنا قد عاد بعد سفرة طويلة، والآخر ينتظره فى الميناء!!. وضحكنا لهذا الشوق المتفجر وسط المشاحنات المستمرة، ويبدو أن ماجذبنى وإياهم إلى تلك الناصية الأبعد كان”حاسة الشم”، وليس فرط الشوق، ولا التخاطر عن بعد (التليباثى)، فقد اكتشفنا أنفسنا بجوار كشك لبيع سندوتشات الهامبورجر بالصلصة والشطة، ودفع كل منا لنفسه ماطلب على ماقُسم واشتهى، ثم افترقنا بسرعة قبل أن تتصادم الإرادات.
صعدت إلى مبنى زجاجى عملاق لا أعرف محتواه أصلا. وإذا بى فى محل من محلات “كل شىء”، و”أى شىء”، وكلها أشياء غالية الأسعار بادية الرفاهية، وقلت: ياخبر!!، “وكأنك ياتيتو ما اشتراكيتو”. أليس هذا هو لافاييت وسامارتان باريس، أو هو C&A لندن، أو جنبلذ نيويورك، أو هو أى محل عملاق فى أى مكان، فأين الشيوعية؟. ومن المشترى؟ ومن أين؟. ولماذا؟ وبدهى أن هذه الدهشة داخلية مسطحة، لأن ثمة سياحاً، وثمة حاجة لعملة صعبة، وثمة أنظمة لا أعرفها، المهم: دخلت المبنى وصعدته دورا دورا، وفى ذهنى أن أفى بما وعدت به أولادى من أن أُحضر “مشمعا” لتغطية أغراضنا فوق العربة، اتقاءاً للمطر، متحديا خيبتهم البليغة فى أثينا حيث عجزوا عن شراء مثله. وعند صعودى جذبنى-كالعادة- ركن الكراريس والأقلام، وأخذت أجمع من الكراريس ذات الرسوم المتحركة على أغلفتها ماراقنى، وهذه المشتريات لى أنا شخصيا، وليست لأولادى أصلا. فأنا أعرف نقطة ضعفى هذه أمام الأقلام الرخيصة والكراريس الطـفـْـلية، بل إن أولادى ـ حتى الآن ـ حين يُحضرون لى هدية تسعدنى لا يحضرون- عادة- إلا كراسا أو مقلمة أو قلما رصاصا ذا سن رفيع، أو ممحاة لا تترك أثرا على الورق. لابد أن أعترف أن وراء هذه الانتقائية الشرائية للأقلام والأوراق، درجة من عدم الأمان تُصوِّر لى أننى يوما ما سوف أعجز عن الكتابة، أو أُمنَع من الكتابة.
حين احتدت أزمة الكراريس فى مصر حوالى سنة 1975، رحت أخزنها برعب شديد وأنا أشعر أنى لا أظلم أحدا بهذا الاحتكار. فأنا أولى الناس بها (بالكراريس)، وتحايلت على ناظرة مدرسة والدة زميلة صديقة، لأحصل على فائض الكراريس عندها بأى ثمن، وما زالت عندى حتى الآن بقية من هذه الثروة، فقد انتهت الأزمة سريعا ولم تعد ثانية.
بل إننى حين أسمع عن وسائل التعذيب فى السجن السياسى، وأتصور نفسى داخله- رغم أنى لا أملك شرف مايضيفنى هناك- أقول لنفسى إنى مستعد للبقاء لأىة مدة، بعدد رزم الورق وأقلام الكتابة التى يسمحون لى بها، وكنت أحسب أن أكبر “تعذيب” لى هو أن يحرمونى من الورقة والقلم، فتظل الأفكار تدور فى عقلى بلا تحديد ولا تسجيل، ولا “آخر” أخاطبه بها وعبـْـرها.
