نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 10-2-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 5006
مقتطفات من كتاب:“الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور” [1]
الفصل الرابع:
“الطب النفسى السلبى والطب النفسى الإيجابى” (1 من 2)
مقدمة:
تصادف وأنا أعد هذا الفصل أن كلفت من قبل رئيس قسم الطب النفسى، قصر العينى، تلميذتى المحبة للعلم، البالغة الرقة والمهارة والحصافة أ.د. عزة البكرى، أن أسهم بمحاضرة افتتاحية فى مؤتمر القسم السنوى المزمع إقامته فى القسم وعنوانه “الطبنفسى الإيجابى“، فرحت بالاسم وتصورت أنه أخيرا بدأ الحديث عن الطبنفسى الذى أحاول أن أدعم ممارسته فى هذا القسم العريق الذى تربيت فيه، ومازلت أشعر أننى مدين له ولما يمثله بقية حياتى. شـَمـَّرت عن ساعدى، وبريْتُ قلمى، واستعنت بالله واستعددت، وقلت لنفسى: هكذا أستطيع بالأصالة عن نفسى والنيابة عن زملائى أن أعلن كيف أن هذا القسم الذى نشأت فيه وهو الذى فضله علىّ بأن أتاح لى أن أسدد بعض دينى وهو يحاول ويحاول أن يقدم الطبنفسى من منطلق ما يميز ثقافتنا المصرية العربية الإيمانية بوجه خاص، ومازالت المحاولة مستمرة.
حين غمرتنى كل هذه الأفكار فرحت بها وفرحت لها وأنا أتصور أن أ.د. عزة حين اختارت هذا العنوان تعنى كل ذلك تحديدا، لأننى أعرف مدى انتمائها لهذا القسم وما يمثله، وكانت رسالتها للدكتوره عن “دور الاكتئاب والعدوان فى العلاج الجمعى”[2] ومتى يكون هذا أو ذاك سلبيا ومتى يكون إيجابيا، وكيف يعلن عن مأزق التغير [3] وكيف يمكن أن ينقلب السلبى إلى إيجابى أثناء ممارسة هذا العلاج الجمعى، وقد كنت – مع أ.د. عماد حمدى غز[4] – مشرفا على تلك الرسالة، وحين تولت أ.د. عزة رئاسة القسم واقترحت هذا العنوان لأول مؤتمر سنوى تتولى رئاسته: اطمأننت – من العنوان- إلى ما تبقى عندها مما يميز هذا القسم، بل وهذا العلاج الجمعى خاصة، وقد كنت أناقشها منذ أسابيع بعد أن أصبحت رئيسة القسم فى عدم انتظام بعض الأطباء المقيمين الذين يتدربون معى على العلاج الجمعى، فإذا بها تنزعج وتتأسف، وتقول: يا خبر!! كيف سيصبحون أطباء نفسيين وهذا هو الطبنفسى على حقيقته!!
اطمأننت وزادنى ذلك حماسا أن تكون مشاركتى فى مؤتمر القسم هذا العام هى الرد الأشمل إكمالا للنقد الذى أوردته فى محاضرتى الافتتاحية للمؤتمر الدولى الثانى عشر الذى عقده قسم الأمراض النفسية فى جامعة الاسكندرية قبل عامين آنذاك بعنوان “الطبنفسى التـُّرْجـَمِى”[5] كان مقالى الافتتاحى فيه هو شجب هذا المفهوم تماما، وعرض ما يناقضه بل ربما ينفيه، حيث يوصى هذا الطبنفسى التـُّرْجـَمِى أن تكون الممارسة من المعمل إلى السرير[6]، فكانت ورقتى بعنوان: “العلم المعرفى العصبى من الممارسة إلى البحث العلمى”[7]، أنظر بعد.
