نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 27-2-2022
السنة الخامسة عشر
العدد: 5293
مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” (1)
الكتاب الأول: “النظرية والفروض الأساسية” (28)
مقدمة:
نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب، لعله الأهم، أن تُقْرأ نشرة اليوم التى سنقدم فيها ما تيسر من الفصل الثامن،
كما أوصى بالبدء بقراءة نشرة أمس قبل قراءة هذه النشرة.
يحيى
الفصل الثامن
هامش: عن الطاقة والوعى والصرْع!! (2)
…………..
…………..
الفروض المكمِّلة انطلاقا من الصرْع (فالأمراض النفسية المتعلقة)
(1) توجد فى التركيب الدماغى حسب الاستعداد الوراثى، أو أثر إصابات الرأس أو كبقايا التهابات ظاهرة مسجلة أو خفية تحت اكلينيكية، توجد نقاط ضعف فى التماسك مع كلية التركيب الدماغى، جنبا إلى جنب مع احتمال ميل طبيعى أو تعويضىّ إلى فرط نشاط فى هارمونية نبض الإيقاع، فتصبح هذه المناطق مخرجا تفعيليا أمام زخم هذه الطاقة النشطة، خاصة إذا زاد هذا النشاط ولم يجد له متنفسا فى مساره الطبيعى، فاختنق == > فانطلق.
(2) لظروف معروفة أو غير معروفة لا تجد هذه الطاقة الزائدة سبيلها الطبيعى الإيقاعحيوى القادر على احتواء نبضها كله طول الوقت، كما قد تفتقر أيضا إلى فرص الاحتواء مع الآخر لإرساء علاقة فيها فرص كافية لما هو “دخول وخروج” و”مسافة وتحمّل“، كما أنها عادة تُحرم من توفير الفرص المناسبة للإبداع الذاتى (النمو) أو الإبداع المـُنتَجْ (تشكيلات الفعل والفكر الإبداعى).
(3) تنحرف هذه الطاقة فتنطلق فى نبضةٍ مستقلة أشبه بما يحدث فى القلب ويسمى فـَرْطُـنَـبـضة (2) Extrasystole، فتنطلق نشازا مفاجئا قصيرا عادة من منطقة من مناطق المخ المذكورة سابقا، وتظهر حسب موقع هذا الجزء الأضعف فى شكل نـَـوْبـِىّ متكرر عادة لمدة قصيرة، وهذا ما يمثل شكلا من أشكال الصرْع.
(4) إن ما يُوَرّثَ: إذن هو “زخم” الطاقة تواكبا مع درجة ما من “جاهزية” حركية التفكيك (أو الحلحلة) فى حالة السواء وسلاسة الإبداع اليومى فى النوم، وسلاسة إيقاعه عموما.
(5) إن لم يحدث ذلك فإن أوضح وأسرع إعلان عن مسار الطاقة هو هذا الظهور الغامر والصاعق فى نوبات تغيّر الوعى، وهو ما يسمى مرض الصرْع.
(6) من هذا المنطلق ينبغى أن تكون الوقاية (فالعلاج) متضمِّنة احتمالات توجيه مسار هذا الكم النشط من الطاقة إلى مساره الطبيعى النمائى والعلاقاتى والإبداعى.
(7) كلما زادت الطاقة عن مسارات استيعابها الطبيعية زاد احتمال إطلاقها العشوائى النوْبى كما ذكرنا، وأحيانا تتراكم حتى يتم تفعيلها فى نبضات دورية مرضية جسيمة (السيكوباثوجينى)، ومن ثم تظهر فى صورة دورات الذهان الدورى مثلاً، وهذا ما يفسر العلاقة بين كثير من حالات الصرْع والذهان الوجدانى الدورى خاصة .
(8) يصبح تركيز العلاج على قمع هذه الطاقة من الأساس: خاصة في حالات الذهان النشط مثل الهوس والفصام الوجدانى و التوجسى وذلك دون السعى إلى تهيئة أى سبيل آخر لاستيعابها وتسليك مسارها (3)أى التركيز المطلق على تناقص نوبات الصرْع – مثلا- حتى اختفائه من تسجيلات رسام المخ الكهربائى، يصبح كل ذلك سببا مباشرا لاحتمال ظهور ذهان خاص بهذه النقلة (أنظر الفقرة التالية).
