نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 11-9-2022
السنة السادسة عشر
العدد: 5489
مقتطفات من كتاب: “الطب النفسى والغرائز (1)” [1]
الباب الأول: “غريزة الجنس”(من التكاثر إلى التواصل) [2]
تابع الملحق (1)
نشرنا أمس الجزء الأول من نقد القصة الأولى “الجنس الفيّض” ونواصل اليوم استكمال نقد القصة الأولى.
القصة الأولى: “بيع نفس بشرية” (محمد المنسى قنديل)
“الجنس الفيْض” (2)
……………….
……………….
ثم إن المؤلف يعلنها صراحة، على مستوى الأجساد، نعم.. الأجساد تتحاور (لا تساوم، ولا تختزل): “… وأصبح الجسدان يتبادلان حوارهما المشترك” (ص 40). (ملحوظة): أعتقد أن هذا العمق لن يتبين بوضوح كما تبين لى إلا بالمقارنة بجنس آخر، وخاصة ما ورد فى القصة الثانية([3]). (الوادعة والرعب)، في نفس العمل.
تكاد هذه الصورة الجنسية تؤكد حدْسٍ فرويدىٍّ هام ذلك أن الكاتب هنا صور هذا الجسد الصغير، وكأنه 0فى جملته يمثل العضو الجنسى الذكرى شخصيا، وهذا بعض ما ذهب إليه فرويد مما لم أفهمه طوال حياتى العلمية والمهنية بهذه الصورة إلا من هذه القصة “هكذا”.
“.دعنى أتلوى فوقك كالثعبان، وابق أنت ساكنا كالعشب الأخضر”(ص39). “….-…. لم يدر أين هى بالضبط، تحته فوقه، أم بداخله” (ص 40). “دخل جسدها النحيف بين أضلاعه” (ص 38-39)، “غاصت فيه” (ص 40).
وفى نفس الوقت لم تمنعه وضوح هذه الصورة الرائعة من أن يتنبه إلى تبادل الأدوار، فيجعل هذا الجسد (المكافئ للقضيب) هو نفسه رحما حانيا حاميا “….احتوته فى جسدها” (ص 39).
وقد بدا لى أن أهمية هذا التعبير الشمولى لدور الجسد ككل هو إعلان وعى الكاتب، أو حدسه، بشمولية هذا النوع من الجنس، كما أننا نفيـْـناَ ابتداء أن هذا الجنس هو صفقة “لحم فى لحم” (انظر بعد) كذلك فإن هذا البعد ينفى تحديدا اختزال الجنس إلى لذة موضعية، حيث اللذة هنا تغمر كل الجسد، كل الخلايا، كل الحول والطول، بالالتفاف، والاحتواء، والتداخل، والتمازج الكلى الغائر الممتد.
4- وهنا يحتاج الأمر إلى تناول هذه المسألة الأخيرة بقليل من التفاصيل التى لم تغب عن الكاتب أصلا، فقد أشار إلى بُعد “الالتحام/ المحو”، وبالعكس: فى أكثر من موقع، فـَـهـُـمـَـا يصيران واحدا جديدا ناميا على حساب التفرد السابق فى واحدية مستقلة، بما يصاحب ذلك من محو لكل ما عدا ذلك، لكل ما قبل ذلك، بل وما بعد ذلك “.. كانت تمحو بداخله كل الماضى والحاضر والمستقبل” (ص 40).
”…ومن أجل أن يصل إلى هذه النتيجة (أنها المرأة الوحيدة التى كان يرغبها طول حياته) كان قد أتلف كل شئ” (ص 41). “التحما فى توقيت نادر” (ص 40). “أصبح لهما نفس الجسد ونفس الرائحة..الخ” (ص40).
وقد ذكرنا حالا أن هذا المحو لم يكن تلاشيا، ولكنه كان تخليقا لكلِّ جديد، وهو ما يبدو لنا قانون الديالكتيك الأعظم، ذلك القانون الذى أطل علينا فى مجمل العمل، كما ظهرت ملامحه فى بعض تجليات التعابير “.. الحب بارد كحقول الأرز لاسع كنيران التنين” (ص 40)، تقوده فى أناة ومهل دون عهر أو براءة” (ص 40) (لاحظ أن التعبير بالنفى هنا أروع فى إظهار الطبيعة الجدلية).