الطب النفسى السلبى:
ثم إنه قد خطر لى قبل أن أذهب لاستشارة عمنا جوجل عن أصل وحدود هذا المصطلح المسمى “الطبنفسى الإيجابى”، خطر لى خاطر قلت أعايشه أولا قبل استشارة المراجع المتاحة ، وفحوى هذا الخاطر يقول:
إذا كان هناك ما يسمى الطبنفسى الإيجابى وأنا لا أعرف له بعد تعريفا محددا[8] فلابد أن هناك ما يسمى الطبنفسى السلبى، وبالتالى يصبح معنى الطبنفسى الإيجابى هو أنه “عكس” ما هو الطبنفسى السلبى أو على الأقل “ما ليس” هو الطبنفسى السلبى، هكذا تدفقت علىّ أفكار وتذكرت خبرات وحضرتنى انتقادات بلا حصر لم تحتج منى إلى استشارة عمنا جوجل ابتداءً، ولا صاحبة الفضل والكرامات موسوعة: ويكيبيديا.
قلت أتداعى من خلال خبرتى أولا فأعدد ما أتصوّر أنه الطبنفسى السلبى، وإذا بصور سلبيات الممارسة الطبنفسية تنهال علىّ كما يلى:
(1) الطبنفسى التصنيفى
(2) الطبنفسى الكيميائى
(3) الطبنفسى التحليلى
(4) الطبنفسى التبريرى/ التفسيرى/التأويل:
(5) الطبنفسى السياسى: ويوجد منه نوعان:
أ- النوع الأول: الطبنفسى السياسى (الإعلانى/ الإعلامى).
ب- النوع الثانى: الطبنفسى السياسى القهرى السلطوى.
(6) الطبنفسى التحفُّـظِى
(7) الطبنفسى الاسترزاقى
(8) الطبنفسى الترجمى
(9) الطبنفسى التسكينى
(10) الطبنفسى المستورد
(11) الطب النفسى المثالى
وفيما يلى نبذة موجزة عن كلًّ:
(1) الطبنفسى التصنيفى:
وأعنى به ممارسة الطبنفسى بطريقة تقليدية بتسلسل محكم كالتالى: “مرض” => تشخيص (حسب دليل محدد) ==> ثم سبب ذلك (ما أمكن ذلك) ثم ==> وصفة طبية دوائية لهذا المرض تحديدا حتى ==> اختفاء (أو أمل فى اختفاء) الأعراض بصفة عامة.
هذه هى الممارسة التقليدية التى يتم الإعداد لها بالتدريب والتعليم والتسميع والتطبيق (حتى إجازة الشهادات العليا والمتوسطة) بالحث على اتقان مهمة التشخيص بجمع جزئيات ما يعانى منه المريض من أعراض، ثم تصنيفه حسب الدليل المُجَدْوَل!!، ويتوالى التدريس والتدريب لشحذ هذه المهارة بطريق مباشر وغير مباشر، ثم يجرى التقدير حتى الحصول على الدرجة (الشهادة) على مدى نجاح ما يلم به الدارس، أو يتخصص به المستشار (الطبى) وهمه الأول هو وضع اللافتة الصحيحة على صدر المريض.
وتسرى عدوى هذا الموقف إلى المريض، وبدرجة أكبر وأكثر: إلى أهله، ويصبح السؤال “هوّا عنده إيه“؟ أهم من السؤال “طب نعمل إيه” عشرات المرات.
وبالرغم من أن التنبيه الذى لا أكف عن ترديده للتحذير من أن التشخيص ليس هو كل شىء، أو ليس هو غاية المراد، وبالرغم من ان من يمارس هذا النوع لا بمانع من قبول هذا التحذير من حيث المبدأ إلا أن واقع الحال يشكك فى عمق وجدوى هذه الموافقة.