واصلتُ التنقل فى المحل السوق العملاق من دور إلى دور؛ بحثا عن بغيتى الأصلية؛ حيث كنت أبحث عن مشمع لتغطية العربة ليقى ما عليها من أغراض من المطر المحتمل فى أى وقت، وحين وصلت إلى ركن السيارات أحالونى (بالإشارة وبعض الترجمة) إلى ركن المعسكرات. ولما لمحت بغيتى عن بعد، وذهبت أطلبها نظر الرجل المختص إلى ساعته (باليوغسلافى طبعا!!)، ومط شفتيه، وتركنى وانصرف وهو يشير إشارات عاقلة تفيد “المستقبل” على أرجح وجه. ويرتفع حاجباى فى بلاهة، ويبدو أنهما لم ينزلا حتى التقطنى آخر، وأنا فى دهشة ممتدة، كما يبدو أنى “صعبت عليه”، فقال لى بالإنجليزية: “يوم الاثنين” ثم أشار إلى ساعته، وكانت الخامسة والنصف، ففهمت، فتذكرت، وانصرفت وأنا أتأمل صور “الكارتون” على غلاف الكراريس، وأحاول أن أعد الإجابة على أولادى حين يشاهدون شروتى- المعتادة- التى حالت دون وفائى بوعدى حين قبلت التحدى بأنى سأجد الغطاء المشمع المطلوب هنا فى بلجراد. جاءتنى فكرة تعويضية جعلتنى أندفع عدوا إلى السيارة قبل أن يحضروا: أخرجت كيس نوم الخيمة الكبيرة من جرابها، وفردتها فوق ظهر العربة. وأنا متعجل أتصبب عرقا؛ خشية أن يأتوا قبل إتمام المفاجأة. وأخذت أشد أطراف الكيس قسرا من هنا ومن هناك حتى تحقق المراد. وحين عادوا ورأوا مافعلت تصوروا أنى اشتريت المشمع، وحين فاجأتهم باختراعى، أُعجبوا به إلا زوجتى التى تبين وجاهة اشمئناطها حين عسكرنا فيما بعد. فإذا كيس الخيمة قد تمزق من أكثر من موضع نتيجة شدّى له واستعماله لغير ما هو، فلم يعد يصلح للنوم فى أمان من التراب والزواحف، ولم ينتهِ شعورى بالذنب إزاء هذا الذى “أبدعته” إلا حين أصلحتُه بعد حين، وأيضا ربنا ستر فلم تمطر، لم آُختَبر مثل حرّاس المرمى أمام هجوم ضعيف، أو استجابة لآية “اللهم لا تدخلنى فى تجربة”، ولكن لماذا أسبق الحوادث؟.
أعود إلى موقعى فوق العربة وقد انتهيتُ من تنفيذ فكرتى المبدعة؛ وأجدنى أتعجب وأنا أتصور نفسى وأنا أتحدث إلى معارفى عن بلجراد عند عودتى، فأقول لهم إنها: كراسات عادية، وفكرة فاشلة، وكل ذلك هو “أنا”، وليس “بلجراد” طبعا.
قلت أمضى ماتبقى من وقت سعيا إلى مزيد من التعرف على نفسى وعلى ناس بلجراد، على ما قُسِم. كانت المحال قد أغلقت جميعا، فزادت الشوارع فراغا كاد يتردد فيها صوت لم يُطلق أصلا، فزادت الوجوه التى تظهر نادرا، لتختفى سريعا، حزنا على حزن افترضتُهُ ففرضتْتُـه. حاولت أن أمنع نفسى من أن أسارع-كالعبيط- بالربط بين الشيوعية والحزن، ثم إننى شخصيا أحب الحزن أحيانا، بل أفضله كثيراً. الحزن الذى يعلن يقظة الوعى وإدراك الواقع بحجمه وتناقضاته، ولكن الحزن الذى لاحظتُه هنا فى بلجراد، هو حزن فيه انكسارٌ لم يرُق لى، ولم أرحب به أصلاً.
هل هو يوم السبت سبب خلو الشوارع وقفل المحلات؟ أم أنه مزاجى الشخصى. وتلوين ما ألتقطه بأرضية انفعالى الجاهز للهَمِّ المقيم؟.
