نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 3-7-2022
السنة الخامسة عشر
العدد: 5419
مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” [1]
الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (34)
استهلال:
نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب وآمل أن تُقْرأ نشرة أمس قبل متابعة نشرة اليوم التي سنقدم فيها ما تيسر من الفصل التاسع.
يحيى
الفصل التاسع
فحص حالات ذات “طابع” خاص (2)
………………………..
………………………..
سادساً: فحص المسنين:
لا يوجد فرق كبير فى المقابلة فى فحص المسنين عنها فى فحص المرضى عموما، إلا فى حالة وجود اضطرابات معرفية جسيمة، أو نزوية مزعجة، مما يثير صعوبات خاصة ويحتاج لصبر ووقت أكبر، مع الاحتفاظ بالاحترام الواجب طول المقابلة.
وينبغى أن نتذكر أن لكبار السن فى مجتمعنا وضع خاص، وأن الاحترام الذى تعودوا عليه فى الماضى آخذٌ فى التراجع مؤخرا قليلا أو كثيرا، ولابد من مراعاة ذلك، مهما بلغت درجة تدهور قدرات المسن أو ضعفت ذاكرته، ويستحسن مناداته بيا “عمِّى” (أو يا أمىّ) مثلا أو ما يعادل ذلك، أو قد تطلب منه البركة والدعاء، وكل هذا كثيرا ما يذيب الثلج مع كثير منهم.
ولما كان دور الطبيب النفسى فى مجتمعنا هو دور والدىّ بشكل أو بآخر، فيجدر أن نشير إلى أن هذا الدور يظل قائما حتى مع المسنين، أى أن الطبيب والدٌ حتى لو كان المريض أكبر منه سنا بكثير.
وفى حالة التدهور المعرفى الجسيم، أو فقد الذاكرة البالغ، فإن الأمر قد يحتاج إلى أن نتبع كثيرا من الخطوات التى ذكرت فى (فقرة ثانيا ص: 203): “فحص المريض صعب المنال فى حالة سبات” (فقرة: ثانيا) وكذلك فحص المرض ذى السبب العضوى (فقرة رابعا ص:205)
سابعاً : الفحص فى المنزل:
فى الطب النفسى خاصة ينبغى أن تقتصر الزيارات المنزلية على الحالات الحرجة التى لا يمكن أن تذهب إلى الطبيب أو تنقل إلى المستشفى، وليس لمن يستطيع أن يدفع أكثر. ويراعى فى الفحص المنزلى أن تكون المقابلة رسمية مقننة (وليس كصديق زائر كما يميل الأهل أن يزعموا مثل ذلك للمريض أحيانا) وأن يأخذ الطبيب حذره من أية مفاجآت بالنسبة للمرضى فى حالة هياج، وأن يقتصر الفحص على سبب الاستدعاء تحديدا، وتؤجل التفاصيل لفرصة أكثر رسمية، فى مكان أكثر تناسبا (المستشفى مثلا)، ولا يحتاج الأمر إلى التذكرة بالحرص على تجنب فحص أقارب المريض بوجه خاص بالمنزل مهما بلغت درجة قرابتهم أو إلحاحهم.