وبمجرد وصول هذا الطبيب إلى التشخيص الأرجح ينتقل التساؤل المنطقى إلى البحث عن سبب هذا المرض المصنـَّـف بتلك اللافتة التشخيصية، وتتوقف الإجابة على هذا التساؤل على مرجعية الطبيب العلمية والمعلوماتية، كما تتواتر استجابات الأهل (أكثر من المريض عادة)، وبشكل حاسم أنه مادام التشخيص كذا إذن فالعلاج كيت، ومهما نفى الطبيب أن تتصف ممارسته بهذه المباشرة الاختزالية، فبقليل من التأمل سيكتشف أن هذا هو ما يمارسه فعلا، فهو يمارس ما أنجحه فى الامتحان وحصل به على شهادته ثم تميز به فى تخصصه، وهو عادة لا يستطيع إلا أن يطبق ما تعلم بحسن نية، وهو حريص على حقوق ومشاعر المريض وأهله غالبا.
ويمكن أن ينتمى إلى هذا الطب ما يسمى “الطب النفسى الدليلى“Manualized Psychiatry إشارة إلى أن تسلسل الفحص فالتوصيف فالتشخيص يعتمد فيه على “دليل” تصنيفى متفق عليه: وطنى أو عالمىّ[9]، وهذا الدليل يقدم كل أنواع الأمراض النفسية بشكل منظم يدعم بالمحكات المحددة التى تجمع كل تشخيص فى توصيف “جامع مانع” ما أمكن ذلك.
وقد استقر الرأى فى تقييم قيمة هذه الدلالئل وما فيها من تشخيصات أنها تسهم فى تحقيق ما يسمى ثبات التشخيص أى Reliability أى الاتفاق بين الممارسين على تسمية المرض المتميز بالمحكات الفلانية بالاسم الفلانى، لكن قيمتها شديدة التواضع فى تقديم مصداقية لاستعمال هذا التشخيص بما فيه معناه وموضوعه وتوجـّـهاته وقيمته وباختصار جدواه فى الممارسة وهو ما يسمى “المصداقية” Validity فما فائدة أن نتفق على الاسم ونحن لم نتفق على كل أبعاد وأعماق المضمون؟
على أن كل ذلك لا ينبغى أن يبرر الدعوة إلى إهمال التشخيص تماما أو التقليل من قيمة الأعراض، لأن لهذا وذاك وظائف أخرى شديدة الأهمية مثل المسح الإحصائى وحقوق المريض من شركات التأمين، والطب النفسى الشرعى، وكل متطلبات الإدارة والأرشيف بصفة عامة.
وأحيانا يسمى هذا الاتجاه التقليدى باسم النموذج الطبى Medical Model واحتراما لفكرة هذا النموذج الطبى رأيت أن أضيف إليه بعض ما يوسع دائرة القياس، وقد قدمت فى ذلك فروضا نشر موجز لها منذ سنوات[10] ومن أمثلة ما استعرته من أجهزة الجسم الاخرى ما يلى :
-
-
استعرت نبضات القلب نموذجا للإيقاع الحيوى الذى يمثل اختلاله عندى أسسا نفسمراضية شديدة الأهمية، ودعوت للتعامل مع المخ وهو يعيد بناء نفسه من خلال هذا الإيقاعحيوى ليلا ونهارا[11]. فى الصحة والمرض.
-
ثم أيضا استعرت نموذج طب الجهاز الهضمىGIT بما فى ذلك التمثيل الغذائى[12] لأشرح من خلاله عملية تناول (إدخال) المعلومات ثم هضمها وتمثلها وتفعيلها[13] (أو فعلنتها Processing)
-
وأخيرا قياسا على ظاهرة محدودة من طب العظام وجراحته استعرت فكرة أن الكسر لا يلتئم كما كان تماما أبدا، إنما يكون أقوى برغم عدم انتظام التركيب، وأحيانا يصبح أكثر عرضه للكسر أو الخلع إذا كان المرض مثل خلع مفصل الكتف المتكرر أى القابل للنكسة (تكرار الخلع)[14]
-
وخلصت من هذا الفرض بتوصية أن على من يفضل أن يمارس الطبنفسى “النموذج الطبى” أن يأخذ فى الاعتبار أصل مفهوم الممارسة الطبيبة تاريخا وإنسانيا، وألا يقتصر على استعارته نماذج من فروع الطب التى لا تصلح نموذجا لممارسة الطبنفسى بالذات مثل[15] طب الأمراض العصبيةNeurology الذى يعتمد أساسا على تحديد “موقع” تشريحى بذاته للخلل الفلانى، أو نموذج طب الغدد الصماء Endocrinology الذى يتركز فى تصحيح، للنقص أو الزيادة فى افراز الهرمونات.