دخلت إلى قهوة/بار (ولا فرق هناك) على أمل أن أجد ناسا آخرين، ليسوا حزانى، وليسوا منكسرين، فإذا بى فى بركة صمت آسنة. مائدتان هما المشغولتان، لا أكثر، ووراء البار وقفت ثلاث سيدات فى أواخر العمر أو أقل قليلا، وكان حول إحدى الموائد أربعة رجال عجائز، يشربون شيئا أبيض فى أكواب صغيرة، لا هى ممتلئة، ولا هى تفرغ، وأخذت أراهن نفسى وأنا منفرد فى ركنى: متى سيرفع أحدهم كوبه الصغير، فلا يتحقق ذلك أبدا، وكأن السائل ينتقل من الكوب إلى طاسة المخ، مارا بالمعدة بماصّة غير مرئية؛ ذلك أن إحدى السيدات الثلاث تأتى بين الحين والحين لتملأ مالم يُفرغ (!!)، فلا يمتلئ. وعلى المائدة الأخرى، يوجد شاب وفتاة لا يتكلمان، وكأنهما قد أحاطا “بكل شئ”، فلم تعد ثمة حاجة إلى مزيد من كلام، أو كأنهما قد أدركا- لكثرة ما تكلما- أن الكلام لايفيد، أو كأنهما قد اتفقا على يأسٍ مشترك يجمع بينهما بعد أن فقدا أملا مشتركا ما. لمَ هذا؟. لماذا؟.
يدخل رجل عجوز جدا، وحده جدا، ينظر إلى إحدى النسوة فى أبوة حانية، فلا تحضر مسرعة لكنها تبتسم وتحنى رأسها موافقة، ثم تظـل تميل خلف البار، وتقوم، وتضع على صينية غير ظاهرة أشياء وأشياء، حتى خيل إلى أنها تعد وليمة خاصة، ثم ترفع ما أعدت وتذهب إلى العجوز الوحيد، ولا ألمح على الصينية إلا شطيرة خبز جاف، وبيضة واحدة مسلوقة، وكوبا بأسفله بعض من النبيذ الأحمر (على مايبدو)، وملاّحة. أين الوليمة ياربى؟. ويبدأ الرجل فى سكون فى تقطيع البيضة بالسكين، ثم رش الملح فى إتقان صبور..، ثم يذهب يأكل فى هدوء فظيع، تصورتُ معه أنه توفى من زمن، وأن الموجود أمامى هو جسد باهت، وقد ضل سبيل القبر إلى صاحبه (صاحب الجسد) الذى سبقه إلى هناك، لا… ليست هذه يوغسلافيا، ولا بلجراد، ولا سبت، ولا أحد، حرام أن أحكم على بلد، وعلى شعب، وعلى نظام، من خبرة ساعتين بعد ظهر يوم سبت حزين. فخرجت مندفعا أبحث عن أى شئ آخر، ووجدته فى محل “جيلاتى”.
كانت البائعة فيه تتفجر شبابا وقوة، (وقد تعلمتُ من “راكبات الموتوسيكلات” أن عضلات الفتيات هى من الدعائم الجديدة للأنوثة العصرية!!)، وقد وقف بجوارها (خلف “فاترينة الجيلاتى” المتعددة الألوان)، فتى فى فتوتها وبهجتها ذاتها، وهو يضحك، يا سبحان الله.. يضحك!!. وكان “الأيس الكريم” كريما بحق، فقد زحزحت برودته من على قلبى برودة أقسى وأشد، وخرجت عدوا قبل أن يقلبها خيالى غــمّا، ورجعت آفِـلا إلى العربة، فوجدت أولادى سبقونى إليها، وهم يتطلعون إلى كيس النوم فوق الحمولة على سطح الحافلة، وبعضهم قد امتطى ظهرها يعيد تنظيم بعض الأشياء، وهم يتصورون أنى نجحت فى شراء المشمع المطلوب.
ونتفق على أن نغادر هذا الجو الكئيب، وقد رجّحنا أنه سوف يكون أكثر كآبة يوم الأحد، الأكثر إجازة، وأسأل أولادى مرة ثانية عن الحزن الذى وصلنى من الناس هنا، فينكرون درجته ومبالغتى، وإن كانوا يقرنون بعضه بالطيبة والسماحة، فيحكون عن رجل منحهم “فكة” لـلحديث فى التليفون دون مقابل، وحين أصروا على إعطائه المقابل ورفض، أعطوه عملة مصرية متواضعة لـلذكرى، ففرح بها كما لم يتوقعوا، وحمدتُ الـله على حسن استقبالهم، وفرحت لاختلاف الرؤى، حتى تخف الأحكام الشخصية الدامغة. وتصوّرت لو أن واحدا من أولادى الفرحانين هكذا كتب ما رأى، فقد يُــثبت أن اليوغسلاف أسهل ناس، وأكرم ناس، وأطيب ناس.إلخ، فأقارن ما وصلنى بما وصلهم، وأتأكد مما حذرت نفسى منه من زيف وكذب أى تعميم.