ثامناً: فحص المرضى من مجتمعات ثقافية خاصة رئيسية أو فرعية
نبـَّـهنا مراراً كيف أنه لكل بيئة وثقافة ميزاتها الخاصة، وبالتالى فإننا نحتاج أن نتعامل مع كل الفئات فى حدود استيعابنا لفروق الثقافات، ولا تقتصر الفروق الثقافية على الفروق القومية، بل تمتد إلى الثقافات الفرعية وفرعية الفرعية، فبالنسبة للثقافات القومية فقد لاحظت – مثلا- أن المريض القادم من اليمن غير القادم من السعودية [2] وكلاهما غير القادم من ليبيا أو المغرب، وهكذا، والاختلاف الذى نعنيه فى هذا الصدد ليس اختلاف تشخيصات فئوية، وإنما هو اختلاف أساسى فى العادات والطباع، وبالتالى فى طرق الحوار وترتيب الأولويات مما لا يمكن تفصيله هنا الآن، لكننا فقط نشير إلى ضرورة مراعاة هذه الفروق الثقافية، والطبيب الحاذق يتعلم من مرضاه أولاً بأول بعض ما يميز أية ثقافة قومية أو فرعية، دون تعميم، وقد يسأل الطبيب المريضَ بلهجته، مثلا يسأل السعودى “إيش بيكِ”؟ بديلا عن “عندك إيه”؟ وحين يسأل المريض اليـَـمـَـنى عن تأثير العلاج “وهل هو “أشكل” الآن” (أى: أحسن)، وهكذا، فإن مثل ذلك قد يذيب ثلج المقابلة الأولى، وبالنسبة للثقافات الفرعية المحلية مثلا فإنه يستحسن ألا يُستشهد بالأمثال العامية المصرية إلا لأولاد البلد المصريين من كبار السن أو المسنين عموما، وهكذا.
تاسعاً: الفحص بغرض تقييم الخطورة، واحتمالية الانتحار:
من العسير تماما أن يتنبأ الفاحص بصورة جازمة متى سوف يقدم المريض على فعل خطر، وربما أقل صعوبة (أو أكثر!!) من ذلك تقييم مدى الاستهداف للانتحار.
أ) تقييم احتمالية الانتحار:
إن احتمال الانتحار حتى الموت مازال محدودا فى مصر والبلاد العربية والإسلامية إذا قورن بالحال فى البلاد الإسكندنافية مثلا أو فى جنوب شرق آسيا (اليابان مثلا).
ويراعى فى تقييم خطورة احتمال الانتحار الانتباه إلى الانذارات التالية:
1- نوع الاكتئاب، فالاكتئاب المقَلقل، Agitated Depression والاكتئاب النَزِقْ، هما الأكثر احتمالا لحدوث حالات الانتحار.
2- ينبغى الانتباه إلى أن إختفاء أعراض القلقلة فجأة، وحتى اعراض الاكتئاب، واختفاء علامات الحيرة، حتى يبدو المريض وكأنه وصل إلى السلامة: كل ذلك قد يكون نذيرا بقرب تنفيذ قرار الإنهاء، بمعنى أن المريض قد يكون قد وصل إلى يقين “عدم الجدوى”، فاستقر على القرار، وبالتالى يمكن أن تكون هذه الإفاقة الظاهرة نذيرا بقرب تنفيذ الانتحار، وليس العكس!!.
3- أيضا: لابد من ملاحظة زيادة الأرق والاستيقاظ المبكر أكثر فأكثر.
4ـ- الاهتمام برصد زيادة الانسحاب والوحدة ومواصلة تجنب المناقشات.
5- الانتباه إلى تغير الالتزام الدينى (مثل التوقف عن الصلاة، وأحيانا الاستغراق فى الصلاة لمن كانوا عكس ذلك).
6- ملاحظة الصمت الزائد، خاصة بالمقارنة بكم التدفق الكلامى الذى ربما كان موجودا قبيل طور الاكتئاب.
7- بعد أحداث اجتماعية أو عاطفية ذات دلالة مثل الزيارات الخاصة ولا سيما من شخص له علاقة دالة بالمريض.
8 – وجود تاريخ سابق لمحاولات الانتحار.
9- وجود تاريخ عائلى للانتحار.
10- وجود تاريخ سابق للاضطرابات الوجدانية الجسيمة والاضطرابات النزوية عند المريض وفى الاسرة.
ملحوظة: الانتحار غير قاصر على حالات الاكتئاب بل يمكن أن يحدث مع أى مريض، (وطبعا من الأسوياء) فى أى وقت.
