نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 16-10-2022
السنة السادسة عشر
العدد: 5524
مقتطفات من كتاب: “الطب النفسى والغرائز (1)” [1]
الباب الثانى: “غريزة العدوان”(من التفكيك إلى الإبداع) [2]
الملحق (2) .. (عبر النقد الأدبى):
“ليالى ألف ليلة” لــ “نجيب محفوظ” [3]
القتل بين مقامـَـىْ العبادة والدم [4] (2)
…………
والآن لنواكب القتل حكاية حكاية:
1- صنعان الجمالى
التنشيط الخطر.. بين التفكير والتروى
هنا: قتل غريب حقا !!
1- لأن القاتل ليس قاتلا بطبيعته !! فهو رجل طيب، رجحت كفة خيره بشهادة العفريت ذاته وشهادة الناس: “فهو من “الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم”، أما شهادة العفريت.. ”لا أنكر أيضا مزاياك، ولذلك رشحتك للخلاص (ص28)”، “.. قلت ”هذا رجل خيره أكثر من شره” (28)، أما شهادة الناس..” كانت له منزلة بين التجار والأعيان، وكان من القلة التى يحبها الفقراء” (ص35)
2- وهو غريب لأن القتيل ليس واحدا، والقتيلان ليسا متجانسين، فالضحية الأولى طفلة بريئة، والقتيل الثانى حاكم ظالم
3-وتشتد غرابته أكثر حين يبدو الدافع للقتل بلا مبرر شخصىّ ظاهر.
فما هى الحكاية ؟ لم القتل؟ هذا القتل؟ ومـَـنْ هذا القاتل بالذات؟
إن هذه الحكاية الأولى أزعجتنى حتى كدت أعدل عن أخذها بكل هذه الجدية التى لاحت لى إبتداء، تلك الجدية التى غمرتنى فور قراءتها بتكثيف متلاحق، ولكنى عجزت عن التهرب وتماديت، وليتحملنى القارئ:
صنعان الجمالى شخص عادى، تاجر تغلب عليه الطيبة، لكن عليه أن يساير ويمالئ، وأن يُسكت ضميره حتى يسيـّر حاله مثله مثل الأخرين، وهو يحاول التكفير والتعويض بالطيبة والصدق وبعض العبادة (المحسوبة)، غير أن هذه الحياة الوديعة المتصالحة مع الظلم-رغما عنها بشكل ما-ليس لها ضمان، إذ لا دوام لاستقرارها لمن يتورط فى إكمال المسيرة، أو بتعبير أدق: لمن يضطر لإكمال المسيرة، وحين يَحْبس مثل هذا الشخص العادى داخله بما فى ذلك حسه الجماعى إذ يخدّرُه بالتدبير والسلبية والانسحاب: ”استأنسنى بسحر أسـَوَد” (ص15)، فإنه قد يـُـنـَـشط فجأة إذ “يدق الزمن… دقة خاصة فى باطنه فيوقظه” (ص13) (لاحظ: فى باطنه)، حين ينشط هذا الكيان الداخلى الفطرى الحر([5]) فإنه ينطلق ابتداء بقوة الغرائز الدافعة نحو ارتقاء تكفيرى، وقد تحدد التكفير هنا بقتل رأس الظلم (الحاكم)، هكذا: مرة واحدة !، ومن ذا الذى يقتله؟ شخص لم يَعْرِف من قبل شيئا عن القتل، ولأن المسافة واسعة بين الحياة الأولي، واليقظة الأخيرة، فان التنشيط يندفع فى عنف تخبّطى، فلا يكتفى بإحياء القتل: وسيلة لتحقيق إلهام خبيث بقصاص عادل، ولكنه يـنـشــط معه- ربما بحق الجوار!: “الجنس الغريزى الفج”، + “القتل العشوائى الجبان”، وذلك نتيجة التوازن بين الداخل والخارج: فلا الداخل النشط - بغير مناسبة ظاهرة-قادر على ضبط الجرعة (جرعة الثورة للتكفير عن مسالمتـه للظلم وممالأته للجارى) ولا الخارج القديم بمستطيع العودة إلى السيطرة على الموقف