نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 16-12-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4489
مقتطف من كتاب:
الترحال الأول: “الناس والطريق” (1) (27)
الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (2)
(ما زلنا فى نفس الفصل)
حدث تعديل مهم فى هذه الفقرة كان ضروريا حتى يمكن للقارئ متابعة الأحداث، فقد نقلت فقرة استطرادية (ثلاث صفحات) كانت عن خبرة حدثت لى فى نيويورك وبوسطن، كانت سوف تفسد السياق لو تركتها اليوم للنشر فى هذا المسلسل، وسوف أنشرها الأسبوع القادم
……………..
……………..
كنت وحدى فى الحديقة الخلفية للموتيل: أقرأ، وأخطط، وأعلق، وأكتب، وأحمد، راضيا حتى جاء ابنى وابنتى حسب الميعاد، فوجدانى مستغرقا ـ كما تعودا ـ فجلسا إلى المائدة ذاتها، وأنا لا أكاد أشعر بهما، ثم أفقت، فلملمت أشيائى بسرعة، واستأذنت أتركها فى الحجرة حيث زوجتى لم تخرج بعد. وعدت مخفيا سخطى من مقاطعتهم لما كنت فيه “بالذات” (على الرغم من أنهم حضروا بناء على موعد سابق). وانطلقنا سراعا فى اتجاه المطار، وهو لا يبعد سوى ثلاثة أو أربعة كيلو مترات. وما إن قطعنا ما لا يزيد عن مائتى متر، حتى تذكرت ابنتى أن كيسها (حافظتها) ليست معها، وكان بها ما جمعت من كل أفراد الرحلة، من عملات يريدون تغييرها (ما يربو على ألف دولار) فسألـَـتْ أخاها معنا إن كان قد أحضر الحافظة (الكيس) من على المنضدة حيث كنت أجلس حالة كونى كاتبا حامدا، فنفى أنه لاحظها أو التقطها أصلا. فطمأنتـُها أنى أحمل حافظتى الخاصة، وبها ما يكفى للتغيير المطلوب، وأن المشوار لن يستغرق سوى دقائق معدودات، وأننا حتى لو حاولنا الرجوع، فلا سبيل إلى الدوران إلى الخلف إلا بعد حين، وسوف نستغرق الوقت ذاته تقريباً؛ إذا غامرنا لنكمل المشوار، وأنه لا داعى للجزع، وأن الدنيا بخير، وأن الموتيل محترم.. وأن.. وأن…، ومع امتقاع وجهها رحت أتمادى فى الضغط على بدّال الوقود. وأتمادى فى طمأنتها، قلت لها إننا فى بلاد “الأمانة” و “الحضارة” (وكنت أعنى ما أقول على الرغم من خبرتى فى نيويورك)، ولا أحد سيمد يده لما ليس له فى حديقة خلفية، وأنى (هكذا سحبت من لسانى كالعادة) مسئول عن ذلك.
رحنا، وعدنا، عدوا وفرط سرعة، وكأن حافلتنا وفتاة البنك قد تفهمتا موقفنا فتم كل شئ بسرعة فائقة، واستغرقت المهمة كلها مايقل عن عشردقائق، لكن مائدة الحديقة كانت خالية عارية، فرجحت ـ بمنتهى الثقة، أن أكون قد أخذت الكيس مع كتبى وأوراقى؛ إذ لماذا أتركه دون سواه؟. فنبهتنى زوجتى ـ وأنا أبحث فى الحجرة، وأسألها ـ أنى ـ عادة ـ لا أهتم إلا بهذه الكتب والأوراق دون غيرها، مهما بلغت أهمية غير ذلك، وفى كل الظروف، فأظهرت رفضى لهذا الاتهام، لكننى صدقتُها من عمق آخر. المهم أننا لم نجد الحافظة، وهنا بدأت سلسلة من الأحداث والمعلومات، أفهمتنى ما لم يكن يخطر على بالى:
فقد ذهبنا من فورنا إلى صاحبة الموتيل (القط العانس ذات الزوج الحائم) فسألتُـها، ففزعت فزعا مهنيا مناسبا، وبرّأت نفسها وإدارتها ابتداء، وأن هذه مسئوليتنا تماما. وبعد أن اطمأنت إلى فهمنا لحدود حقوقنا، وأننا “نسأل” لا “نطالب”، سألتْنا: هل معنا بوليصة تأمين؟. أو نحفظ رقمها؟. وقلت لنفسى فى تعجب: تأمين؟. تأمين ماذا؟. على ماذا؟ ولم أكن قد نسيت بعد حكاية التأمين المتعدد الدرجات حين أجّرت السيارة اياها فى سان فرانسيسكو، ولكن المسألة هنا لا تتعلق بحادث لا قدَّر الله أوسيارة، ماذا تعنى هذه السيدة ؟ نؤمّن بنقود على نقود؟. ما أعجب ذلك؟ لم أستفسر أكثر، كان دمها ثقيلا حتى وهى تشفق علينا (أو ربما هى لا تصدّق!).
