نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 22-10-2022
السنة السادسة عشر
العدد: 5530
مقتطفات من كتاب: “الطب النفسى والغرائز (1)” [1]
الباب الثانى: “غريزة العدوان”(من التفكيك إلى الإبداع) [2]
الملحق (2) .. (عبر النقد الأدبى):
“ليالى ألف ليلة” لــ “نجيب محفوظ” [3]
القتل بين مقامـَـىْ العبادة والدم [4] (3)
………………….
………………..
2- جمصة البلطى
قتل تكفـيرى آخر
وأحسب أن محفوظ قد انزعج – مثل انزعاج القارىء أو مثل انزعاجى على الأقل -من إقحام قتل الطفلة فى طريق خلاص صنعان (والناس)، فعاد يؤكد جانب العبادة فى القتل التكفيرى الهادف فى حكاية جمصة البلطي، وجمصة يتفق مع صنعان فى أمور مبدئية، منها: أنه-أيضا-من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، (رغم مركزه فى السلطة:، ”فى قلبه موضع للعواطف، وموضع للقسوة والجشع” (ص37) “لا يوجد قلب فى الحى كقلبه فى جمعه بين الأسود والأبيض” (ص43)، ولكن موقفه (تركيبه) أصعب من صنعان، فمهمته أثقل، فإذا كان صنعان قد ابتعد عن داخله بالانحراف التدريجى بالملايَنَةٍ والاستغلال المستور بما له من علاقات مريبة مع كبير الشرطة، ولم يتورع عن الاستغلال أيام الغلاء (ص 28)، فإن جمصة البلطى هو سيف السلطة نفسها، وحتى يواصل قهره للناس، فضلا عن قهره لنفسه، فقد كان عليه أن يحبس داخله فى قمقم، إذ لم يكن ليكفيه-مثل صنعان-أن يزيحه بعيدا عن الواجهه، وأن يسمح له بالتجوال المحدود فى أحلام غامضة، فالسلطة لها متطلبات قهر لايصلح معها نشاط داخلى معاكس أصلا، وجمصة حامل سيفها شخصيا، ولكن سبحان من له الدوام!!، حتى سيدنا سليمان يموت، فما هو إلا بشر، وجمصة السلطة يموت أيضا فى لحظة اختلاء بالذات مع ذكريات مؤلمة مؤنّبة، الذى رباه.. هو الذى قبض عليه (على صنعان: جاره) هو الذى رماه فى السجن، هو الذى قدمه للمحاكمة، ثم ساقه أخيرا للسياف شبيب رامه، هو أيضا من علق رأسه بأعلى داره، وصادر أمواله، وطرد أسرته (ص37)، يتذكر ذلك وقد اختلتْ به نفسه: قطرات من الراحة فى خضم العمل الشاق الوحشى (ص37)، وفى نفس الوقت يمضى يؤكد مبررا اضطرار السلطة الى ما تفعل، فهذا هو قانونها الأول: أليس السلطان نفسه هو من قتل المئات من العذارى والعشرات من أهل الورع والتقوى ؟ فما أخف موازينه (موازين جمصة) إذا قيس بغيره من أكابر السلطة (ص37)، إلا أن التبرير لم ينفعه طويلا، فما أن اختلت به نفسه حتى كان ما كان.. بغتة تحول وعيه إلى يده.. وتلاشى الغبار تاركا وجودا خفيا جثم عليه فملأ شعوره بحضوره الطاغى (ص38) ولا أكرر هنا كيف أن ظهور سنجام هو - مرة أخرى- إعلان يقظة الداخل (فجأة)، انكسر الكبت (القمقم) وانطلق عملاق الداخل، ولم يتعجل هذه المرة فى إصدار أوامر القتل تحديدا، تركه لتطوّره الجديد، فماذا فعل؟
انطلق جمصة (سنجام) لا يصب غضبه إلا على الطغمة المستغلة للعباد (ص48)، وهو يكاد لا يدرى أنه هو، قد أصبح صاحب السلطة على الناحيتين، هو من الطغمة الفاسدة، وهو يسرقها عقابا لها استجابة لهواتف شريفة، ولكنها لعبة خبيثة ليس لها قرار، ففى النهاية: يمضى يطارد هذه الهواتف الشريفة كما يطارد الشرفاء (ص49)، ويتمنى أن يستمر التحايل على نفسه ليرسم خطة استيلاء أكبر، لكن داخله يقف له بالمرصاد ”تود أن تمكر بى لتحقق أحلامك الدفينة فى القوة والسلطان؟” (ص50)، ويتركه انتظارا لترجيح تسخير هذه القوة الجديدة المنطلقة من قمقم الداخل الى خلاص نفسه وخلاص الناس ويصبح التغييرحتما محتوما، ولكن دون إملاء مباشر اذ يصبح القتل العبادة هو قرار العقل والإرادة والروح وليس قرار الشيخ العارف، عبد الله البلخى. ”الحكاية حكايتك وحدك والقرار قرارك وحدك” (ص53)، فهو ليس قرار العفريت الـمنطلق: “لك عقل وإرادة وروح” (ص50).
