نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 28-8-2022
السنة الخامسة عشر
العدد: 5475
مقتطفات من كتاب: “الطب النفسى والغرائز (1)” [1]
الباب الأول: “غريزة الجنس”(من التكاثر إلى التواصل) [2]
الفصل الخامس
الانحراف الجنسى [3] (2)
………………..
………………..
الفرض ص 75 (من جديد)
لكى يتحمل الإنسان آلام وصعوبة التواصل بينه وبين إنسان آخر، تحولت الغريزة الجنسية، بشكل مباشر، وغير مباشر، لتكون دافعا إلى مواصلة السعى فى اتجاه الآخر، بدءا بفرد من الجنس الآخر، يتواصلان ليحققا نوعية “الوجود معا”، أى ليؤكدا كينونتهما فى حالة وعى تبادلى، يميز الإنسان خاصة، أملا فى أن تمتد هذه المهارة الأعمق- مهارة التواجد معا لهما معا- إلى من بعدهما حسب مختلف السياقات ودوائر التواصل وامتدادات الوعى.
وقد وجدتُ أن هذا الفرض قد يبرر تعميم فرويد لوظيفة ما هو “ليبيدو”، كما وجدتُ أنه يمكن أن يـَـثـْـبـُـت~ ليس بتحقيقه، وإنما بتصور نفيه، بمعنى:
إن لم يكن الأمر كذلك، (أى إن لم يصح هذا الفرض)، فما لزوم هذا الدافع الجنسى طول الحياة، طول الوقت، إذا كانت ممارستان لكل زوجين كافية لاستمرار النوع للحفاظ على هذا العدد الحالى من الأحياء؟
ثم هاهو التلقيح الصناعى يقوم باللازم وكأنه يذكرنا بإمكان الاستغناء عن الرجال فى الجنس إذا توفر العدد الكافى من بنوك الحيوانات المنوية “السوبر ذكية” “والمبدعة” بمبالغة ساخرة أو حسب الطلب!!، ثم -مع التمادى فى السخرية – قد تنجح تجارب الاستنساخ المبدئية فيتحول العرض إلى إمكانية توصيل الأطفال إلى المنازل دون حاجة إلى ذكور أصلا، وربما دون حاجة إلى إناث مستقبلا وتكتفى المرأة بطلب من تشاء من أطفال (ديلفرى)!!)، ويتمادى الخيال السافر المرعب الخطير إلى إمكانية إنتاج نوع من البشر “سابق التجهيز”، فما لزوم غريزة الجنس إذن؟
من هذا التسطح الخيالى الساخر يمكن أن نخرج باستنتاج تال يقول:
إنه إن لم تكن للوظيفة الجنسية هذا الدور التواصلى لحفز الإنسان أن يواصل السعى إلى الآخر، فهى سوف تضمر أو ينقرض البشر،
ثم نخطو خطوة متأنية لننظر للإشكال من بعيد متسائلين:
هل التواصل الحقيقى العميق بين البـشر هو بكل هذه الصعوبة التى تحتاج لكل هذه الدافعية، وهذه الرشاوى اللذية؟
وقبل أن نحاول الرد نقول: لابد من الاعتراف ابتداء، ومكررا، إن الإنسان لا يكون إنسانا لأنه حيوان ناطق أو حيوان ضاحك، أوحيوان اجتماعى أوحيوان مفكر، ولكن:
يكون الإنسان إنسانا إذا هو مارس وجوده فى رحاب وعى بشرى آخر يمارس نفس المحاولة، ليواصلا معاً…. إلى باقى من حولهم من البشر والأحياء والطبيعة امتداداً لمسيرة التطور التى نعرف بدايتها ولا نستطيع أن نجزم بمنتهاها!.
ويحتاج هذا التوصيف الأخير إلى إيضاح فنقول:
إن الوجود مع الآخر ليس مجرد امتلاك، أو استعمال ظاهرى، أو سد حاجة عابرة، مع أن كل هذا وارد، ولكنه هو ما يميز الإنسان تحديدا بوعيه الفائق، وتواصل تطوره المتاح، مع قرين: “إليه”.
إن التواجد مع الآخر هو “إعادة التخلق” من خلال احتواء وعى مخالف ثم الانفصال عنه مختلف التشكيل نتيجة لصدق الحوار على مستويات متعددة:
(مستوى الجسد = الجنس،
مستوى الوعى = التواصل،
مستوى الامتداد = فى ثقافة مشتركة
مستوى التشكيل = الإبداع المنجز + التلقى المبدع([4]) إلى غـَـيـْـب مفتوح النهاية….إلخ) فهو: إبداع الإيمان.