الوجه الآخر لهذا الفيض الجنسى (فيضان الشهوة يقتحم):
ويشاء الكاتب، بقدرة فائقة، أن يفجعنا مرة أخرى ونحن نعيش هذا الفيض الجنسى الراقى والرائق، فإذا به قرب نهاية القصة، أو قل فى نهايتها، يكشف عن وجه آخر لماتيلدا إذ تظهر على شاشة الفيديو فى صورة طوفان آخر، له توجه آخر يروى جوعا آخر، والكاتب لم يـُـستدرج إلى موقف أخلاقى مسطح فيعرض لنا فسقا علنيا مقززا فى قصر الشيخ لمجرد أن يضيف صورة العهر والعربدة على من يمثل القهر والطغيان، أو ليعرى أكثر فأكثر حياة الرفاهية والفراغ التى يعيشها من يملك بغير عرق، لا .. لم يفعل شيئا من ذلك، إذ أنه لو كان قصد إلى ذلك لما جعل بطلة جنس الفيديو هى هى ماتيلدا، أما وقد جعلها هى، فقد استشعرت أنه قد استطاع أن يخترق الاستقطاب الأخلاقى والإيدلوجى الجاهز بهذاالاقتحام المنظم، فبدلا من أن يكتفى برسم ماتيلدا وهى رقيقة معطاء بمحض إرادتها لمن أجارها دون شرط، وبدلا من أن يؤكد على أنها هاربة مقهورة ليس إلا، جعلها هى بطلة هذا الفيلم الجنسى أيضا، فماذا نحن- القراء- فاعلون بتعاطفنا معها منذ البداية، وهى صغيرة، هشة، مجروحة، فائرة، معطاء فى حضن مصطفى ومن حوله؟
ننظر فى مشهد الفيديو أولاً:
قبل أن تظهر ماتيلدا وجدنا أنفسنا نشاهد أشخاصا غير مميزين، وإذا بنا وسط إرهاصات دفق غامر بما يبرر ما ذهبتُ إلى تسميته” بالطوفان الجنسي”:
”…. .كانت هناك مطاردة بين رجل وامرأة، الرجل يجرى عاريا، والمرأة عارية أيضا، تمسك فى يدها رمحا طويلا تطارده فى شراسة وعدوانية خالصة” (ص 49).
إذن فنحن أمام هجوم جنسى برمز محدد، ومن جانب المرأة التى لم نتبين من هى حتى الآن، ثم تظهر ماتيلدا:
”…. ولكنه يفاجأ بماتيلدا على الشاشة.. كانت تتلوى فوق جسد رجل لم يكن شكله واضحا فى الصورة، أهو الشيخ؟ أم أحد أصدقائه؟ أم يكون هو مصطفى نفسه؟”…(ص 50).
هذه اللقطة تؤكد أمرا، وتضيف آخرا، فهى من ناحية تقول لنا إن الجنس الذى تعاطفنا معه منذ قليل هو هو الذى يعرض على الشاشة “… تتلوى فوق جسد رجل.. الخ”، وهى من ناحية أخرى تعلن فقد الخصوصيية وذوبان الهوية أمام سحق القهر، وفى حدود علمى أنه لا توجد وسيلة تكنولوجية تسجل الصوت والصورة بكل هذه التفاصيل دون علم صاحبها، مما يرجح أن هواجس مصطفى ومخاوفه هى التى سهلت عليه تقمص شريك ماتيلدا فى الفيديو، فضلا عن دهشته واستبعاده أن ما ذاقه طواعية واختيارا قد أعطته ماتيلدا لغيره علانية واستعراضا، فالأرحم له أن يعتبر رجل الفيديو هو نفسه، ليتعرى رغما عنه، بدلا من أن يشوه ما تصوره عطاء خاصا به وحده، وهذا التقمص يتضمن عرضا آخر مما نسميه فقد أبعاد الذات Loss of ego boundariesحيث يصبح الكيان نهبا للآخرين بلا حدود، فيذاع ما بالداخل على الملأ، وفى هذا الموقف بالذات، ومصطفى قد سلب كل شئ حتى صدق تجربته مع ماتيلدا، فإن فقد الهوية بهذه الصورة لدرجة تسهيل التقمص برجل الفيدو هو أقرب التفسيرات وأرجحها حيث تداخل ”عـَـرَضُ الإذاعة” Broadcasting مع ”حيلة التقمص والانكار” Identification &Denial حتى جعل مصطفى يعتقد أنه قد أذيع ما كان بينه وبين ماتيلدا، وهو يتقمص الشخص الذى فى الفيديو حتى لا يكون غيره (مما لا يحتمله)، وبذلك ينكر أن تعطى ماتيلدا لغيره ما أعطته له هكذا بحذافيره.
وكان من أروع ما وفق إليه الكاتب أنه، وحتى نهاية القصة، أنه لم يجزم إن كان مصطفى هو رجل الفيديو نفسه أم لا.
وينبغى أن نتوقف ثانية عند إصرار الكاتب على أن جنس الفيديو هو هو جنس الحجرة الخاصة على سطح بيت متواضع “.. قالت نفس الكلمات، وضج وجهها بنفس الشهوة، ونزت نفس حبات العرق” ثم هو يذكرنا أن عطاءها هذا يفيض ولا يفرّق، يغمر ولا يـُغرق، إذ سرعان ما يردف: “كأنها تضاجع كل الموجودين فى القاعة” (ص 50).