ننطلق وقد اقترب الليل، ويصادفنا على الناصية شاب أشقر، هو خواجة مائة فى المائة، إلا أن نظراته إلى أرقام العربة بالعربية لا تمت إلى دهشة الخواجات، ثم إن ابتسامته المرحبة جعلتنا نقترب منه أكثر، وقبل أن نسأله عن الطريق إذا به يحيينا “مرحب مرحب يا شباب، أهلين”، فجاءت كلماته العربية ذات الرنين الشامى بردا وسلاما، ونفرح فرحتنا برفاق الطريق السوريين، أصحاب السيارة المزغردة، ونرد التحية بأحسن منها، ونسأل ويجيب، من سوريا أيضا، ونودعه، ومازالت فى قلوبنا آثار دفء كلماته، وننطلق بسرعة، مغادرين بلجراد، متجهين غربا، حريصين على كل دقيقة من ضوء النهار.
لم يعد الطريق بعد كيلو مترات قليلة طريقا سريعة “أتوستراد”، والعربات القادمة تكاد تتلاصق مثل عربات قطار البضاعة بلانهاية مع اختلاف السرعة، وأتعجب: إلى أين يذهب كل هؤلاء الناس ليلة الأحد؟. ومن أين يأتون؟. نحن نتوجه إلى زغرب، ومنها إلى تريستا بإيطاليا وهذه السيارات القادمة كلها: إلى أين؟ سؤال ليس له جواب بالمعنى الذى أبحث عنه. فقد تصورتُ- بلا داع- أن أى مكان فى هذه الأوروبا مثل أى مكان؛ حيث إن الله لم يبخل بالجمال على أرض هؤلاء الناس طولا وعرضا، فوزعه بالعدل والقسطاس. ولذلك فأنا لا أفهم لم ينتقل الناس من جمال إلى جمال فى نهاية الأسبوع. مع أنه كله جمال!!. أليس عند كل منهم قدر من الجمال يغنيه عن الترحال؟. وبسرعة: أضحك من سذاجتى، لأتذكر علاقتى بحتمية الحركة والتنقل وفاعلية ذلك . أتذكر كيف اكتشفت أن الترحال لا يجددنى فحسب، بل هو يجدد حتى المكان الأصلى الذى غادرته مرتحلا. إن الانتقال فى ذاته هو التغيير المطلوب لذاته، وترحال نهاية الأسبوع عند هؤلاء القوم يكاد يكون مقدسا.
مازلت أذكر أنى قضيت أثناء مهمتى فى فرنسا أكثر من أربعين “نهاية أسبوع” خارج باريس (علما بأن إقامتى بباريس كانت حوالى الخمسين أسبوعا فقط)، وكان دافعى فى بداية إقامتى للخروج “معهم”، هو الأمل فى أكلة “محترمة” بفرنكات زهيدة. فقد كان النشاط الثقافى للمركز الفرنسى الذى أتبعه “مركز المنح الدولية” CIS يهيئ لنا رحلة (رحلات متنوعة نختار منها) أسبوعيا، وكانت حسابات الفاقة تقول إن ثمن خمس وجبات فى باريس (من العيش “الباجيت” الحاف أو بالجبن الكامومبير والبطاطس المسلوقة والتفاح الأرخص من الطماطم) هى أغلى من ثمن الاشتراك فى الرحلة ذات الوجبات الخمس، (زبدا ومربة ولحمة ومكرونة وكازوزة، أو ما يعادلها إلخ). وبمرور الأيام وتكرار الرحلات، فهمت معنى الخروج كل نهاية أسبوع، حتى لو أخذ السفر ذاته نصف الوقت بالتمام، وحتى إذا تعطلت عودتنا عدة ساعات بعد ظهر يوم الأحد؛ بسبب اختناقات الدخول إلى باريس.
…………..
ونكمل الأثنين القادم
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الثانى: “بعد ظهرِ يوم سبتٍ حزين” ( 25 أغسطس1984) (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net