نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 25-9-2022
السنة السادسة عشر
العدد: 5503
مقتطفات من كتاب: “الطب النفسى والغرائز (1)” [1]
الباب الثانى: “غريزة العدوان”(من التفكيك إلى الإبداع) [2]
العدوان وحركية الإبداع (2)
……………..
……………..
العدوان غريزة أم اكتساب:
يؤيد لورنز الرأى القائل بأن العدوان دافع أولى (غريزة) ويؤيده فى ذلك تينبرجن برغم اختلافهما فى تفاصيل أخرى: إذ يقول الأخير عن الأول معترضا جزئيا “… إن لورنز يفترض أن العدوان هو دافع أولى موروث، وإنه مثله مثل الدوافع الأولية- فى تصوره- يسعى إلى الإطلاق والإشباع”.
ويعارض مونتاجو فى مناقشته مقولة تينبرجن منكرا أن يكون العدوان غريزة ويعدد إثباتا لرأيه هذا أجناسا وقبائل مثل الإسكيمو([3]) والأستراليين البدائيين الذين لا يحارب بعضهم بعضا، وينتهى بالتساؤل التقريرى قائلا “ألا يجوز أن الرغبة فى القتال هى شكل من أشكال السلوك المكتسبة”([4]).
ولا سبيل إلى الفصل فى هذا الموقف دون التعرض للموقف الأخلاقى السابق الذكر الذى يبرر الهجوم على نظرية الغرائز عامة، ونظرية العدوان كغريزة بشكل أكثر تحديدا، ليبدو الإنسان بعيدا عن التوحش.
ثمة محاولات للخروج من المأزق من خلال تبنى منظور أن الغرائز -تطوريا على الأقل – هى سلوك سبق طبعه imprinted عبر تاريخ تطور الحياة. حتى على فرض أنه كان مكتسبا فى يوم من الأيام، فقد أصبح بلغة علمية حديثة: غريزة تُوَرّث، ذلك لأن التعلم بالبصم (غير التعلم الشرطي) يختص بالسلوك اللازم للبقاء فى مرحلة ما، وقد كان السلوك العدوانى من ألزم أنواع السلوك اللازم للبقاء فى معظم مراحل التاريخ الحيوى.
حتى باعتبار ما ذهب إليه إريك فروم([5]) معتمدا على آخرين فى أن العدوان قد اكتسب اكتسابا لاحقا فى العصر الحجرى الحديث مع تغير الإنسان من كائن صائد جامع إلى كائن منتج خازن مع بداية الزراعة (حوالى تسعين قرنا قبل الميلاد) فإن مرور آلاف السنين، ومتطلبات الوضع الجديد للإنسان كمنتج منافس لا يمكن أن نعتبرها مجرد اكتساب مؤقت، وبدءا من حدس هربرت سبنسر([6]) القائل “إن عادات اليوم هى غرائز المستقبل” حتى دراسات علم الوراثة الأحدث تتزايد الحقائق الدالة على ربط المكتسب بالغريزى، وخاصة فيما يتعلق بالبقاء والتطور.
لكل ذلك لا ينبغى أن نكتفى بالتلويح بموقف أخلاقى سطحى لمجرد رغبتنا أن نتميز عن الحيوانات التى نصفها بالتوحش دون الإنسان، بل إن الاعتراف بهذا الأصل التكوينى يدفعنا إلى البحث الأمين فى تصور فائدة هذه الغريزة ليس فقط فى تاريخها الحيواني، وإنما فى تجلياتها البشرية، مع العلم بأن ما نصفه بالحيوانية لا ينبغى أن يكون بمثابة الوشم بالدونية أو النكوصية كما يلمح وليام كورنينج متسائلا: “..وما هو النفع المنتظر إذا كان تحت السطح، رائحة بيولوجية كريهة”([7]) وإنما علينا أن نتذكر أن إنكار الحقائق ادعاءً أو استسهالا يزيد من عجزنا عن التحكم فى الجانب السلبى منها، أو بتعبير أدق: يزيد فى احتمال توظيفها توظيفا سلبيا ضد النوع وضد الحياة.
تقييم وظيفة العدوان إيجابيا وفرص التعبير عنه:
1- إن العدوان قد حفظ أجناسا([8]) بأكملها فى صراعها ضد أجناس أخري، وذلك فى إطار قانون “البقاء للأقوى”.
2- إن سيطرة الذكر الأقوى على قطيع الإناث واستبعاد الذكر الأضعف قد ضمن البقاء للسلالة الأقوى، نتيجة استبعاد الذكر الأضعف من القطيع بالعدوان الذى ينتهى بالقتل أو بالطرد أو بالإذعان.