(9) هذا هو التفسير المباشر لهذه العلاقة المتبادلة بين اختفاء نوبات الصرْع وظهور أعراض هذا الذهان أحيانا، وهو ما يسمى “ذهان التعافى المُقحَمْ”Forced Normalization Psychosis وهو الذهان الذى يَظْهر تَوَاكُباً مع اختفاء النوبات الصرعية وعلامات الصرْع من رسام المخ الكهربائى، سواء بالعلاج أو بدونه وقد وضِعَتْ فروض كثيرة لتفسير هذا الذهان.
بحث هام لإخصائية فى الأمراض العصبية (4) والعلاج الجمعى
فى ورقة قدمت فى مؤتمر الجمعية العالمية للعلاجات الجماعية IAGP الذى عقد فى القاهرة فى ديسمبر 2014 بالاشتراك مع الجمعية المصرية للعلاجات الجماعية EAGT، قدِّمَت ورقة بعنوان: مدخل من العلاج النفسى لمرضى الصرع (ممارسة تجريبية لمدة عشرين عاما)، قدمتها “كاترين ميلا Catherine Mela “ (5) (أخصائية فى طب الأعصاب ومعالجة نفسية) .جاءت هذه الورقة من منطلق اكلينيكى عملى يوضح علاقة الصرع الأشمل بسائر الأمراض النفسية تمهيدا لشرح دور العلاج الجمعى فى حالات مرضى بالصرْع شاركوا فيه عبر عشرين عاما.
وفيما يلى المقتطفات من هذا البحث رأيت أنها تعلن هذه العلاقة وترجع الصرْع وعلاجه إلى موقعه فى الطب النفسى:
أوردت الباحثة ثبتاً باستعمال مضادات الصرع فى الأمراض النفسية المختلفة كما يلى:
* يجرى استخدام مضادات الصرْع فى كثير من الأمراض النفسية، وإن كانت قد تُسْتَعمل تحت مسمى مثبتات المزاج Mood Stabilizer وقد استعملت بوفرة فى عديد من الاضطرابات النفسية أهمها:
– اضطرابات القلق
– اضطرابات الهلع
– اضطراب ما بعد الصدمة PTSD
– اضطرابات الشيخوخة (بما فى ذلك العته، أحيانا)
– اضطربات النوم Sleep Disorders
التفسير النيوروبيولوجى:
وقد خلصت الباحثة من كل ذلك وغيره إلى التأكيد على جوهرية المطاوعة النيورونية Neural Plasticity للمخ البشرى، وأنه قادر على إعادة التشكيل من خلال التفاعل النشط الدينامى مع العالم الخارجى، بمعنى أن التفاعل مع المجتمع (الواقع الخارجى) يُحدث أثرا نوعيا تشكيليا فى كلية تركيب المخ ونشاطه، وأن هذا يحدث من خلال آليات حركية مثل التماسك السردى Narrative Coherence والتدفق الزمنى Temporal Flow وحركية التبادل والجدل على مستوى الوعى البينشخصى والجماعى المتبادل والتقليد المرآوى (من مرآة!).
وقد جعلت هذه النتائج الباحثة تصك صفة أخرى للمخ هى “المخ المجتمعى” Social Brain للتأكيد على هذا التفاعل الدائم بين خلايا المخ والواقع (المجتمع الخارجى).
ملاحظات كلينيكية:
نحن نتكلم كثيرا عن “المعلومات” سواء وهى مُخـْتـَزَلـَة إلى رموز وعلامات، أو وهى راسخة كـ: “وحدات بيولوجية نشطة” فى تآلف وجدل مستمر، لكننا لا نشير إلى الطاقة بنفس القدر ولا حتى بأقل من ذلك بكثير، وحين وصلتنى نقلة التعامل مع المخ كـ: “مفاعل للطاقة والمعلومات” اهتممت أكثر بالنظر فى طبيعة الطاقة جنبا إلى جنب مع متابعة معالجة وبرمجة المعلومات، علما بأنه لا جدوى من طاقة لا تـُوَظـَّفُ لتشكيل المعلومات بمعناها الأشمل، ليس فقط لتفيد ما تعنى، وإنما لتفعيل ما يمكن. تمادَى تركيِزى من هذا المدخل على العناية بتناول واستيعاب دور الطاقة ومساراتها ربما أكثر من المعلومات.