ب) تقييم الخطورة:
على الطبيب النفسى أن يقدر مدى خطورة مريض ما مع كل فحص بصفة عامة، وبصفة خاصة حين وجود المريض فى المستشفى وقبل الخروج، مثله مثل المريض الانتحارى، وأكثر لأن الخطوره هنا ليست قاصرة على الذات، وانما تمتد إلى الغير، ولا توجد محكات مـُـحكمة لتقييم مدى الخطورة، لذلك لابد من الاجتهاد طول الوقت فى كل اتجاه.
وفيما يلى بعض المعالم التى يمكن أن تكون مؤشرات مباشرة أو غير مباشرة على وجود الخطورة بأية درجة من الدرجات:
1- كلما زادت عدد مرات العنف فى التاريخ السابق زاد احتمال العنف الحالى أو المستقبلى.
2- لا بد من ملاحظة الأعراض النزوية والانشقاقية التى يمكن أن توجد أو تصاحب أى تشخيص.
3- ينبغى الانتباه إلى أن النقلة النوعية المفاجئة، حتى لو كانت إلى أحسن (كما ذكرنا حالا بالنسبة للانتحار): قد تكون منذرة بأمر غير متوقع فى مسار المرض، وبالتالى قد يلحقها ما ينذر بالخطر، ثم حدوث الخطر نفسه.
4- يراعى نوع التدين والاستغراق فيه فجأة حيث قد يكون هذا نذيراً بنكسة محتملة، وقد يصاحب هذا السلوك عودة إلى الخطر، وخاصة إذا كانت الجريمة من النوع النابع من معتقدات دينية تعصبية منحرفة.
5- من المؤشرات الهامة لحسابات الخطورة: سمات الشخصية قبل المرض، فإذا وجدت سمات عدوانية نزوية فى شخصية بارنوية مثلا: فإن ذلك يشير إلى خطورة أكبر من سمات شخصية اعتمادية أو هستيرية، والخطورة لا تستثنى الانتحار.
6- كذلك يؤخذ فى الاعتبار التاريخ العائلى، والثقافة الفرعية النوعية (ثقافة الثأر فى الصعيد مثلا أو ثقافة العنف فى عائلات بذاتها)
7- بقدر ما نتأكد من أن المريض يتعلم من الخبرات السابقة، يمكن الاطمئنان إلى بصيرته المتطورة المانعة للعودة للجريمة، وبنفس الاهتمام علينا الالتفات فى الاتجاه العكسى، فإن مـَـحـْـو الخبرات التى تصل للمريض أولا بأول هو نذير بخطورة متجددة محتملة دائما.
8- يعتبر العنف الشاذ أو العشوائى أخطر من العنف المُبَرَّر (حتى على أساس مرضى)، ذلك لأنه لا يمكن التنبؤ به من خلال منظومة فكرية معينة، ومن العنف الشاذ ما يترتب عنه ما يسمى بـ “الجريمة بلا دافع” و”الجريمة غير المـُـميــِّـزة” (أى التى تقضى على ضحاياها دون تمييز، وعادة دون معرفة بهم) وبناء على ذلك فإن مرتكبى مثل هذه الجرائم لابد أن يعاملوا بحذر أكبر.
9- أحيانا يكون ثبات تبلد الشعور، وخاصة إذا كان مصاحبا بنوبات نزوية ولو متقطعة أو ميول سادية (التمتع بإيذاء الآخرين): يكون أكثر نذيرا بالخطر من تذبذب الانفعالات أو تبدّلها بشكل متماوج طول الوقت.
10- يوضع أيضا فى الاعتبار التغير المفاجئ فى نمط النوم والأحلام (وخاصة الأحلام الذهانية:) فقد تكون منذرات لبداية نوبة هياج أو عدوان شديدة.
11- عدم الانتظام على تعاطى العقاقير نذير خطر فى الحالات المستهدفة لاحتمالات الخطورة.
12- لابد من تقييم نوع البصيرة وعدم الاطمئنان لظاهر التعلم والوعود اللفظية، حيث أن البصيرة النظرية المعقلنة قد تخدع: لأنه لا يترتب عليها تعلـّـم كاف يغيـّـر السلوك.