3- إن العدوان يعتبر جزءا متضمنا فى كل الوسائل المسئولة عن الحياة، بل وعن تطويرها.
4- إن العدوان يحدد معالم الذات: فالذات إذ تنفصل عن الآخرين فى الولادة النفسية، فى المراهقة خاصة، وفى كل أزمات النمو عامة، إنما تحقق ذلك حين يضطر “الفرد” أن يدفع “الآخر” فى عملية الانسلاخ منه، تحديدا لذاته الخاصة، الأمر الذى يتبعه بعد ذلك جدل الآخر الموضوعى من خلال تحمل الاختلاف وبرنامج الدخول والخروج، هذا، وقد ذهب الكاتب فى دراسة سابقة([9]) إلى تقرير يقول: “إذا كان الحيوان يحافظ على وجوده ككيان فيزيائى بالعدوان، فإن الإنسان يحافظ على وجوده ككيان مستقل واع (أى يحافظ على فرديته) بالعدوان كذلك، وفى حين يستعمل الحيوان عدوانيته ضد احتمال افتراسه (ولافتراس الآخرين) فإن الإنسان يستعمل عدوانيته (دفاعا) ضد احتمال سحق ذاته وسط الآخرين”.
كل هذه الجوانب المهمة فى وظيفة العدوان لابد أن تؤكد ضرورة إعادة النظر، فيما ذهب إليه فرويد (على الأقل فى بداية تنظيره) مما شجع على فروض استقطاب الجنس فى مقابل العدوانية، باعتبار الجنس هو التعبير عن التواصل المتبادل فى حين أن العدوان Aggression هو مرادف للتحطيم Destructiveness لدرجة جعلت فرويد يرادف بعد ذلك بين العدوان (التحطيم) Aggressiveness وبين ما أسماه بعد ذلك: ”غريزة الموت” Thanatos ([10]).
تطور توجـّـه غريزة العدوان فى السلوك الإنسانى المعاصر:
إذا قبلنا فكرة أن العدوان هو غريزة بهذه القوة، وأنها ضرورية للحفاظ على الحياة والذات كخطوة سابقة لـ (ومتبادلة مع) غريزة الجنس وليست نقيضا له كما صورها فرويد فى المقابلة فى أواسط أعماله متبعا النظرة الاستقطابية التى غمرت فكره حينذاك، فما هى المظاهر المعاصرة الإيجابية المباشرة والمحــورة التى تظهر فيها غريزة العدوان بالمقارنة بغريزة الجنس؟
لقد نالت غريزة الجنس من الانتباه والدراسة ما جعلها تبدو وكأنها تمثل الغرائز جميعا، فضلا عن أنها كانت وما زالت محورا يدور حوله تنظير التحليل النفسى وتطبيقاته، وأيضا نظرا لطبيعة الجنس اللذية فى معظم الأحيان: كانت فرص التعبير المباشر وغير المباشر عن هذه الغريزة متواترة ومتنوعة، خصوصا إذا قورنت بفرص التعبير عن غريزة سيئة السمعة مثل العدوان. خذ مثلا بعض الأمثلة:
1- الجنس يجد مخرجا شرعيا ودينيا مباشرا فى الزواج (قبل وبعد فرويد).
2- الجنس يجد مخرجا اجتماعيا (ومدنيا أحيانا) فى صورة العلاقات التلقائية: في، وقبل، وخارج منظمات الأسرة فى كثير من المجتمعات شديدة البدائية وفى المجتمعات المتقدمة “جداً” على حد سواء.
3- الحديث عن الميل الجنسى بما يحمل من فرص التنفيث والإرضاء الجزئى يعتبر حديثا مقبولا ومحببا وأحيانا فخرا وزهوا (للرجال على الأقل)، وذلك فى الإطار والمجال الذى يحدده كل فرد لنفسه، فمن المألوف السهل أن يتحدث الرجل عن رغبته الجنسية سواء تحققت أم لم تتحقق، أو حتى عن قدرته الجنسية، ولدرجة أقل تفعل المرأة نفس الشئ ولو مع قريناتها فى بعضالمجتمعات.
4- الجنس له حضور كاف، وأحيانا غالب فى صورته الصريحة أو المحورة، فى كثير من الأعمال الأدبية والفنية وحتى فى بعض مظاهر التدين (العشق الإلهى والغزل فى الأنبياء والأولياء… الخ).
5- يصاحب ذلك، أو لعله نتيجة له أن الجنس قد يجد بسهولة مخرجا مناسبا ومتواترا فى الخيالات والأحلام على حد سواء.