وبدأنا رحلة البحث والتقصى والتعلم والدهشة.
جاءت خادم الفندق التونسية (وقد كنت أحسبها جزائرية حسب العادة، ولا فرق فى هذه الظروف، فى هذه المهن) جاءت، وانزعجت، وأقسمت بطريقة مصرية مألوفة، فقفز الشك إلى عقلى بطريقة بشعة (وقلت: “أقسمتْ؟. جاءها الفرج”)، ثم تمادت وانسابت الدموع والنهنهة (قلت: احتياطيا!!)، ثم راحت تجرى إلى حجرتها تجلب أشياءها، وملابسها الأخرى بما فى ذلك الملابس الداخلية والروافع والجوارب، وتنثرها أمامنا بطريقة متشنجة، وتطلب منا تفتيشها، فرجحت يقينا بعد هذه المسرحية (هكذا قدّرت) أنها هى التى أخذت الكيس بما فيه، وأنه لذلك هى متحمسة هكذا أبلغ الحماسة، مقسِمة أغلظ الإيمان، نائحة أعلى النواح، بريئة حتى الشعور بكل هذا الذنب!!. وأخذت أؤكد لزوجتى أنى أقبل أن تأخذ ما أخذت، لكنى أعترض على محاولتها استغفالنا “هكذا”؛ إذ لو أنها سرقت الحافظة، فكيف ستحضرها لنا ضمن أشيائها وملابسها هذه تعرضها علينا بنفسها لنفتشها (فنجدها!!)؟. إنها ليست ـ فقط ـ سارقة، وإنما هى متذاكية تثير الغيظ والنفور معا. قلت ذلك، وأنا أعدّ نفسى للاستسلام لما حدث. إذ ْ لا جدوى من إضاعة الوقت فى مالا طائل وراءه مما أعرف نتيجته مقدما، وتذكرت انسحاب لسانى حين أعلنت مسئوليتى لابنتى عن هذا الإهمال الذى لا ذنب لى فيه، وحتى لو لم أعد بذلك، فهل كان أمامى خيار، وندمت على ثقتى بأمانة المكان والفرنجة!!، فبادرتُ بإعطاء ابنتى ما يوازى المبلغ الضائع إلا قليلا، خاصة وأنه لم يكن مبلغها وحدها، بل حصيلة ما أراد بقية الأولاد أن يستبدلوه، وحسبتُ أنى بذلك أختصر الحادث إلى خسارة مادية، لحقتْ بى شخصيا، محاولا بذلك تجنب إفساد الرحلة وتعكير الجو العام. لكن الغريب بعد كل ذلك أن ابنتى ازدادت ـ بالتعويض ـ ألما وخجلا، وجعلت تساومنى أن تتحمل النصف، أو حول ذلك (مع أن هذا النصف، هو كل ميزانيتها المستقلة طول الرحلة). وكلما رفضت، تكثف أساها أكثر.