ثم إنه يمكن للطبيب أيضا أن يستلهم تاريخ الطب من أول أبو قراط وحتى آخر منجزات العلوم الأحدث وخاصة العلوم الحاسوبية والكوانتيــَّــة إذا ظل يفضل الانتماء إلى النموذج الطبى الأشمل.
ونؤكد أن هذا ليس رفضا للتداوى بالعقاقير ولكنه تحذير من اختزال المرض النفسى إلى نقص فى هذه المادة فى الموقع العصبى الفلانى أو زيادتها للموصِّل المشتبكى العلانى، وأنا دائما أكرر أنه لولا استعمالى الانتقائى للعقاقير بكل إقدام وثقة فيها، لما مارست العلاج النفسى خاصة للذهانيين، ولا عرفت ما عرفت عن النفسمراضية (السيكوباثولوجية) فب العلاج النفسى وغيره بالطول والعرض.
(2) الطبنفسى الكيميائى (العلمى!):
وهو الطب الذى يختزل المرض إلى تصور عن أصله الكيميائى المشتبكى عادة [16] وبالتالى تصبح مهمة هذا الطبَّ هى تصحيح هذا الخلل الكيميائى، فإذا كان السبب هو زيادة فى مادة “كذا” فالعلاج هو معادلة هذه المادة بما يبطل مفعول هذه الزيادة أو ينقصها حتى تعود إلى مستواها الطبيعى إن أمكن ذلك.
ويتخفى هذا النوع من الطبنفسى كثيرا تحت أسماء أخرى غير “الطبنفسى الترجمى” مثل “النموذج البيولوجى”Biological Medel ، وقد يخفون طبيعته تحت أسماء “حركية” تخفى حقيقته أكثر حين يطلق عليه اسم “النموذج الطبى” كما ذكرنا فى محاولة إلحاقه بقافلة الطب العام وفروعه الراسخة(!) ولأن الاسم هو اسم حركى فهو يسمح لممارس هذا الطب الاختزالى أن يقتنع أنه إنما يمارس طبا مثل كل الطبوب، وهو بهذا لا يعرف – غالبا– أنه إنما يشارك بذلك فيما آلت إليه معظم ممارسة الطب الأحدث باعتباره علما مُـحـْكمـَاً وليس باعتباره تطبيقا حِرَفيًّا فنيا لكل العلم والمعلومات والخبرة المتاحة[17]، ولا يكتشف الممارس (والمريض أحيانا)، ما وراء هذا الاسم الحركى، وأنه انتقى من الطب أبعد أنواعه عن فن اللأم ومهارة الدعم وإبداع النقد، وأنه يتمادى فى تبنى ما يمكن أن يسمى الطب السلطوى المدعم بسلطة المال وشركات التأمين وشركات الأدوية والمحامين، وللأسف يقتصر القياس فى هذه الممارسة على فروع من الطب أبعد ما تكون عن طبيعة المرض النفسى والطبنفسى مثل طب الحميات (مكروب ==> مرض ==> مضاد حيوى ==> شفاء) أو الطب الكمّى كما أشرنا[18] مثل طب الغدد الصماء، زيادة هرمون كذا أو نقص هرمون كيت ثم كما ذكرنا أيضا، معالجة ذلك بتثبيط مصدر الزيادة أو بتعويض النقص مستحضرات دوائية.