والآن هل للعدوان نفس الفرص للتعبير المباشر أو غير المباشر؟
الإجابة بالنفى، و بعض تفصيل ذلك:
1- إنه لا توجد صورة اجتماعية أو شرعية يمارس فيها الإنسان المعاصرعدوانه بشكل مباشر ومعترف به، اللهم إلا فى بعض أنواع الرياضة البدنية الالتحامية (فى المصارعة والملاكمة مثلا) التى يثار ضدها هذه الأيام اعتراضات متزايدة، ثم إنها ليست ممارسة شائعة أصلا يمكن أن نزعم أنها مجال عام يصلح لاستيعاب العدوان عند كل الناس.
2- لا يوجد أى تقدير أو تقبل طبيعى يسمح للفرد بالحديث عن رغباته العدوانية أوميوله العدوانية ، بغض النظر عما إذا كانت هذه الرغبات قابلة للتنفيذ أم لا (فى حين أن ذلك مقبول بالنسبة للجنس بترحيب خاص - من الرجال أكثر- كما ذكرنا).
3- لا توجد صور أدبية أو فنية تـُعلى من قدر العدوان، اللهم إلا صور البطولة (والفـَـتـْـوَنـَـة) التى تعلى من قدر عدوانية فوقية من الجانب المسيطر دون التابع.
4- يبدو أن كل هذا القهر والكبت الساحقين قد أثـّرا حتى على الأحلام والخيالات، فمن واقع خبرتى الكلينيكية، نجد أن حكايات المرضى عن أحلام (أو خيالات) القتل أو حتى القتال، هى أكثر ندرة من أحلام المطاردة والاضطهاد وكذا من أحلام الجنس والتعاطف مثلا.
صور العدوان البديل (مكافئات العدوان).
إذا كانت غريزة العدوان بصورتها الصريحة لا تجد الفرصة الإيجابية للتعبير عن نفسها بشكل مباشر مقبول فى الحياة العادية، فهل يوجد شكل غير مباشر يمكن أن يحقق التعبير عن غريزة العدوان باية صورة محورة؟
بالنظرة الأعمق يمكن أن نستنتج خطوطا عامة تبدو وكأنها تؤدى هذا الغرض، ومنها:
1- التنافس الدراسى والأكاديمي. كما يرى كل من انتونى ستور Storr وألفرد أدلر.([11])
2- التنافس الرياضى: الذى يظهر بشكل مباشر فى الرياضات الالتحامية فى المصارعة والملاكمة كما هو متضمن بشكل غير مباشر فى معظم الرياضيات التنافسية.
3- السيطرة الطبقية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مع تذكر أن السيطرة الطبقية قد أصبحت مؤخرا تتم فى الخفاء وبأساليب سرية مغلقة، أو بشعارات أخلاقية أو دينية أو أيديولوجية أو ملتبسة، وهى وسيلة القلة على كل حال.
عموما فقد اتجهت التربية الحديثة، ومحاولات المساواة الممكنة وغير الممكنة إلى تغيير القيم إزاء فكرة التنافس أصلا، حتى كاد التنافس أن يصبح غير كاف لامتصاص طاقة العدوان، فضلا عن احتمال الضرر من الإفراط فى تقديسه، فالتنافس الرياضى مثلا لا يشمل إلا نسبة ضئيلة من الناس، ثم هو يحاط بالترويض المستمر للعدوان المغلف به فى شكل تنمية ما يسمى بالروح الرياضية، ولا يشارك عامة الناس فى إطلاق غريزة العدوان التنافسية اللهم إلا بتقمص المتنافسين مشاهدة من الوضع جلوسا مصفقين على أحسن الفروض(!!) وهذا غير كاف. فضلا عن احتمال الخداع والتشويه.
إذن: فالأمر يبدو وكأنه لا توجد فعلا فى عالمنا المعاصر أية فرصة حقيقية لإطلاق غريزة العدوان ولا للتنفيس عنها أو حتى لمجرد الاعتراف بها على مستوى الجموع.
وكأننا يمكننا إعلان أن درجة الكبت والمنع والإنكار لغريزة العدوان قد وصلت -بإجماع تقريبا- إلى أضعاف ما أزعج فرويد بالنسبة لغريزة الجنس وآثار كبتها.
وإذا كان ما لحق من كبت لغريزة الجنس: تظهر آثاره السلبية أساسا فى مجال المرض النفسى المسمى “العصاب”، كما يقول فرويد، فإن آثار كبت غريزة العدوان تظهر فى مجال الأمراض الأخطر، الأمراض الذهانية خاصة، ثم هو يتعدى الخطر على الفرد إلى ما هو أخطر على الجماعة والمجتمع.
…………………..