المهم.. عدت بينى وبين نفسى إلى اتهامى للمرأة التونسية (حول الثلاثين، شديدة النشاط، وابنتها الوحيدة فى الخامسة، تلعب فى الحديقة). أخذت أبحث فى نفسى، عن سبب إصرارى على موقفى هذا بهذه الصورة، فاكتشفت أنه ينبع من خبرتى، حول ما سمعته عن الجزائريين فى باريس، ولكنى اكتشفت أكثر من ذلك، أن هذا يرجع إلى احتقارى ـ ضمنيا ـ لذاتى وأهلى العرب دون أن أدرى، وهذا وذاك متضمن فى حماستى، الأسبق إلى تبرئة الخواجات أصلا وتماما، وملأنى هذا الاكتشاف غيظا، سواء صدق تفسيرى أم أخطأ!!. وظلت المرأة التونسية تروح وتجىء، وشكى يزداد فيها، فأقول لزوجتى المترددة فى موافقتى، المتحفظة فى اتهامها: “إبعدى عنى هذه المرأة برطانها العربى الغبى، لا فائدة”.
رحت أتمادى فى التفسير وأردد فى نفسى أنه يكاد المريب يقول خذونى فهى تحضر لنا ابنتها، وإن شاء الله أعدمها إن كنت أخذت حاجة، ثم تعود بعد دقائق تسألنا “هيه.. هل وجدتموها؟”. وكأننا سنجدها فى خلال هذه الدقائق “هكذا”، ويزداد غيظى حتى أقدم على ما كنت أفضل ألا أقدم عليه، ذلك أنى كنت حريصا على ستر هذه الخادمة حتى لو كانت هى السارقة، فمهما كانت الخسارة، فهى من دمى، وربما هى أولى بالنقود حقيقة وفعلا من أولادى، لكن إصرارها واستفزازها وتذاكيها أثارونى حتى اندفعت إلى صاحبة الموتيل أستفسر عن سلوك هذه الخادمة، فجعلت المرأة تجزم بأمانتها طوال مدة خدمتها، وأن صفحتها بيضاء من غير سوء، بل إنها تثق فيها أكثر من زميلتها الإنجليزية، “زميلتها مـَنْ؟”. الإنجليزية؟!”. أين هى؟. لم أكن قد لاحظت أن لها زميلة إنجليزية. صحيح أن ثمة فتاة شقراء رقيقة نحيفة، حول الخامسة والعشرين، تفعل مثلما تفعل التونسية، تذهب، وتجئ، وتنظف، وتسوى، نعم هو هو، العمل ذاته، لكنى لم أتصور أنها خادم أصلا، فضلا عن أن تكون إنجليزية (!!). واكتشفت ـ فى نفسى ـ أنى مقهور من داخل الداخل، لأن العمل ذاته (العمل ذاته !!) إذا قامت به امرأة عربية، سمىت “خادمة”، فاذا قامت به إنجليزية سميت راعية منزل، أو مديرته، أو ماشابه من أسماء جديدة رقيقة، ثم من أين لى أن أعرف أنها انجليزية، وكيف أفترض ذلك، لقد رجحت ـ على أحسن الفروض ـ أنها فرنسية، وأنها ـ لست أدرى لماذا ـ قريبة صاحبة الفندق، وكأنى بذلك أوهم نفسى أنها ليست خادمة مرتزقة وإنما هى تساعد قريبتها شهامة (جدعنة)، ثم لماذا إنجليزية؟ وما الذى يجعل إمرأة انجليزية “محترمة” و..، وشقراء، تتكلم الإنجليزية دون أن تخطئ فى الأجرومية، ما الذى يجعلها تأتى لتخدم امرأة فرنسية فى أقصى الجنوب هكذا؟ أهى آثار بطالة مسز تاتشر؟ أم أن الحال انقلبت دون أن أدرى؟ وأقول إن الدنيا على “هذه” و”تلك”، وإن الناس تختبئ فى ما ترتديه،…إلخ، المهم أنى فرحت بشهادة صاحبة الموتيل لصالح أمانة التونسية، بالمقارنة بالإنجليزية، على الرغم من ذلك، فلم تنتقل شكوكى إلى المرأة الإنجليزية، ولو لتؤكد اكتشافى أن الإنجليزيات يمكن أن يخدمن فى بلاد الغربة مثلنا، وأنهن يمكن أن يسرقن كذلك. وتحتار زوجتى فى منطقى هذا، ويظهر فى الصورة زوج صاحبة الموتيل، وبسبب إصرارى على أنها عانس، أتصوره زوجا مع إيقاف التنفيذ، جاء يمارس دورا جديدا لم أفهمه إلا بعد مدة، فقد نادانى، وأخذ منى تفاصيل التفاصيل باهتمام بالغ، تعجبت له حتى أحسست أنى أمام أحد هواة التقصى الخائبين مثل البوليس السرى الخاص. وذكرتنى نظراته، وما يسجله فى مفكرة صغيرة معه بالتقليد الأبله لحركات المخبر هيركيول بوارو فى روايات أجاثا كريستى الحاذق.