برمته (بما فى ذلك ثورة الداخل)، فالمتغيّر الذى حدث ببداية حسنة الاتجاه (ومُرعبة معاً) سرعان ما غيَّـر اتجاهه إلى غير ذلك بلا قصد واضح، وبألفاظ أخرى: إن التغيّر الذى فرضه الداخل بدا وكأنه حفـْـزٌ إلى أعلى، وإذا به يتردى (بمساعدة المنزول-ولكن ليس فقط بسببه ) إلى حيث لا يدري، وها هو صنعان يخرج فى الصباح لأول مرة فى حياته منذ صار صبيا دون صلاة (ص19)، ثم توغل فى حال يتعذر الهيمنة عليها (ص29)، فهو الجنون أو ما شابه، فراح يخبط فى الظلام مشعث العقل (ص21)، ويمضى هذا التنشيط الغريزى الفج يسحبه إلى أدنى فأدنى تسوقه أخيلة مٌعَرْبِدة (ص21)، وإذْ يستيقظ الجنس البدائى المندفع، يفجّر خياله إلى ما سبق حظره: إلى المحرمات دون موانع… وتذكّر نساء من أهله شبعن موتا، فتمثلن له عاريات فى أوضاع جنسية، فأسف على أنه لم ينل من إحداهن وطرا(ص21).
إذن، فقد ثار الداخل (العدوان أوّلا) نحو الخير من حيث المبدأ (قتل الحاكم الظالم)، ولكن من أين له بضبط الجرعة وتوجيه الدفـّـة؟ ومع نشاط الجنس المحرم والشهوى بلا ضابط يندفع عدوان آخر ليقتل طفلة إذ يغتصبها ثم يزهق روحها رعبا ونذالة، فيجتمع الجنس والعدوان فى أدنى مراتب البدائية،.. فهو وجه الجنون القبيح.!
وهنا يصل نجيب محفوظ بحدْسه إلى ما لم تصل إليه أى من العلوم النفسية إلا فرضا مجتهدا غير مقبول من أغلب المختصين، فهو يؤكد وجهىْ الجنون([6]) معا، فبالاضافة إلى هذا التردي، يظهر الوجه الإيجابى بشكل مباشر.. ”ما طالبتك بشر قط” (ص23)، ولكن أليس الذى نشـَّـط الدفع نحو قتل الظلم هو هو الذى نشــط الجنس البدائى والقتل الجبان الهارب؟ نعم هو كذلك، ولست أدرى كيف استطاع محفوظ أن يلتقط هذه الحقيقة المعقدة، حيث لا يقتصر تنشيط المستوى البدائى للوجود على جانب دون آخر، كما لا يمكن ضمان التحكم فى مسار تنشيط أى منهما وخاصة حين يثور هذا المستوى فى سن متأخرة، وبعد حياة راتبة، نجح صاحبها فى اخفاء بقيته بتسكين دفاعى متزايد.
ولألتمس العذر مرة ثانية من القارئ، وأعيد سَلْسَلَة أفكارى (فروضى) بأسلوب آخر:
(1) صنعان الجمالى رجل هادئ، تاجر، فى منتصف العمر،
(2) خدّر داخله ليواصل إنحرافا مشروعا (مثله مثل غيره)
(3) كان فى ذلك يمالئ الدنيا ويدارى الحاكم
(4) لم يثنه ذلك عن مواصلة العبادة وعمل بعض الخير الظاهر
(5) وفجأة: (بدون مقدمات ظاهرة) ثار داخلــه وقرر التكفير بمبالغة غير مفهومة فى الظاهر، إذ تــقـرر له أن يقتل الحاكم (خلاصَّا لروحه وللناس)
(6) بدلا من أن يتم التغيير فى هذا الاتجاه الخيــّر، فوجيء صنعان أنه غير قادر على تحمل مسئولية الحقيقة أو الإلمام بأبعادها
(7) ثار فى نفس الوقت-مع ثورة الداخل-دافع الجنس المكبوت (نحو المحارم والأطفال.. الخ)، وكذلك ثار دافع الهرب الجبان قتلا وكذبا
(8) فى الجولة الأولى رجحت كفة هذه الدوافع فى صورتها السلبية دون قدرة من جانبه على كفها شعوريا بعد انهيار الكبت التلقائى (الآلى) فحدثت جريمة هتك العرض وقتل الطفلة.