وواقع الحال يقول إنه يكاد يستحيل، فى حالة “الوعى الفائق” أن نفصل أيا من ذلك عن غيره، مع قبول غلبة إحدى هذه التجليات عن الأخرى حسب اللحظة والقدرة، والسياق.
وما أصعب كل ذلك، وما أحوجه لدافعية قصوى، ولمكافأة لذّيــة مناسبة، لعلها تتمثل فى الوظيفة الجنسية بأبعادها الأشمل.
إعادة تعريف الانحراف الجنسى
واضح أن هذه المغامرة بوضع هذا الفرض السابق ذكره الذى يحدد تطور الوظيفة الجنسية، يعرضنا لأن نزعم أن أية ممارسة غير ذلك، ما لم تكن تمهيدا لذلك أو طريقا إليه، هى نوع من الانحراف الجنسى بشكل أو بآخر.
ومن البديهى أن هذه مبالغة لا يمكن التسليم لها.
ولكن، حتى إذا تنازلنا عن الشكل المطلق لهذه العلاقـة فإن الاعتراف باحتمال صدقها مُلزِمٌ بالسعى نحوها، أو على الأقل بوضعها فى الاعتبار ونحن نعيد النظر فى ماهية الانحراف الجنسى قائلين:
يعتبر انحرافا جنسيا كل استعمال للجنس، دون الوفاء بمواصفاته الإنسانية الأحدث حتى يؤدى وظيفته البشرية.
ولنبدأ ببعض صور ما كان يسمى انحرافا من قديم:
(1) فالجنس الذى يكون الألم فيه أكثر من اللذة أو بديلا عنها أو تشويها لها مع وجودها، بحيث يكاد يصبح – فى النهاية- فعلا طاردا لا جاذبا لأحد أطراف من يمارسه: هو انحراف من حيث المبدأ (مثل المازوخية Masochism مثلا).
(2) والجنس الذى يحل فيه الجزء أو الرمز محل الشخص كله، مثـلما يحل عشق كعب القدم (أو الحذاء، أو بعض الملابس الداخلية) محل الافتتان بالجسد كله فالشخص كله، يعتبر انحرافا (الفيتيشية أو التوثين Fetishism)
(3) والجنس الذى يتحقق مع غير البشر (مثل الجنس مع الحيوانات Zoophylia ، أو الجثث Necrophilia، أو مع الأطفال الصغار Pediphilia، لا يؤدى وظيفته التواصلية السالف الإشارة إليها (وطبعا: ولا التكاثرية)، وبالتالى يعتبر انحرافا.
(4) والجنس الذى لا يحتمل أن يحقق وظيفة التناسل ويكتفى بوظيفة التواصل اللذى أكثر أو فقط، يعتبر انحرافا (أنظر بعد: الجنسية المثلية)
(5) والجنس الذى لا يرتبط بآخر إذ يلغيه أو يستعمـله مسقــطا عليه ذاته لا أكثر (أى أنه يصبح نوعا من الاستمناء من خلال آخر) يعتبر انحرافا (وإن كان يصعب اكتشافه).
(6) والجنس الذى يمارس عن طريق القهر بأنواعه ضد كل مستويات الإرادة يعتبر انحرافا يشمل ذلك:
القهر الشرعى حتى بوثيقة زواج،
والقهر العضلى والإجرامى بالاغتصاب،
والقهر السلطوى والمادى بالرشوة والدعارة،
والقهر العاطفى بالغرام واللذة.
(كل هذا يحتاج لعودة تفصيلية!! وأحيانا تسمى بعض صوره القهر المؤلم بالسادية Sadism).
(7) والجنس الذى يمارس منفصلا عن لغة الجسد، وكأنه مجرد وسيلة ميكانيكية مبرمجة لخفض التوتر يعتبر انحرافا
………………..
………………..
(ونواصل الأسبوع القادم)
_______________________________
[1] – يحيى الرخاوى، كتاب “الطب النفسى والغرائز (1) “غريزة الجنس” (من التكاثر إلى التواصل) و“غريزة العدوان” (من التفكيك إلى الإبداع) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2022)
[2] – تحديث محدود لمحاضرة “الغريزة الجنسية” ألقيتها فى منتدى أبو شادى الروبى (15/12/1998) ضمن نشاط محاضرات لجنة الثقافة العلمية: المجلس الأعلى للثقافة.
[3] – يحيى الرخاوى: “إعادة قراءة فى مصطلحات شائعة، قراءة مصطلح الانحراف الجنسى” مجلة الإنسان والتطور الفصلية – عدد أكتوبر – ديسمبر 1998.
[4] – تناصّ Intertexuality النصوص البشرية
شكرا د يحيي علي هذا الطرح المبدع الذي اعادة صياغة الغريزة بشكل تواصلي .. دون الاغراق في اطروحات التحليل النفسي المسطحه له ..