كان من السهل علىّ أن أقارن بينه وبين بوارو.. ذلك أن أحد أولادى قد ترك “هناك” قصة لأجاثا كريستى، رُحْت أستفيد من قراءتها التى تساعد حركة الوظائف البيولوجية، أستغرق فيها حتى “يسهلها” الله علىّ. وكان قد مضى على آخر قصة بوليسية قرأتها، أكثر من ربع قرن، وإذا بى أكتشف أن فى مثل هذه القصص شيئا آخر غير التفاهة، وألعاب الحذق، وإعلان أن الجريمة لا تفيد. اكتشفت من خلال هذه المراجعة، هذا المستوى الآخر من النشاط العقلى الضرورى، لكل من يدعى الجدية والعمق. اكتشفت أن عقلى يحتاج إلى قدر من ذلك “الأجاثا كريستى”؛ باعتباره “ماليس كذلك”، ما ليس جادا محكما، أو عميقا منضبطا. اكتشفت حاجتنا إلى ما نسميه “الكلام الفارغ” أو “السطحى” أو “التافه”، ليوازن تلك الجرعة الأعمق من المعلومات الراسخة ، بل وأيضا ليوازن جرعة المعاناة فى الإبداع القِلقْ. وهكذا اعتبرت أن الإقبال على ما يسمى تافها هو نوع من الاسترخاء العقلى النشط. آنسنى أيضا وأنا أقرأ كريستى من جديد أننى أشارك عددا هائلا من البشر، فى مستوى آخر من متعة القراءة العابرة، التافهة الجميلة. أفضّل التأكيد على كلمة “المشاركة” هنا فى مقابل كلمة “الفرجة”، لا يوجد عمل تصورت أنى أعرفه. ثم اختبرته، بالمشاركة خاصة، إلا وأكتشف أنى لم أكن أعرفه. يستوى فى ذلك وقفتى وأنا أتناول إفطارى (حتى الآن) على عربة يد محاطة بعمال يومية فى طريقهم إلى عملهم، (ياعم حسن، شوية بعشرة، شوية حار، يابو على ، خمسة فلافل، زوّد الشطة وحياة والدك) وكذلك تكرار محاولاتى الإمساك بالفأس عددا من الساعات المتصلة، (وليس لمجرد وضع حجر الأساس!! (أنظر أيضا الترحال الثالث) ـ أقول إنى ـ دائما ـ أخرج بطعم آخر من المشاركة دون الفرجة، وأتصور أن المثقف سيظل “مثقفا جدا”، وفقط، بالمعنى المغترب أبدا؛ ما لم يعرق أياماً متتالية، فى علاقة مباشرة مع عمل جسدى (لا مجرد عمل هواياتى يدوى).