(3) الطب النفسى التحليلى التعليلى:
وهو ذلك النوع من التطبيب الذى يؤمن بالتحليل النفسى أساسا (الفرويدى عادة)، والذى لم يعد يمارس بتقنياته التقليدية إلا نادراً: من أول التداعى الحر[19] حتى تحليل الأحلام وحل الطرح[20] وإنما يمارس بواسطة الكثيرين ممن لم يتعمقوا فيه: بكثير من المبالغة بالبحث عن السبب، وهو ما يسمونه هم – أو المرضى – باسم “عقدة” عادة، وعن ما حل بالمريض وخاصة فى تاريخه الباكر (الطفولة والشباب) وإلى درجة أقل من الاهتمام بالظروف الضاغطة المحيطة والأحداث الكائنة المستمرة، وهذا التوجه يغذيه الشائع عند العامة وفى المسلسلات وفى الإعلام غالبا من أن سبب المرض النفسى هو عُقّدُ الطفولة، والنمو الجنسى غير السوى وما إلى ذلك،
وتكثر أسئلة الإعلاميين للأطباء عن التحليل النفسى للأحداث والزعماء حتى للأسوياء، حتى عن بعد، ومن معالم هذا التطبيب (أو التحليل) هو الترحيب بفكرة التنفيث أو التفريغ (و”أطلـّع اللىّ جـّوايا”)، بدرجة تطغى على فكرة العقد النفسية الكامنة والظاهرة ثم التركيز على ماذا يمكن فِعْلُهَ بعد كل هذا، وهذا ما عبرتُ عنه مرارا بأنه قد آن الأوان أن يحل سؤال “إذن ماذا”؟ محل السؤال عن “لماذا”، دون إغفال ما يمكن الاستفادة منه فى تقرير الممكن الآن، وأن نهتم تبعا لذلك بتركيز أكبر على ما إذا كان السبب مازال قائما، وهو ما نسميه العوامل المـُـدِيِمة Perpetuating Factors أى التى تعمل على أن يدوم المرض، وخاصة فى الحالات المسماة الذهان المشترك Shared Insanity،[21] وتزداد أهمية البحث فى مثل هذه الأسباب حين يكون السبب الحاضر غير قابل للإزالة إلا بإجراءات تأهيلية حاسمة.
(4) الطب النفسى التبريرى (التأويلى/التفسيرى!):
إذا تمادى التركيز على التعليل والحرص على الإسراع بتفسير الأعراض بأسباب فى الماضى ورحنا ننحو باللائمة على ظروف خارجه عن مشاركة المريض فى إحداث المرض، فإن المسألة قد تنقلب من التفسير والتأويل والتعليل إلى التبرير (من جانب المريض وربما أهله، وإلى درجة أقل من جانب الطبيب)، هنا يجرى إعطاء أسباب ظاهرة أو مروية ليست بالضرورة هى الأسباب الحقيقية لما أصاب المريض، وبالتالى يسهم مثل هذا التبرير فى دعم ما يسمى المكسب الثانوى للمرض Secondary gain، ويختلف التبرير عن التفسير فى أنه يبالغ فى تفسير المرض والإعاقة بربطها بمسببات تنتهى إلى أن تصبح أعذارا ليس فقط لتفسير ظهور المرض، ولكن ربما للتمادى فيه بدون قصد من الطبيب غالبا، فيـُثبـّت العرض أو المرض أكثر من أنه يسهم فى إزالته.
وهنا يقع الطبيب – غالبا بغير قصد – فى احتمال أن يستعمله مريض باضطراب الشخصية أو ما شابه، ليبرر من خلال تبريراته أو تفسيراته بعض انحرافاته التى يصفها عادة بأنها “غصبا عنه”، وبمجرد أن يطمئن إلى أن الطبيب وافق على أنه يعانى من مرض ما، فإنه يقفز فى لاشعوره (أو شعوره) أنه “ليس على المريض حرج”، وأن ما يقوم به هو تماما نتيجة للمرض، ويكون الطبيب عادة غير منتمٍ لفكرة أن المرض (حتى الذهان) هو اختيار أعمق (اختيارا لاشعوريا عادة) وهكذا يحقق صاحب اضطراب الشخصية – مثلاً- غرضه بتعليق لافتة تشخيصية على ما يأتيه من سلوكيات منحرفة، وكأن الطبيب – دون أن يدرى عادة – قد يعطى للمريض عذرا ظاهرا أو خفيا للاستمرار فى هذه السلوكيات (لأنه مريض!!) وما لم ينتبه الطبيب كيف يستعمله مثل هذا المريض، فإنه يكاد يصبح مشاركا فيما يقترفه.
