نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 23-10-2022
السنة السادسة عشر
العدد: 5531
مقتطفات من كتاب: “الطب النفسى والغرائز (1)” [1]
الباب الثانى: “غريزة العدوان”(من التفكيك إلى الإبداع) [2]
الملحق (2) .. (عبر النقد الأدبى):
“ليالى ألف ليلة” لــ “نجيب محفوظ” [3]
القتل بين مقامـَـىْ العبادة والدم [4] (4)
…………
…………
3 – الحمـّال
تأكيد… واستمرار
وتأتى الحكاية الثالثة أضعف من حيث أن بطلها ليس هو الانسان الخير الشرير معا، المهلك نفسه الساعى للخلاص فى آن، لكنه الإنسان الذى تخطى هذه المرحلة ليقوم بدوره الإيجابى العادى (فى القتل أيضا)-و كأن نجيب محفوظ لايدعنا نتصور أن القتل حادث عارض، يخرج من داخلنا تكفيرا أو خلاصا فى ظروف محدودة، ولكنه يبدو فى هذه الحكاية الثالثة وكأنه يعلن القانون الطبيعى الذى يحقق التوازن بين ظلم الحاكم وعائد هذا الظلم، فها هو عبدالله الحمال يستلم العهدة من (نفسه) جمصة البلطى ليقوم بالقتل المنظم ومساعدة الثوار (ممثلين فى فاضل صنعان)، وهو يملك من قدرة التناسخ الكامنة ما يمنحه سلطة عادلة، وهو يعلن أنه لا معنى للخلود (بشتى صوره) ان لم يكن لعمل جليل، وإلا فما جدوى المعجزة ؟ هل بقيت فى الحياة بمعجزة لأعمل حمالا؟ (ص67)، وحين يذهب يسترشد برأى الشيخ البلخى يرفض-ثانيه-أن يقوم عنه باتخاذ القرار، ويكتفى بأن يعلن له موقعه بين مقامَىْ العبادة والدم (ص67)، وهو الموقف الكيانى الأصيل الذى يخرج منه كل منا..كل على قدر همته (ص68).
وعبدالله الحمال بصورته هنا يمثل تحديا لمحاولات النقد والتفسير، فهو ليس عفريتا، ولكنه أيضا ليس إنسيا، فهو يخوض تجربة لم يمارسها من قبل (ص62)، وهو يحقق ما ينبغى أن يحققه الانسان الفرد العادى وهو يمارس حياته فى طيبة لا تستبعد القتل إحقاقا للحق، وهو لا يخلو من ضعف بشرى يخلط عليه الأمور، فبعد أن يقرر ويختار طريق القتل العبادة بادئا ببطشه بمرجان، يقتل ابراهيم العطار، ويتذرع لذلك-بأثر رجعى بأنه كان يساهم فى دس السم فى أدوية أعداء الحاكم، ولكن الأمر لا يخلو من نوازع شخصية (إنسية).
وهنا يقفز تحذير هام، ومـمـن؟ من ثائر شاب كان المتوقع منه أن يكون أكثر اندفاعا و… وقتلا، ذلك أن فاضل صنعان يقول: “ليس الاغتيال ضمن خطتنا” (ص78)، وظهور سنجام بعد تناسخ البلطى يؤكد الجانب الإنسى، لعبدالله الحمال، فليس ثمَّ وجود داخلى آخر إلا لمن هو إنسي، أى أن الإنسان هو وحده الذى يتميز بهذا التعدد والتناقض الحتميين، أما العفريت أو الملاك أو حتى الإله فكل منهم واحد صحيح، وهنا تبدو دقة الكاتب، وصدق حدسه، وهو يرتقى بالإنسان نحو الكلية والتفرد والتناسق الداخلي. ولكن دون أن يستسهل فيختزل الطريق إلى ما لا يكون على هذه الأرض، وهكذا يفيق عبد الله الحمال من شبهة عثرته بقتل إبراهيم العطار، ويؤكد استمرار مسيرته بقتل عدنان شومه كبير الشرطة.