………………….
(ونواصل الأسبوع القادم)
لعرض نتائج كبت العدوان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى، كتاب “الطب النفسى والغرائز (1) “غريزة الجنس” (من التكاثر إلى التواصل) و”غريزة العدوان” (من التفكيك إلى الإبداع) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2022)
[2] – تحديث محدود لمحاضرة “الغريزة الجنسية” ألقيتها فى منتدى أبو شادى الروبى (15/12/1998) ضمن نشاط محاضرات لجنة الثقافة العلمية: المجلس الأعلى للثقافة.
[3] – هذا ما لاحظه مونتاجو فى أربع عشرة من القبائل غير إسكيمو الأرض الخضراء (مثل قبائل الإنكاس والباشيجاس.. وغيرها) ممن اعتبرهم مجتمعات لا تتصف بالعدوان التحطيمى أصلا.
[4] – دولارد، جون، ليونارد دبليو دوب، نيل إى ميلر، أورفال إتش مورير وروبرت آر سيرز. الإحباط والعدوان . نيو هافن: مطبعة جامعة ييل ، 1939
يذهب بعض السلوكيين (مثل ج. دولارد وزملائه) إلى اعتبار العدوان ببساطة أحد مظاهر التفاعل للإحباط أساسا.
[5]- يمكن الرجوع إلى عرض إريك فروم فى كتابه “تشريح عدوانية الإنسان” لتطور وجهة نظر فرويد فى نظرية العدوانية والتحطيم Freud’s Theory of Aggressiveness and Destructivenes فى تسلسل رائع منذ اعتبرها أولا (ثلاث مقالات فى الجنس 1905) جزءا من المكونات الغرائزية Component instincts لغريزة الجنس، ثم أخذ يشك فى وجودها كغريزة مستقلة (حالة هانز الصغير سنة 1909) حتى أعلنها مستقلة فى ‘مافوق مبدأ اللذة 1920 دون اقتناع كامل، وكيف قرنها ابتداء بما أسماه غريزة الموت, أى أنه نظر إلى فاعليتها السلبية والتحطيمية أساسا، وظل فروم يستعرض التطورات التالية حتى قرب وفاته (1938) حيث أكد أخيرا “..إن العدوانية بصفة عامة هى ظاهرة غير صحية وتؤدى إلى ألم (لاحظ استعمال عدوانية Aggressiveness وليس عدوانا Aggression التى نادرا ما كان يشير إليها.
[6] – يحيى الرخاوى: “تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض، بعض فكر الرخاوى”، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى، 2019، (ص 205)
[7] – نعلن تحفظنا ضد استعمال كلمة كريهة Offensive لأى أثر بيولوجي, حيث العيب الذى جعله كريها ليس فى وجوده وإنما فى انفصاله عن الكل.
[8] – ولعل هذا ما حاول أليسون فيتزسيمون تأكيده فى حديثه عن الغضب والعدوان (وهو يستعملهما كمترادفين) فى قوله: ‘إن الغضب.. هو جزء لا يتجزأ من الحب ومن كل الدفاعات والتحفظات ضد الموت والقوى المهددة، وبالإضافة فإن هناك شيئا صحيا ومفيدا فى العدوان: هو أنه جزء من كل الأساليب الإبداعية’. (وهو لم يذكر كيف كان ذلك، وهذا ما سنحاول الوصول إليه فى نهاية الكتاب).
[9] – يحيى الرخاوى: (1979) “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” (شرح سر اللعبة) (ص 184).
[10] – داڤید م. روپ “الانقراض” (1998) ترجمة: مصطفى إبراهيم فهمى، الناشر: المجلس الاعلى للثقافة المشروع القومى للترجمة – القاهرة
[11] – أنتونى ستور، طبيب نفسى، يتبع جمعية علم النفسى التحليلى ومن كتبه: (الانحراف الجنسى 1964) و(عدوان بشرى 1968) و(تدمير الإنسان 1972):
– Anthony Storr, Sexual Deviation, Penguin Books, 1964
– Anthony Storr, Human Aggression, Penguin Books, 1968
– Anthony Storr, Human Destructiveness: The Roots of Genocide and Human Cruelty, Chatto, 1972
ألفرد ادلر: هو طبيب عقلى نمساوي، مؤسس مدرسة علم النفس الفردى اختلف مع سيجموند فرويد وكارل يونغ فراح يؤكد أن القوة الدافعة فى حياة الإنسان هى الشعور بالنقص والتى تبدأ حالما يبدأ الطفل بفهم وجود الناس الآخرين والذين عندهم قدرة أحسن منه للعناية بأنفسهم والتكيف مع بيئتهم