(5) الطب النفسى السياسى:
ويوجد نوعان من الطب النفسى يطلق على أى منهما هذا المصطلح وكلاهما يعتبران من الممارسات السلبية للمهنة بشكل أو بآخر، وفيما يلى نفصل ذلك:
(5/أ) الطب النفسى السياسى الإعلامى:
وهنا يقوم الطبيب النفسى بالتطوع أو بالاستجابة لما يطلب منه من تفسيرات نفسية، أو تحليلات نفسية لهذه الظاهرة السياسة البحتة أو تلك، وأيضا كثيرا ما يطلب منه تحليل شخصيات سياسية، قيادية عادة، وقد يـُستدرج إلى استعمال لغة طبية تصل إلى حد التشخيص لمجاميع من الشعب (أو حتى للشعب كله) فى فتاواه السياسية، وقد كثرت هذه الظاهرة من جانب معظم الإعلاميين الذين كثيرا ما يصرون على السؤال عن “التفسير النفسى” أو “التحليل النفسى” لهذه الظاهرة فى السياسة أو لتلك الشخصية السياسية[22]، وبرغم ما فى هذا التوجه من احتمالات بعض الصواب إلا أنه لا ينبغى أن يُستعمل إلا بحذر شديد، لأن الطب النفسى فى النهاية هو طب يعالج مرضى بعد أن يحصل منهم على معلومات تفصيلية شاملة ومباشرة، ومعظم هذه الممارسات تستعمل لغة طبنفسية وتشخيصات مرضية هى اجتهادات أبسط ما توصف به أنها هواية محدودة المصداقية أو فروض تحتاج إلى تصديق.
(5/ب) الطب النفسى السياسى القهرى السلطوى:
وهذا نوع من استعمال الطبيب والطب بواسطة سلطة قاهرة طاغية حاكمة، لقهر معارضيها وبإصدار أحكام نفسية تحرمهم من التمتع بحقوقهم فى الحرية والتعبير والمشاركة، وقد شاع مثل ذلك عبر التاريخ بشكل مباشر، وأيضا حديثا بشكل أقل مباشرة، وكثير من الأطباء الذين يشاركون فى مثل ذلك لا يدركون أن مسئوليتهم لا تقتصر فقط على سوء استعمال علمهم وفتواهم فى قمع الحريات وظلم الناس، وإنما أيضا فى الإسهام فى تمادى الطغاة فى طغيانهم وقهر الناس.