أعود إلى قراءتى أجاثا كريستى مؤخرا، وشعورى بهذا المستوى المشارك مع عقول سريعة ذكية ومحددة الهدف، تؤنسنى وأنا أتمتع بحقى فى التفاهة الرائعة، بقدر متعتى بحقى فى العمق القلق وبقدر ضيقى من تسميع المعلومات الجاهزة. جعلتُ أقارن بين “حركات” “زوج هذه العانس” المخبر الهاوى الأقرب إلى قفزات عبد السلام النابلسى منه إلى حصافة هيركيول بوارو، وأضحك فى سرى. وينصحنى الزوج المخبر السرى بألا يثنينى إبلاغ البوليس واستلام المبلغ(!!) عن مواصلة السعى لاكتشاف السارق وتعرية الحقيقة (ياسلام!!!)، استلام ماذا؟. استلام المبلغ؟.هل يمكن أن أستلم المبلغ دون أن نجده ؟ دون ضبط السارق؟. كيف؟. هل السارق ـ هنا ـ فى بلاد الخواجات يوصل ما يسرق إلى البوليس أولا بأول، ويأخذ نسبته، وينصرف، وحين استفسرت فهمت، ثم تيقنت فى قسم البوليس مما فهمت.
ذلك أننى عرفت أن ما يعنى رجال الشرطة ـ أساساً ـ هو قيامهم بالتعويض ـ بموجب بوليصة التأمين على الرحلة ـ يعطونك مقابل ما ضاع منك ، ولو بالتقريب، على الفور، ثم يحاسبون هم شركة التأمين على مهلهم !!! وذلك حتى لا ينغص الحادث رحلة الضحية أو يعوقها، كذا؟. كذا؟. لكننى ياعم “بوارو” لم أؤمن على الرحلة، ولا على شىء، ولن أفعل مثل ذلك مستقبلا حتى بعد هذه الكارثة ، اللهم إذا تحضّرت رغما عنى . بل إن نصيحة أصدقائى السابقين بأن أستبدل بنقودى شيكات سياحية لم ترُقْ لى أصلا؛ فأنا لا أفهم هذه المعاملات الحديثة أبدا. مهما بدت منطقية، بل إن استعمال الشيكات لا يدخل فى حياتى كثيرا، من باب أننى لا أحترم إلا النقود الصاحية، وحين علمت قديما أن ما نحمل من جنيهات ليست إلا سندا على البنك أو الحكومة فزعت حتى رُفع هذا الشعار المشوّه لأوراق البنكنوت والمشككنى فى قيمتها، كثيرا ما تصورت ـ حتى الآن ـ أن ملعوبا ما يتم، حتى يفصلنا عن القيمة الحقيقية للنقود والأشياء، فننسى، فنظل عبيدا لأوراق وهمية، قال ورقة قال: أكتب عليها رقما، وأوقع، فتصير نقودا، لا ياعم، هذا ملعوب لن أُستدرج إليه لأظل أعرف حقيقة ما أفعل، وهدفه، ومقابِلهُ، بقدر ما يمكن.
أما حكاية التأمين فقد أوضحتُ موقفى منها من قبل، لكنى أظن أنى، من خلال هذه التجربة، تبينت عمقا آخر فى هذه اللعبة ـ لعبة التأمين ـ . تيقنت أن وظيفة التأمين “هكذا” قد تساعد بشكل ما على السرقة، فالكل مستفيد بشكل أو بآخر، أولا: مَـنْ سرق النقود سيصرفها بأقل درجة من الشعور بالذنب، لأنه ضامن أن شركة التأمين ستعوض صاحبها، وفورا. وثانيا: مَـنْ فقد النقود سيستردها بمجرد محضر بوليس، وثالثا: إن البوليس سيرتاح باله لأنه لن يشعر بالتزام ملح للبحث عن السارق ما دامت النقود قد عادت إلى محافظها سالمة. ورابعا: إن شركات التأمين تكسب فى كل الأحوال، إذْ أن عدد السرقات (بما فى ذلك ادعاء السرقة) لن يفوق ـ بحال من الأحوال ـ مجموع المبالغ المؤمّن بها من الكافة. وحين يفوق، بسيطة، ترفع الشركات فئة التأمين من واقع الإحصاء والمستندات،
(ياحلاوة!!) تشجيعٌ هو على السرقة إذن!! تحت عنوان التأمين والذى منه، خطر ببالى، أيضا، أن من مصلحة هذه الشركات أن تزيد السرقات قليلا، وأن يتحدث عنها الناس كثيرا.فيزيد عدد المؤمنين بالتأمين حتما.