وهكذا يتجاوز محفوظ نفسه، ويخرج من الصورة التى كان محبوسا فيها فى أول كتاباته حين كان يرسم المقدمات (الظاهرة) بحيث تؤدى - حتما- إلى النتائج المتوقعة، بشكل يؤكد معنى الحتمية السببية (النفسية)([7]) وبعض النقاد لا يرتاحون إلى هذا النوع من الحتمية الذى لا يطمئن إليه إلا مستوى معّيِن من القراء.
هكذا استطاع محفوظ أن يوصّل إلينا بكل جسارة: أن رجحان كفة هذا التنشيط البدائى فى الاتجاه السلبى لم ينجح أن يلغى استمرار الاتجاه الإيجابى الذى ما نشط-أصلا-إلا ليحققه، فينقذ صنعان نفسه مرة أخرى إذ يواصل سعيه لإنجاز مهمته الأولى، فيؤكد الحقيقة التى قدمناها ويعلنها مباشرة بأنه: ليس هو مغتصب الطفلة فقاتلها.. إنه شخص آخر، القاتل المغتصب شخص آخر، نفسه تتمخض عن كائنات وحشية لا عهد له بها (ص23)، إلا أن إنكاره نفسه هذا لا يصح ولا يفيد، لأنه هو القاتل المجرم دون غيره، وفى نفس الوقت فهو أيضا كان التاجر الطيب المثالئ، ثم هو هو-أخيرا-القاتل العابد الأوّاب، وإنكاره القتل الجبان المجرم يعلن ضمنا رفضه أن يكون هو كله ليس سوى هذا الجزء القاتل، مجرد جزء من ذاته دون بقية الآخرين (داخله)، إذن فليواصل ليتعرف على الباقي، على بقية ناس الداخل، وخاصة القاتل العابد فيه، وما أشق ذلك.([8])
إنها مهمة شاقة جدا ….، وها هو يريد أن يتردد، ولكن إذا كان الذى أطلق دافع القتل العبادة هو رفض الاستمرار فى انحراف خفى لم يعد يطيقه (من داخل)، فإن قتل الطفلة قد أصبح دافعا جديدا إلى تكفير ألزم.. فهى مهمة القتل العبادة وهى أسهل من قتل البنت الصغيرة ! (ص27)، بل لعلها أصبحت الطريق الوحيد للخلاص، ويحاول صنعان أن يعزو الجريمة إلى التنشيط البدائى لداخله (كما يحاول البعض أن يعفى المجنون من مسئوليته دون تحفظ)، فلا يجد أمام صدق الداخل إلى ذلك سبيلا، يقول لقمقام ([9]) مدافعا (ص28):
– لولا اقتحامك حياتى ما تورطتُ فى الجريمة
فقال (قمقام) بوضوح
– لا تكذب، أنت وحدك مسئول عن جريمتك
وهذه رائعة أخرى من روائع محفوظ الحدْسية، فهذا هو الجنون بعمق تناقضاته، وهذه هى المسئولية بعمق الوجود، وليس بمنطق الشفقة الخائبة أو تبريرات القانون الوضعي، وإذا كان للجنون جانب تدميري، فجانبه الآخر ارتقائى بنـّاء لو واصل المسيرة، الفرصة متاحة: ما زالت الحياة تتسع للتكفير والتوبة: خلاص الحى من رأس الفساد وخلاص نفسك الآثمة (ص 28).