(6) الطب النفسى التحفظى الذاتى:
وهو نوع الطب النفسى الذى تقوم فيه سلطات خارجة عن المهنة الطبية الأصلية (وأحيانا عن المسئولية الحقيقية) بالتدخل بين الطبيب والمريض فى فرض إجراءات تفاصيل تبدو مساعدة المريض، كما ينبغى، من وجهة نظر خارج الممارسة الطبية، وهو الطب الذى يمارَسُ غالبا فى البلاد التى تسمى متقدمة والتى تتدخل فيها سلطات غير طبية: قانونية أو تأمينية أو تجارية استثمارية أو ميثاقية شبه إنسانية، وهنا يصبح الهم الأول للطبيب هو حماية نفسه وتأمين إجراءاته من المساءلة، ثم يأتى فى المقام التالى علاج المريض، وهكذا يجد الطبيب نفسه يسير بخطوات لا يحكمها وعيه وإيمانه وعلمه ومعرفته وأمانته وبصيرته وخبرته فى المقام الأول، وإنما تحكمها أولا: العناية بملء الأوراق الرسمية وتسديد الخانات وتسجيل التحفظات، وبرغم ما يبدو فى ذلك من مظاهر تٌـعـَدُّ ضمن الحفاظ على حقوق المريض، وأن هذا يبدو مطلوبا من حيث المبدأ، إلا أنها كثيرا ما تقلب الطبيب إلى مُنفِّدٌ لمنظومة من خارجه أكثر من ممارسٍ لقدراته ومهاراته وفنه حسب إخلاصه لضميره وحسابه على ربه، واحترامه لأصول مهنته لصالح مريضه، وهذا – كما قلنا– هو ما يجرى غالبا فى البلاد المسماة بالمتقدمة، أما ما زال يجرى بعرفٍ طـَيـّب فى بعض البلاد التى توصف بأنها أقل تقدما (أو متخلفة) فإن الوعى العام والوعى المهنى والوعى الأخلاقى والوعى الإيمانى فى تجلياتها الإيجابية قد يسمح بتوثيق التواصل بين الطبيب والمريض عبر الوعى البينشخصى أو الوعى الجمعى أو الوعى الإيمانى بل عبر كل ذلك معا، مما لا يمكن أن يوصف أو يسجل فى الأوراق، وهكذا تتوثق العلاقة الإيجابية الإبداعية بين الطبيب والمريض – بحذر شديد – لصالح الاثنين معا، دون أن يحول التحفظ الشخصى والحرص على سلامة الطبيب على حساب الإخلاص اللازم لمعونة مريضه بما يتفق مع علمه، ويؤكد إنسانيتهما معا، ويرضى الله.
…………………
…………………
ونواصل الأسبوع القادم استكمال أنواع الطب النفسى السلبى ومناقشة مواصفات الطب النفسى الإيجابى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: (2019) “الطب النفسى: بين الأيديولوجيا والتطور“، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.
[2]- أ.د. عزة البكرى “الظواهر الاكتئابية والعدوانية فى العلاج النفسى الجمعى” رسالة دكتوراه 1990
[3] – Impasse
[4] – أ.د. عماد حمدى غز هو أول من أبدأ أطروحته للتقدم لنيل درجة الدكتوراة فى الطب النفسى وكنت مشرفا عليها أيضا بتاريخ 1981.
[5] – Y.T. Rakhawy, Cognitive Neuroscience and Interpersonal Neurobiology Relation to Group Therapy From Practice to Science.
[6] – From Bench to Bedside
[7] – Cognitive Neuroscience: from Practice to Science
[8] – كما كنت أيضا لا أعرف تعريف الطبنفسى الترجمى، حين دعيت للإسهام فى مناقشته!
[9] – مثلا: (الدليل العربى المصرى) أى DMPI.. إلخ أو DSM IV & ICD10
[10] – Expansion of the Concept of “Medical Model” in Psychiatry, Egypt. J. Psychiatry. (1980a) 3 : 159-161
[11] – مع مراعاة أننى لم أكن قد وصلنى بعدُ منظومة كيف يعيد المخ بناء نفسه بالوضوح الذى عرفته مؤخرا.
[12] – GIT Model & Metabolism
[13] – Information Processing.
[14] – Recurrent dislocation of the shoulder joint
[15] – Localization
[16] – الذى ما زال أغلبه فروضا كما هو مثبت فى كل الكتب والمراجع
[17]- يبدو أن ما ظهر حديثا تحت اسم الكونكتوم Connectome! ..الخ
[18] – Quantitative (not quantum) medicine
[19] – Free Association
[20] – Resolution of Transference
[21] – وخاصة من النوع المُقْحَمْ، Imposed Insanity حيث يقحم شخص يبدو سليما إمراضيتة فى شخص مرتبط به وجدانيا حتى التبعية المستسلمة، فيمرض الأضعف فى حين يظل المشارك الطاغى سليما فى الظاهر على الأقل: طالما الأضعف مريضا.
[22] – لدرجة كدت أسمى هذا النوع الفرعى من هذا الطب: الطب النفسى”التوكْشووى”Talkshow