نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 26-2-2022
السنة الخامسة عشر
العدد: 5292
مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى”(1)
الكتاب الأول: “النظرية والفروض الأساسية” (27)
مقدمة:
نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب، لعله الأهم، أن تُقْرأ نشرة اليوم التى سنقدم فيها ما تيسر من الفصل الثامن،
يحيى
الفصل الثامن
هامش: عن الطاقة والوعى والصرْع!!
مقدمة:
سوف أخصص هذا الهامش الأخير للتذكرة ببعض ما كنت أتمنى أن أضمنه هذا العمل، وفيما يلى هامش واحد عن الطاقة وبعض ما كنت أنوى تناوله.
هذه النظرية التطورية الإيقاعحيوية هى نظرية حركية حيوية إبداعية، والتركيز فيها على النبض المستمر والدورات المتعاقبة لا ينبغى أن يتجاوز أو يقلل من دور دفع الطاقة اللازمة لذلك، ولا تشكيل المعلومات الناتجة من ذلك فى حركية نمائية متواصلة.
إذا كان التوجه الأحدث يركز على أن المخ هو مفاعل للطاقة والمعلومات، ومع التحفظ الواجب على تشبيهه بالمفاعل، فإنه لا مفر من استيعاب حركية الطاقة ومساراتها وتوجهاتها الموجهة لكل هذا النبض والتشكيل حتى نتعرف على أهم أبعاد ما هو طاقة ونحن مسئولون عن الإسهام فى دعمها أو تعديلها فى التوجه الصحيح إلى التأكيد على مواصلة هذا الكائن البشرى إلى ما خـُـلق له، بما خـُـلق به.
عن الطاقة وبعض توجهاتها:
كان الترتيب أن أنتقل إلى تناول علاقة الوعى بالنظرية من حيث أنه أقرب إلى الطاقة، وإلى الدورات، وإلى الإبداع، إلا أننى وجدت أننى سأبحر فى محيط قد يخفى معنى الكلمة لا يظهرها نظرا لتعقد علاقة الوعى بالإيقاع والتفكيك والتشكيل وهو يتداخل مع كل الوظائف النفسية، ولعل هذا هو أصعب مناطق البحث، وأحوجها إلى بدايات جديدة، وفروض قادرة، وأمثلة داعمة، وقد رجعت إلى ماكتبته عنه فى كتابى الإلكترونى “الأساس فى الطب النفسى: الجزء الأول” (2) فوجدت أن الفصل الخاص بالوعى قد احتل أكثر من 300 صفحة وقد أعددته ليصدر في طبعة ورقية تشمل علاقته بالحلم والإبداع بعنوان: “متاهات الوعى والحلم والإبداع”، وآمل أن يصدر قريبا .
دعونا نبدأ بالحديث عن علاقة “الطاقة” بهذه النظرية، ثم نرى:
الطاقة: هى إحدى صور الوجود، فالكون مكون من أجرام وطاقة، ونحن – منذ النظرية النسبية لأينشتاين- نعرف تكافؤ المادة والطاقة، فالطاقة يمكن أن تتحول إلى مادة وبالعكس يمكن للمادة أن تتحول إلى طاقة.
تبدأ الطاقة منذ بداية الحياة ، يولد الجنين وقد تجمعت فيه طاقة الحياة/ التطور
لا يرد ذكر الطاقة كثيرا فى ممارسة الطب النفسى والعلاج النفسى اللهم إلا كعرض إضافى، أو مظهر ثانوى، وليس كقضية وجودية، وأساس جوهرى لما هو صحة نفسية، ودافع ضرورى لحركية الإبداع وحركية الحياة مع أنها هى كل ذلك، هذا هو ما يحتاج إلى مراجعة وإحاطة ورعاية وتنمية واحتواء وتوجيه
الكثير من الوظائف النفسية هى إما «طاقة» أو «تستعمل الطاقة» أو «تحتاج إلى طاقة» خذ عندك مثلا: الدوافع (الغرائز) الانفعال، الوجدان، الإرادة، الإبداع، البرامج البقائية، (التطورية) ..إلخ. وحين لا تجد الطاقة طريقها الطبيعى للحركة والتحريك، قد تدور حول نفسها، أو تهمد، أو تجد مخرجا غير طبيعى (مرضىّ)
فى الممارسة الكلينيكية التقليدية: يجرى التركيز على رصد الأعراض وإزالتها، ثم العمل على توفير الرفاهة واللاقلق، أكثر من محاولة دراسة كيفية استثمار الطاقة الطبيعية فى مساراتها الطبيعية كعلاج ووقاية وحفز لمواصلة الحياة أو الإسهام فى تطويرها.