ولا يجد جمصة سبيلا إلى التنصل، من المهمة الملقاة عليه، لأنها واجبة، بل… بل هى هى قراره: إنى أقوم بواجبى، فوجَّه إلى عنقه ضربة قاضية، فاختلطت صرخته المذعوره بخواره، واندفع الدم مثل نافورة [5] (ص55)
وهكذا قتل الحاكم خليل الهمذانى بعد أن أطلق سراح الثوار جميعا..أفرج بقوته الذاتيه عن الشيعه والخوارج فى ذهول كامل شمل الجنود والضحايا جميعا (ص54)، ويتقبل قرار القصاص بشجاعة فائقة تختلف عن موقف صنعان الجمالى الذى أخذ يستنجد بعفريته دون جدوي، فهنا: القرار قراره هو جميعه، وليس مجرد تنفيذ لقرار صدر من بعضه، من داخل لم يلتحم مع بعضه البعض، وحين تحمل مسئوليته تماما وتوازنت الكفتان: أنقذ داخله من ذاته الظاهره، فأنقذ الناس ونفسه من الظلم، انعتق بالموت الأصغر، ما قتلوا إلا صورة من صنع يدى (ص59) ليخلد بالاستمرار وسط الآخرين وفيهم (بأى صورة كانت)، فهنا معنى جديد للخلود، وتصنيف مبدع لأنواع الخلاص، فالخلاص الانتقامى المنشق عــُـرْضَة للتخبط والتردي، أما الخلاص المسئول الإرادي، فهو لايأبه للموت ولايسجن فى ذات فردية محدودة،[6] بل يستمر فى أى صورة، تحت أى اسم.
فهذه خطوة جديدة فى تصعيد الرؤية الأعمق للمسيرة البشرية تقول: إن الإنسان حين يستجيب لداخله بصدق ومسئولية لا بانفصال وبدائية: لا يموت..، حتى لو مات.
………………
………………
(ونواصل غدًا)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى، كتاب “الطب النفسى والغرائز (1) “غريزة الجنس” (من التكاثر إلى التواصل) و”غريزة العدوان” (من التفكيك إلى الإبداع) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2022)
[2] – تحديث محدود لمحاضرة “الغريزة الجنسية” ألقيتها فى منتدى أبو شادى الروبى (15/12/1998) ضمن نشاط محاضرات لجنة الثقافة العلمية: المجلس الأعلى للثقافة.
[3] – صدر هذا النقد فى عمل لى فى “قراءات فى نجيب محفوظ” الطبعة الأولى (1990) الهيئة العامة للكتاب، والطبعة الثانية (2005) والطبعة الثالثة (2017) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.
[4] – بدءًا من هذه الحلقة سوف أنشر الحلم مكتملا أولا، وذلك بعد ما وصلتنى رسائل متعددة، واحتجاجات منطقية، نأسف أنها لا تستطيع أن تتابع النقد دون الرجوع إلى “المتن الأصلى” فقررت أن أجرب اليوم أن أنشر المتن مكتملا قبل النقد.
[5] – لولا أن الرواية قد سجلت أنها تمت فى 27/11/ 1979 لكان الارتباط بدراما المنصة وثيقا ومباشرا-مع بعض التحفظ فى التفاصيل-ولكن هذه الإرهاصات بقتل الحاكم، والتأكيد على جانب العبادة فى هذا القتل، مع رفضه باعتباره حلا فرديا.. الخ، كل ذلك هو من تفصيل يعد من قبيل الرؤية الأبعد لحدس الفنان قبل الحدث؟
[6] – يتأكد هذا المعنى فى بداية الحكاية التالية بعد أن تناسخ البلطى فى صورة عبد الله الحمال، إذ يخاطب نفسه القديمة (رأسه المعلقة) قائلا لتبق رمزا على موت الشرير الذى عبث بروحه (ص62).