عمل المخ أعقد من كل تصور، وعلاقة عمله بأجزاء الثوانى علاقة تحتاج بعد الدهشة (والفرحة)، إلى قدر كبير جدا من الاحترام والتتلمذ، خذ هذه المعلومة مثلا:
“إن محاكاة نشاط المخ خلال ثانية واحدة يتضمن 28.944 مفاعلا (معالجا)” (6)
حين توقفتُ أنا أمام هذه المعلومة غمرنى قدر من الاحترام لا حدود له حتى كدت أنحنى لهذا العظيم المسمى “المخ” وأسجد لخالقه عبر ملايين السنين من التطور، لكن فى نفس الوقت تسحب إلىّ قدر من العجز أو التعجيز لا أستطيع وصفه، عجز عن أواصل شرح طبيعة عمله!!.
من هذا المنطلق قرأت خلاصة مناقشة الباحثة “كاترين ميلا” فوصلنى منها أن التفاعل الخلاق فى العلاج الجمعى – حتى مع الصرعيين– يتعامل من خلال الوعى البينشخصى والوعى الجمعى: بكل هذه الدقة فيـُـسْـهم فى إعادة تشكيل المخ: فيحتوى الطاقة لتتوجّه إلى قنواتها التواصلية المناسبة، فيتراجع النشاز الذى كانت تمثله نوبات الصرْع.
فإذا أضفنا إلى ذلك ما ثبت من أن المخ البشرى “يعيد بناء نفسه باستمرار” – ليلا ونهارا– وربطنا بين هذه الحقائق وبعضها، لابد أن نحدد دورنا كمعالجين – وبشر – فى التعامل مع هذا الكيان المعجزة الرائع، – المخ البشرى– لنكون مجرد مُواكبين داعمين لحركيته الطبيعية الخلاقة، واضعين كل إمكانياتنا ومستويات وعى أمخاخنا فى متناوله دفعا لمسيرة وحركية الإبداع فيه أبدا (شاملا علاقته بالأحلام وأيضا علاقته بالجسد: كوعىٍ متعين) (7)
كل ذلك ومثله وصلنى دون تفصيل وبأقل قدر من التنظير من خلال ممارساتى الكلينيكية عامة، وفى العلاج الجمعى بوجه خاص، كما أنه بدا لى مؤخرا أنه كامن وفاعل فى كل نشاطاتى الشخصية وخاصة النقدية.
وبعد
انطلاقا من ذلك سوف أعرض اليوم بعض المشاهدات الكلينيكية لدعم فرض حركية الطاقة المخية أساسا، والحيوية عامة، ومساراتها، وتحديدا: فى العلاقة بين انطلاقها فى نوبة صرْعية، أو إبداعية، قبل احتمال ارتدادها أو انحباسها، ومن ثّمّ المرض.
……………
…………….
(ونكمل الأسبوع القادم)
بعرض “الشواهد الكلينيكية”
[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث أبواب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2022) (تحت الطبع)
– [2] نحت هذه الكلمة “فرطنبضة” ترجمة لـ Extrasystoe فقررت أن أنهج نهج أ.د.على زيعور وأقدمت على نحت هذه الكلمة المضغمة وأرجو أن تكون أكثر تصويرا لما يحدث.
[3] – هذا هو المقابل للمبالغة فى استعمال النيورلبتات الجسيمة لقهر مستوى الوعى الأقدم الغائر المنشط فى الذهان، وهو ما يتجلى فى ظهور الأعراض السلبية والتدهور التدريجيى للشخصية نتيجة للعلاج الدائم المتزايد بالنيورولبتات لمدد طويلة (أحيانا طول العمر)، مما قد يؤدى إلى ظهور حالة الذهان السلبى المتدهور، مما يستحق أن يكون له تفسير موازٍ.
[4] – Neurologist
[5] – Catherine Mela, Neurologist, Group-Analyst “Psychotherapeutic Approach of Brain Plasticity “Board-elected member and chair of the Research Committee of IAGP. Full Member of GAS (London)
[6]-Ryan Whitma,”Simulating one second of human mind brain activity takes 28.944 processors” (2013)
وتترجم كلمة “Processor” إلى “معالج” وعندى تحفظى على ذلك وأفضل كلمة “مفاعل”
[7] – كررت هذا الفرض مرارا وكيف أننى – من خلال الخبرة الكلينيكية – أتعامل مع الجسد باعتباره وعيا متعينا Conscious Concretized ومشارك أساسى فى الإبداع بكل مستوياته.