تتجسد مضاعفات إنكار أو تجمد دور الطاقة فى حالات توقف مسار النضج ودوراته أو إعاقة حركية الطاقة فى صورها الكلينيكية المختلفة، مثل التشكيلات والمآلات السلبية لكثير من الأمراض وخاصة الفصام بعد التناوب ومثل اضطرابات الشخصية بأشكالها!!
فى العلاج النشط، والجذرى، والجماعى، والنمائى، المرتبط تلقائيا بحركية النمو والتطور: تجرى محاولات تنشيط الطاقة من خلال التفاعلات البينشخصية، والتأهيلية والتنموية: لاستعادة حركية نبض النمو، وحفز دورات الحياة، لا تسير هذه المهمة بسهولة خاصة فى حالات الاضطرابات النفسية السلبية، سواء الماثلة فى بعض أنواع اضطراب الشخصية، أو التى تمثل مآلا لمرض آخر مثل المآل السلبى للفصام أو لأى ذهان نشط انتهى بالهمود بعد، وفى هذه الأحوال تحتد المقاومة عادة ما لم ينتصر الموقف النمائى التطورى الإبداعي، وإلا فالمصير إلى الجمود الوجدانى والفكرى فى شكل دفاعات صعبة التحريك، خاصة المنتمية إلى أيدلوجيات أو منظومات فكرية أو دينية متجمدة.
الفروض الأساسية:
(1) الإيقاعحيوى ينظم حركية هذه الطاقة باستمرار من خلال نبضاته الدائمة الاستعادة.
(2) يجرى نشاط مناسب مواكب لتنظيم وتوجيه واستيعاب هذه الطاقة الحيوية لتقوم بدورها فى “العمل” و”العلاقات” و”الإبداع” و”النمو“.
(3) تتواصل حركية متناوبة بين التفكيك والتشكيل (الإبداع والجدل) بين كل المستويات والمعلومات فى دورات متعاقبة ليست مكررة، تماما مادام النبض مستمرا والجدل متصلا.
(4) يرث كل شخص زخما من الطاقة يختلف من فرد لفرد، ومن عائلة إلى عائلة، ثم يتم تدعيمها بالتنشئة من خلال حركية نمائية مختلفة المستويات حسب نوع التربية، ومساحة السماح ودرجة التنشيط، ومسافة الاقتراب، ومواصلة التوجيه، واحتواء العائد .
(5) تتواصل هذه الطاقة فى القيام بوظيفتها الطبيعية لتأنيس الإنسان وتعميق وجوده ودفع نموه بتشكيل مستويات الوعى المتصاعدة، وبالتالى مواصلة الإبداع عبر الإيقاعحيوى بما يشمل إيقاعات النوم والأحلام وإيقاعات التحصيل والإنشاء والتفكيك والتركيب.
المخ مفاعل للطاقة والمعلومات!! ولكن:
حين وصلتنى أطروحة: أن “المخ مفاعل للطاقة والمعلومات” فرحتُ بها أول ما وصلتنى، إلا أننى بمتابعة تفسيراتها ونقدها انتبهت إلى ضرورة إعادة النظر فى فرحتى وترحيبى. بدءاً من استعمال مصطلح «مفاعل»: Processor، فهو مصطلح أكثر استعمالا فى علوم الحاسوب،Computor Science والعلوم الكوانتيةQuantum Sciences المخ أكثر تعقيدا وأهمية من العلاقات الخطية والسببية والخوارزمية، ولست فى موقف، ولا لى قدرة على، الحديث عن ذلك بما يفيد، كل ما أرجوه هو أن نحترم تركيباته المعقدة، وقوانينه المركبة، والأهم والأخطر: تفاصيل برامجه المجهولة على مستوى النيوروبيولوجى مهما أمكن توضيحها فى المجالات السلوكية والحاسوبية والخوارزمية.