لكن هنا- ومن خلال كشف هذا الوجه الآخر لنفس الجنس- يكاد يؤكد أن هذه الشهوة الجامحة هى القائد لهذا كله، بل لعلها هى هى المسئولة عن إثارة شذوذ الشيخ “كانت شهوة ماتيلدا عارمة حتى أن المنظر كاد يصبح ضبابيا من أثر الصهد المنبعث من جسدها”، وقبل ذلك كان قد أشار إلى أنه:
“…لعل هذا الانكسار والذوبان فى ممارسة الحب هو الذى دفع بالسيد الشيخ إلى شهوة جنونه، هذا التفانى الجسدى هو الذى جعله يصنع من جسدها مطفأة لسجائره…”
فهل بقى بعد ذلك شك فى أن ماتيلدا هى ماتيلدا مع كائن من كان، وأن هواجسه عن شخص الفيديو أنه هو نفسه ليست إلا نتاجا لما ذكرنا؟ فهو يقارن ويخاف ويستبعد فيتقمص، فيتعرى:
“.. يعرف هذه الانتفاضة، وهذا الإحساس الغامر بالمتعة، والشعور الطاغى بامتلاك ما لا يمتلك، بالألم والفرح والخوف والانبهار” (ص50).
فلما كانت ماتيلدا هى ماتيلدا، والشهوة هى الشهوة، والفيض هو الفيض، فلماذا نعتبره وجها آخر لنفس الجنس، ولماذا لم نكتف بأن نقول أنه هو هو مع مصطفى أو مع غيره؟؟
أعتقد أن هذه التفرقة الدقيقة هى من أفضل ما حدَس المؤلف، ذلك أنه لم يستسهل، ولم يستقطب، فمن أبرع براعة الكاتب أنه قدم لنا صورة تفان جنسى رائق، وماصاحبه من ذوبان وولاف والتحام وامحاء.. وصلاة وخشوع فى إيقاع نابض فشمول وانتشار، فلم نكد نقول “هذا هو” حتى راح يفاجئنا بأنه أيضا، وربما قبلا: شهوة عارمة: وصهد صاهر، ومومسية معلنة (وكأنها تضاجع كل الموجودين بالقاعة) (ص 50).
وقد لاحظت أنى شخصيا- وخاصة فى القراءة الثانية فالثالثة- لم أعد أشعر بأى تناقض فى كل هذا، ثم رحت أحمد له هذه الجرعة الإبداعية الجسور، وفى نفس الوقت فإنى لم أقبل أن يكون جنس الفيديو مجرد تسجيل متجسس لجنس الحجرة، لا.. أبدا: جنس الاخنتيار الحر والنتح الفيض الدافئ ليس هو هو جنس الطوفان الغامر والفيضان الصاهر، صحيح أنهما ينبعان من مصدر واحد هو التصالح مع الجسد، وتلقائية العطاء، لكن الذى يوجه المسار إلى هذه الوجهه، أو تلك، هو المجال والتلقى، فحين كان المجال إنسانا شهما متواضعا خائفا اتضحت صورة النتح الطبيعى والصلاة المذيبة.. الخ. أمّا حين صار المجال إثارة وشيوعا وتحديا واستعراضا تميزت صورة الطوفان الشهوى والفيضان اللذى فى دفقات صاهرة متدفقة، ولعلنا نذكر تعبير الكاتب: “دون عهر أو براءة” فى محاولة تنبيهنا إلى هذه القضية التى تجعل البراءة هى النقيض للعهر مما يوقع الأزواج -على غبائهم وحسب طلبهم- بين اختيارين انشقاقيين متضادين: فإما الخيانة مع من تعرف مفاتيح الجسد فى دور اللهو وأمثالها، وإما الجفاف أوالبرود مع وسائد لَحْمية شرعية خالية من الحياة، فرحت أعتبر هذه اللقطة العميقة من أبرز اقتحامات المؤلف، عساه إذْ أفْجعنا أيقظنا، وإذْ واجَهَنا عرّانا، لعلنا نرفع الوصاية عن أجسادنا وأجساد أولادنا دون خوف من عهر أو براءة، إذ ندرك أن تحرير الجسد ليس معناه التفريط فيه، بل إنه يعنى مزيدا من احترامه، فإذا تحرر الجسد ابتداء ناغم الطبيعة، ثم تأتى بعد ذلك المسألة الأخلاقية يحددها المجال لا تشويه الفطرة بفرض اختيارات ثلاثة منفصلة: على الأقل: إما الحرية السائبة، أو الثلاجة الجبانة، أو الصفقة الدعارة.. أما الولاف الطبيعى بين براءة ناعمة وعهر قارح، فهو غير مطروح إلا كما نتعلمه من هذا الإبداع المتميز.
……………….
………………..
(ونواصل الأسبوع القادم)
بعرض نقد القصة الثانية: الوداعة والرعب ”الجنس الصفقة” (الجسد اللحم)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى، كتاب “الطب النفسى والغرائز (1) “غريزة الجنس” (من التكاثر إلى التواصل) و“غريزة العدوان” (من التفكيك إلى الإبداع) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2022)
[2] – تحديث محدود لمحاضرة “الغريزة الجنسية” ألقيتها فى منتدى أبو شادى الروبى (15/12/1998) ضمن نشاط محاضرات لجنة الثقافة العلمية: المجلس الأعلى للثقافة.
[3] – وعندى أمل أن يعود القارئ إلى هذا الوصف – هنا مرة ثانية – بعد الإنتهاء من القراءة الأولى.