تناسخ جديد:
ولست أدرى لم استسهل الكاتب عند هذه النقطة أن يبدله من عبدالله الحمال إلى عبدالله البري، هكذا بخبطة من خبطات العجائب المباركة، ولكن يبدو أن هذه الخبطة قد سمحت لعبدالله الحمال أن يستمر وفى نفس الوقت أن يعترف دون أن يـُعدم، غير أن الطريقة التى تمت بها هذه النقلة وقد كانت نهاية الحكاية المفاجئة بإرساله-فى صورته الجديدة-إلى دار المجانين، هذه السهولة قد تعلن وقفة إنهاك من الكاتب فى رحلة الغوص إلى كل هذه الأعماق، وهذا حقه على كل حال.
وقبل أن ننتقل إلى المرحلة التالية، يجدر بنا أن نشير من جديد إلى اعتراض فاضل صنعان الثائر على هذه الوسيله (الاغتيال) حتى لو كانت لتحقيق العدل، إذ يبدو طوال الحكايات - رغم تبرير “القتل/ العبادة” من خلال ثورة الداخل (العفاريت) – أن الحل الفردى (الاغتيال) مشكوك فيه من البداية، حتى لو كان عبادة، ولكن ثمة تأكيدا أسبق يقول أن البادى أظلم، فما ظهور العفاريت أصلا إلا لأن الظلم استشرى: ”على الوالى أن يقيم العدل.. فلا تظهر العفاريت” (ص75).
…………
…………
(ونواصل الأسبوع القادم)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى، كتاب “الطب النفسى والغرائز (1) “غريزة الجنس” (من التكاثر إلى التواصل) و”غريزة العدوان” (من التفكيك إلى الإبداع) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2022)
[2] – تحديث محدود لمحاضرة “الغريزة الجنسية” ألقيتها فى منتدى أبو شادى الروبى (15/12/1998) ضمن نشاط محاضرات لجنة الثقافة العلمية: المجلس الأعلى للثقافة.
[3] – صدر هذا النقد فى عمل لى فى “قراءات فى نجيب محفوظ” الطبعة الأولى (1990) الهيئة العامة للكتاب، والطبعة الثانية (2005) والطبعة الثالثة (2017) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.
[4] – بدءًا من هذه الحلقة سوف أنشر الحلم مكتملا أولا، وذلك بعد ما وصلتنى رسائل متعددة، واحتجاجات منطقية، نأسف أنها لا تستطيع أن تتابع النقد دون الرجوع إلى “المتن الأصلى” فقررت أن أجرب اليوم أن أنشر المتن مكتملا قبل النقد.
صباح الخير يا مولانا:
المقتطف:…. فليس ثمَّ وجود داخلى آخر إلا لمن هو إنسي، أى أن الإنسان هو وحده الذى يتميز بهذا التعدد والتناقض الحتميين، أما العفريت أو الملاك أو حتى الإله فكل منهم واحد صحيح، وهنا تبدو دقة الكاتب، وصدق حدسه، وهو يرتقى بالإنسان نحو الكلية والتفرد والتناسق الداخلي. ولكن دون أن يستسهل فيختزل الطريق إلى ما لا يكون على هذه الأرض….
التعليق : هذه واحده من أساسيات مدرسة الرخاوى فى العلاج النفسى ،والتى يبدو هنا أن نقده للأدب كان أحد روافدها ،لكن يا مولانا نحن بحاجة إلى قدر من التبسيط والإيضاح ،(ولو فى الهامش ) حتى يستطيع القارئ التقاطها ،وخاصة تحديد الدور الذى تؤديه هذه الرؤية فى مسار العملية العلاجية ،والتى هى ،فى رؤية مدرسة الرخاوى ،عملية نمو موجه ” كدحا إليه “