وهكذا يتواصل الدفع، وتقام صلاة القتل! فيتوكل على الله([10]) ويقتل الظلم ويدفع الثمن، وهو لا ينجو هذه المرة كما نجا من الجريمة الحقيقية الأولى إلا ليتم الثانية التى تبدو أنها ليست جريمة أصلا بل قصاصا وصلاة، فيأتى بعد ذلك إعدامه جزاءاً للجريمة الأولي، واستشهادا فى الصلاة الثانية فى نفس الوقت، وهكذا يذهب بطلا-ولو رغم أنفه ”كن بطلا يا صنعان، هذا قدرك” (ص34).
…………………
………………..
(ونواصل الأسبوع القادم) 2- جمصة البلطى (قتل تكفيرى آخر)
مع رجاء قراءة النص حتى يصدر النقد، مع الشكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى، كتاب “الطب النفسى والغرائز (1) “غريزة الجنس” (من التكاثر إلى التواصل) و”غريزة العدوان” (من التفكيك إلى الإبداع) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2022)
[2] – تحديث محدود لمحاضرة “الغريزة الجنسية” ألقيتها فى منتدى أبو شادى الروبى (15/12/1998) ضمن نشاط محاضرات لجنة الثقافة العلمية: المجلس الأعلى للثقافة.
[3] – صدر هذا النقد فى عمل لى فى “قراءات فى نجيب محفوظ” الطبعة الأولى (1990) الهيئة العامة للكتاب، والطبعة الثانية (2005) والطبعة الثالثة (2017) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.
[4] – بدءًا من هذه الحلقة سوف أنشر الحلم مكتملا أولا، وذلك بعد ما وصلتنى رسائل متعددة، واحتجاجات منطقية، نأسف أنها لا تستطيع أن تتابع النقد دون الرجوع إلى “المتن الأصلى” فقررت أن أجرب اليوم أن أنشر المتن مكتملا قبل النقد.
[5] – تسميته بالضمير هو أقرب تسمية شائعة، لكنها غير دقيقة بالمرة، فهو كيان أعقد، وأكثر تلقائية، وأقرب الى صدق الغرائز من الضمير بالمعنى الأخلاقى التأنيبى المعيق.
[6]- أقصد بالجنون هنا تحديدا: تنشيط الداخل البدائى ليعمل مستقلا وعلى حساب الخارج الواقعي.
[7] – Psychic determinism (deterministic causality) أنظر أيضا بالمقارنة: بين استمرار فتحى غانم فى تأكيد هذا النوع من الحتمية السببية فى حين تطور نجيب محفوظ إلى الحتمية الغائية teleological causality، وذلك فى قراءة نقدية للكاتب لرواية “الأفيال” لـ (فتحى غانم) “الحلم .. القبر.. الرحم” مجلة الانسان والتطور الفصلية عدد يوليو (1983) ( ص108-136)
– ثم ظهرت في مجموعة “قراءة فى مستويات وجدل الوعى البشرى .. من خلال النقد الأدبى” (2019) دراسة “الحلم .. القبر.. الرحم في “الأفيال” لـ (فتحى غانم) (ص 81) - منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.
[8] – يحيى الرخاوى: “قراءة فى مستويات وجدل الوعى البشرى .. من خلال النقد الأدبى” (2019) دراسة “الحلم .. القبر.. الرحم في “الأفيال” لـ (فتحى غانم) (ص 81) - منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.
[9] – لا تنس أن قمقام هو صنعان الجمالى .
[10] – يتضح ذلك بوضوح فيما بعد، ولكن بالنسبة لجريمة أخري-(ص56) ماذا دفعك إلى ارتكاب جريمتك الشنعاء (قتل خليل الهمذانى الحاكم) فيجيب بوضوح “أن أحقق ارادة الله”.. وسنرجع الى ذلك.