13- يؤخذ فى الاعتبار أيضا استعمال الكحول والمواد المخدرة وخاصة بطريقة دورية أو نزوية أو ملحة، فمن ناحية يعتبر كل هذا استمرارا لمظاهر الاضطراب، ومن ناحية أخرى فإنه تحت تأثير هذه المواد يكون الخطر أقرب، والعنف أسهل.
14- المرضى بلا مأوى معرضون أكثر لازدهار الأعراض، وعدم الامتثال للعلاج وخاصة العقاقير، وبالتالى العودة للعنف أو الانتحار.
15- التاريخ العائلى للمرض العقلى ككل، وبوجه خاص للفصام والبارانويا والشخصية المضادة للمجتمع، وسوء استعمال العقاقير، واضطرابات ضبط النزوات، بالإضافة إلى الصرْع، ثم وجود مصادمات متعددة مع القانون، وربما جرائم عنف فى العائلة سواء المرضى منهم أو غير المرضى، كل ذلك لا بد أن يعتبر من مؤشرات الخطورة.
16- لابد أن يـُثـْبـِت الطبيب كتابةً فى أوراق المريض، خصوصا إذا كان نزيلا بالمستشفى كل الاجراءات التى اتخذها والعقاقير والاحتياطات والتعليمات التى أعطاها للمريض وأهله، وذلك توقيا لاحتمال الخطورة بعد الخروج من المستشفى أو أثناء السماح بإجازه مؤقتة، وذلك تحسبا للمساءلة القانونية.
(ج) الفحص لغرض تقدير أهلية التصرفات القانونية
مثل كتابة وصية، أو التصرف بالبيع والشراء فى حالة طلب أحد الأطراف ذلك، أو تكليف الجهة القضائية بذلك.
-
على الطبيب أن يعلن للمفحوص مهمته من البداية، ومصدر تكليفه بهذه المهمة، والجهة التى أرسلته.
-
ينبغى أن يراعى الطبيب توضيح مهمته والتزامه بأداء الواجب لا أكثر ولا أقل.
-
يمكن حضور قريب يثق فيه المفحوص المقابلة، إلا إذا رأى المفحوص غير ذلك.
-
بالإضافة إلى فحص القدرات المعرفية العادية عند المريض مثل قدرة التعليل ولو بطريقة غير مباشرة، وبعد اكتساب الثقة بطريقة مباشرة، قد يستعصى على المفحوص تحديد الموضوع المختـَـلف حوله، ودوافع التصرف فيه، وحدود حقوقه وحقوق الآخرين تجاهه، ومدى تقديره للمسئوليات المترتبة على موضوع الخلاف، وتؤخذ كل هذه الإجابات باعتبارها من مصادر الإلمام بقدرات المريض الأمر الذى يتكامل مع المصادر الأخرى فى حدود تقييم الجهة القانونية الرسمية المنوطة بذلك.
(وقد يتطرق الأمر إلى الاستفسار دون إلحاح عن مدى إدراك المفحوص عن القيمة المادية الحالية (وقت الفحص) لموضوع الخلاف، وربما مقارنة بقيمته الأصلية.
كما قد يحتاج الأمر لاستعمال بعض الاختبارات لتحديد كفاءة الوظائف المعرفية.
………………………..
………………………..
(ونواصل الأسبوع القادم)
___________________________________
[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث كتب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، وهو (تحت الطبع) ورقيا، إلكترونيا حاليا بالموقع: www.rakhawy.net وهذه النشرة هي استمرار لما نشر من الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمىّ بمهارة فنية”.
[2] – كما أن المريض القادم من الزمالك غير القادم من عزبة القصيـّـرين بغمره، والقادم من رشيد غير القادم من نجح حمادى وتمتد الفروق من الثقافية الجغرافية إلى الثقافة الدينية باعتبار الدين من مكونات الثقافات الأساسية ظاهراً وباطناً، وليس معنى ذلك أن هذا يتطلب تميزا معينا