…………………
ولكن ليس كل الخوجات هكذا، وعلىّ ألا أبالغ فى التعميم، وذلك أن أحد نزلاء الموتيل حيث فقدنا الكيس، ظهر ـ فجأة ـ ليتبرع مشكورا بشهادة مفصلة، ويتبرع ـ أيضاً ـ أن يذهب مع ابنتى إلى البوليس، فيضيع ساعات بأكملها، لعلها هى كل ما أعده للفسحة، هو وزوجته، فعلاها بنخوة لا أنساها. فذهبا للبوليس، وذكر الرجل فى شهادته أنه رأى طفلة ذات خمس سنوات، وهى تتناول الكيس الجلدى من على المنضدة، وأنه ظن أنه ملكها، أو ملك أهلها، وأخذ يصف الكيس والنقوش الفرعونية التى عليه وصفا دقيقا لم نكن نعلمه لا أنا، ولا صاحبته (ابنتى). وصف كل ذلك بمنتهى الدقة على الرغم من أن رؤيته لكل ذلك، قد تمت من شرفة الدور الثانى، وكان شابا طيبا رائع الملاحظة واضح المنطق، سلس الترابط، وما إن سمعتُ شهادته تلك حتى أحسست بدش بارد يكاد يغطينى من خارج ومن داخل حتى لا أكاد أرى أو أفكر، بل إن صدرى ضاق بى حتى ثقل تنفسى خجلا وخزيا من سابق اتهاماتى للمرأة التونسية بالذات، وحاولت أن أتجنب نظرات زوجتى العاتبة تؤاخذنى على حماستى العدوانىة التى أصرت على اتهام المرأة التونسية، ولم أستطع أن أفصل فرحتى ببراءة مظلوم من اختلاطها بهذا الكم من الخزى والشعور بالذنب، صحيح أننى تجنبت أن أوجّه أى اتهام مباشر إلى بنت العم هذه لكن داخلى أنا أدرى به، ولا جدوى من إنكار دلالات سوء ظنى هذا. وقد طردت كل فكرة اعتذار أو هدية تعويض، لأنى أحسست أنها ستزيد من الإهانة، لكن عندك، لقد شاركتنى هذه المرأة التونسية اتهامها لنفسها بفرط دفاعها العصبى الغريب، إذن فأنا لم أتهمها وإنما اتهمت نفسى، بالقدر ذاته الذى اتهمت هى به نفسها، وإلا فلماذا لم تفعل زميلتها الانجليزية مثلها؟، إذن، فأنا وهى، والاستعمار، والدونية شركاء فى “احتقارنا”، فأخذت أمسح وجهى وأنفض سروالى.
حركت هذه الشهامة التلقائية من هذا الخواجة الشهم، شهية المخبر الهاوى “تقليد” السيد بوارو زوج المرأة القط العانس، فأخذ يعيد سلسلة الأحداث، ويرتبها، فيتذكر أن والدَىْ الطفلة من مارسيليا، وأن سيارتهما فولكس فاجن، وأنه لا يعرف رقمها. (إذن ماذا؟) ثم يسب أهل مارسيليا مرة، والنزلاء الطيارى مرة، وبدأت أضيق به وبالحكاية كلها فقد علمتُ نهايتها منذ بدأتْ، وبلغَ رفضى له أقصاه حين جاءنى يتسحب وعيناه تتلفتان يمينا ويسارا ثم يهمس لى، وكأن أحدا سوف يسمعنا، قائلا: إنه ـ أحيانا ـ ما يجد الأطفال شيئا ثم يلقونه هنا أو هناك، إهمالا أو خوفا من قادم، وأن ذلك يعنى أن الكيس قد يكون ملقى فى أحد جوانب الحديقة، وامتلأت غيظا على غيظ، فقد كنت قد أنِست إلى اليأس، ورضيت بالاعتذار لما ألحقه فكرى ببرىء، وقلبت الصفحة نهائيا، وحين قلت له ـ ردا على إغاظته هذه ـ أن يقوم عنى بهذا البحث فى الحديقة، وله الحلاوة! مط شفتيه، وجعل ينبهنى ألا أسكت!! فجعلت أسأله: أليس هذان المارسيليين فرنسيين؟ ألم يسجلا عنوانهما فى الفندق ؟. أم أن مارسيليا فى قارة أخرى؟ قال: نعم.. هما كذلك، فأبديت عجبى من مستوى الخلق الفرنسى الذى يسمح لعائلة فى سياحة أو إجازة أن تأخذ ابنتهما ما ليس لها بما يفسد خلقها فى هذه السن، وكان أولى بهما أن يسلما ما عثرت عليه البنت إلى مديرة الفندق فى حضورها لتتعلم، وما كان أسهل عليهما أن يكتشفا الكيس الغريب من النقوش الفرعونية أو الأوراق العربية ليعرفا أن صاحبه مصرى أو عربى من نزلاء الفندق، وإذا بالسيد بوارو العجيب يضحك حتى يكاد يستلقى، ثم ينفخ الهواء من بين شفتين مضمومتين (حركة فرنسية مشهورة)، ويحرك حاجبيه فى امتعاض ساخرا ليقول بكل هذه اللغات إنه “كان زمان” “بـَلاَ فرنسى بلا دياولو”!! “كلهم لصوص”، ولا أحد يمكن أن يثبت شيئا بعد أن يتخلّصوا من الكيس ويكتفوا بمحتواه، قالها وكأنه يوصينى ألا أثق فى خواجة أبدا، وألا أحمل نقودا بعد ذلك، وألا أصدق زميل طريق، وألا.. وألا…،
ماهذا ياسيدى؟ سياحة هذه أم لعبة عسس ولصوص؟. ملعون أبو هذه حضارة وتقدُّم اذا كانت نهايتهما أن نسير نتلفت حولنا طول الوقت هكذا، إذا كانت سوف توصى أن نودع ضمائرنا وعلاقتنا الحميمة فى أدراج البنوك، وملفات شركات التأمين، وسجلات مكاتب المحامين. رفضتُ كل هذا، وأخذت أسترجع من جديد ما سبق أن خبرته من ضروب الشهامة الخوجاتية، من إرشاد هادئ، إلى تعاون مخيماتى..، إلى بسمة حقيقية، فمنعت نفسى أن أتمادى فى السخط والتعميم لمجرد حادث سرقة عابر، أنا لست مثل هذا البوارو المزيف ، لقد شاركتُ ـ شخصيا ـ بإهمالى فى حدوث ما حدث، وكلام كثير من هذا…
فى المساء يفاجئنا الأولاد بدعوة تعويضية على العشاء حيث يخيمون، وقد أعدوا الحساء بطريقة أخرى، ثم “سبَّكوا” المكرونة، وصنعوا سلاطة الفواكه، ويصرون ألا ندفع نصيبنا فى العشاء، لا زوجتى ولا شخصى (كان نصيب كل منا ما يعادل ثلاثة دولارات، لا أكثر) وكفى ما دفعناه بعد الحادث. وسررنا بهذه المبادرة سرورا خاصا، وحمدنا الله حمدا كثيرا.
فجأة، ونحن نتناول العشاء نحاول أن نبتلع ما حدث مع ما نأكل تقول ابنتى “منى” فى صوت واضح، تقول وكأنها تعلن قرارا حاسما نهائياً: “..لا…لن أهاجر”. ولم أستطع أن أتذكر لأول وهلة متى حدثتنى ابنة العشرين هذه عن احتمال هجرتها، ولا إلى أين، قلت لها إن “الطيب أحسن”، ولكن ماذا غيـّر رأيك؟ (ما دامت قد أعلنت قرارها بالنفى فقد كان رأيها الأول هو العكس!)، قالت “هذه السفالة، أولاد الذين هؤلاء؟!” ألا يشعرون..؟ لنفرض أن حضرتك لم تكن معنا.. أو أنك لم يكن معك ما يكفى، ألا يتصورون ماذا يعنى أخذ أكثر من ألف دولار من حافظة صغيرة لمجموعة صغيرة من الأولاد والبنات مثلنا؟” شعرتُ بألمها، وفرحت أن نبَّهَهَا الحادث لخطورة استسهال القرارات والأحكام، وتذكرت ـ حينذاك فقط ـ متى ذكرت ابنتى هذه موضوع الهجرة من قبل؟.