إن أحد أعداء استعارة الدماغ ككمبيوتر هو جون ر. سيرل (3) الفيلسوف الذى يجادل بأنه: بما أن أجهزة الكمبيوتر تتبع ببساطة الخوارزميات Algorhythm، فلا يمكنها التعامل مع جوانب مهمة من الفكر البشرى مثل المعنى والمحتوى. لغة الحواسيب هى لغة نحوية وليست دلالية إن ما يتميز به المخ هو ما أسماه «سيرل» قوى المخ العلّية (الغائية أيضا)
وبعد
عن حركية مرض “الصرْع” والطاقة:
انطلاقا من المفهوم الأحدث والأشمل لماهية المخ وأنه يمثل تركيباً هيراركيا من مستويات وعى متصاعدة، فإننى لم أستطع اختزال الصرْع، وهو يغمر هذا الجهاز الرائع (المخ) غمرا بهذا التواتر الجامح، لم أستطع أن أختزله إلى هذا المظهر النَّوْبى من تغير الوعى الفجائى المحدود أو أية نوبة من نوباته بأية صورة أو تبرير.
نبدأ بالتذكرة بأن هناك قول شائع عندنا بين المرضى النفسيين عموما والصرعيين خاصة، يستعمله بعض الأطباء بسهولة، ربما تبسيطا للمسائل تحت إلحاح كثير من المرضى والأهل، فيقول المريض أن عنده “كهربا زيادة فى المخ“، وكثيرا ما أبديت تحفظى على هذا الاختزال، لكنى رحت أفكر فى هذا التعبير من جديد وأربطه بكون المخ، “مفاعل للطاقة” فجاءنى تساؤل يخص الصرْع بوجه خاص يقول:
ولم لا يكون الصرع له علاقة أساسية بهذا الفرض: فرض الطاقة واحتمال فرط زخمها؟، وأن هذه الطاقة إذا تكثفت ولم تجد لها سبيلا فى الابداع أو حمل المعنى أو توثيق العلاقات، انطلقت عشوائيا من أضعف مخرج لها فى المخ؟ فظهرت فى شكل نوبىّ متقطع يختلف باختلاف مخرج مسار الطاقة: فهو الصرْع.
نفس هذه الطاقة – وسوف نعود إلى ذلك – قد يكون فى انطلاقها السوىّ تحفيزا للنمو أو لعلها هى هى وقود الإبداع، وقد يتم تدعيم هذا الفرض بتعداد تواتر الصرْع عند عدد كثير من المبدعين والقادة الذين كانوا مصابين بالصرع وفى نفس الوقت كانوا فائقى الابداع بالغى القدرة وأحيانا مفرطى الطغيان (أنظر بعد).
لقد لاح لى أن ربط هذه الافتراضات مع حركية الطاقة بالمخ، الأمر الذى يختلف اختلافا هائلا بين الأفراد، قد يوضح لنا طبيعة شديدة الأهمية، وهى علاقة الإيقاع الحيوى بحيوية الأداء مع تعدد المسارات للمخ كمفاعل للطاقة بشكل أو بآخر بتجلياتها السلبية والإيجابية:
……………
…………….
(ونكمل غدًا)
الفروض المكمِّلة انطلاقا من الصرْع (فالأمراض النفسية المتعلقة)
[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث أبواب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2022) (تحت الطبع)
[2] – وهو الذى صدر إلكترونيا فى موقعى فى “نشرات الإنسان والتطور اليومية” من النشرة (3/5/2015 حتى 18/10/2015) ولم يكتمل، ولم ينشر ورقيا بعد. www.rakhawy.net
[3] – جون رز سيرل ، العقل مدخل موجز، ترجمة، ميشيل حنا متياس، عالم المعرفة، 2007