كان ذلك حين أحاطت بنا النظافة ومظاهر الاحترام والانضباط فى أكثر من مكان ومناسبة، وقارنتْ هى ذلك بعكسه عندنا، فى أكثر من مكان ومناسبة أيضا، وقد كان ردى دائما على هذا شبابنا المتحفز لترك الجمل بما حمل، أنه : “إذا كانت بلدنا سيئة، فلنبق لنـُـصلحها، أم أننا سنقوم باستيراد مواطنين صالحين جاهزين لذلك، وإذا كانت حسنة، فلماذا نتركها؟”. ويبدو منطقى سليما، لكنى لا أتحمس له.
تكرر هذا الموقف مع أخيها الأكبر محمد بعد ذلك بأكثر من عشر سنوات فقد هاجر فعلا هو وزوجته وإبنه وابنته إلى نيوزيلاندا وبعد عام ونصف عام تبين أنه لا ينتمى، ولن ينتمى إلى هؤلاء الطيبين المنضبطين، تأكد أنه ذهب إلى غير مكانه، أنهم ليسوا هم، وعاد بعد أن أرسل إلى حافظ عزيز صديقه يقول له أن والده (أنا) على حق فى موقفه من الحضارة الغربية وأشياء أخرى، لكنّه أضاف لحافظ بأنه لا يعرف بديلا.
ولا أنـا أعرف بديلا . لكن ثم بديلا حتما.
وأهمس لنفسى متعمـِّدا ألا أسمعنى، حتى أنا، أخشى أن أسمعنى وأنا أسألنى:
ـ وأنتَ؟. متى تتركها؟.
فأجيب:
ـ حين يخنقون الكلمة فى صدرى فلا أستطيع أن أساهم بإعلان ما أرى، ثم يحولون بينى وبين ناسىِ
ويلسعنى كسوط خفى ذلك الجواب السريع؛ لأعترف مرغما أن هذا استسهال أخبث، وأتوقف عن الحوار الداخلى.
أحمد الله على السرقة وآثارها.
لكننى أشعر بثقل يملؤنى، هأنذا أعانى من نكسة سريعة وأنا أختبر قدراتى فى مواجهة كل هذا، وكأنى مسئول وحدى عن تعديل الكون، وإرساء قواعد حضارة جديدة، تستوعب كل هذه الحضارة المادية وتتجاوزها. هذه الحضارة (المادية: فى الشمال شرقه وغربه) قد شاخت واستتبت. أتعجب لتراخينا فى مواجهتها، والألعن أننا نواجهها بأن نكون الوجه الأقبح لها.. تحت عناوين دينية خالية من كل تكامل متجاوز.
يزداد يقينى أن مافعلته شركات التأمين، من حفز إلى السرقة (بضمان تعويض المسروق، ومكسب السارق). وما فعلته القوانين بالحفز إلى خرقها بالعنف الدموى… الخ. ماهو إلا الصورة الأخرى لما فعلته مناهج البحث العلمى الجزئى بتأكيد الاغتراب عن جوهر المعرفة، وهو هو ما فعلته قوانين السياسة الأحدث بتبرير الحروب والقتل عن بعد، أشياء كلها تبدو لأول وهلة: تنظيمية حديثة، ولكنها فى واقعها تعلن أن الإنسان لم يعد يثق فى نفسه، ولا فى جنسه، ولا فى شئ، فوضع كلاما على ورق، يتصور به أنه بديل عن الانتماء لـلحقيقة المطلقة، للقاسم المشترك الأعظم، للحن الأساس، لله، للبصيرة اليقظة؛
الكلام على الورق مهما بدا جميلا ومنمقا فإن المكَّلف بتنفيذه ليس ورقة ضمن الأوراق.
(ونعود الأسبوع القادم إلى الجزء المحذوف استطرادا، وفيه تعرية أخرى لهذه الحضارة ولكن عن ذكرى عابرة فى نيويورك).
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: “أغنى واحد فى العالم” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net