نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 2-7-2022
السنة الخامسة عشر
العدد: 5418
مقتطفات من: “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى”[1]
الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمى بمهارة فنية” (33)
استهلال:
نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب وآمل أن تُقْرأ نشرة الأسبوع الماضى قبل متابعة نشرة اليوم التي سنقدم فيها ما تيسر من الفصل التاسع.
يحيى
الفصل التاسع
فحص حالات ذات “طابع” خاص (1)
مقدمة:
كل ما سبق تقديمه هو أساس شامل لمعظم الحالات التى نلقاها فى الممارسة الكلينيكية، وخاصة فى العيادة الخارجية، لكن ثمة حالات لها وضع خاص لا يمكن التدرج معها بنفس الخطوات السابقة حرفيا سواء لظروف طبيعة المرض أو لعوامل أخرى خاصة ومميزه، وهذه الحالات تحتاج لاقتراب خاص ومهارة معيـّنة ، وهو ما سوف نعرض بعضه فى هذا الفصل:
أولاً: فحص المريض فى حالة “خرس”:
قد يأتى المريض وهو لا ينطق بحرف واحد، سواء كان ذلك لعاهة قديمة، أوكجزء من المرض النفسى الحالى، وفى حالة الإعاقة العضوية السمعية لا يكون الأمر بنفس الصعوبة إذ يمكن التفاهم معه كما اعتاد بالإشارة، وبتعبيرات الوجه، وبقراءة الشفاه.. أو حتى الكتابة إلخ، أما فى حالة الخرس كـَـعـَـرَض نفسى ظهر لاحقا كجزء من الصورة الكلينيكية النفسية فيمكن اتباع ما يلى:
(1) أحصل على القدر المناسب من المعلومات من الأهل ولكن لا تكتــفـِى بذلك، وانتبه إلى وجود المريض معهم فهو مشارك فى الحوار بالاستماع برغم خرسه.
(2) لا تنس أن الخرس قد يكون نتيجة مرض عضوى مثل الحبسة ([2]).
(3) حاول أن تحدد نوع الخرس من خلال الافتراض المبدئى لنوع المرض، فالخرس نتيجة لتحول هستيرى([3])، ليس مكافئا للخرس كجزء من السُّبات الاكتئابى([4]) أو للخُلفْ عند الفصامى أو الكاتاتونى([5]) (طبعا بعد استبعاد السبب العضوى عامة).
ثم حدد معاملتك لكل حالة فى إطار معرفتك عن طبيعة ومعنى وهدف الخرس ووظيفته في كل حالة وذلك من خلال الفروض المتاحة، ولا بد أن يختلف موقف الفاحص حسب الفرض، فالتجاهل (العلاجى) فى حالة الخرس الهستيرى، غير الاهتمام المثابِر فى حالة الخرس الكاتاتونى، غير الاحترام الصبور فى حالة الخرس الاكتئابى.
وتذكـّر أنه فى الأطفال (ونادرا فى الكبار) يكون الخرس الانتقائى([6]) في أغلب الأحيان موقفيا فقط، وبالتالى عليك أن تنتقى الموقف المناسب لإمكان الحوار للفحص ثم للعلاج، أما إذا كان الخرس جزءا من سبات كامل فانتقل للفقرة التالية:
ثانياً: فحص المريض صعب المنال Inaccessible Patient مثلا فى حالة “سبات”Stupor
1- لا بد أن تحدد ابتداء حالة الوعى، وبعد التأكد من أن الوعى ليس دالا على أن الحالة هى حالة نتيجة مضاعفات عضوية، أى أنها -مثلا- ليست حالة هذيان([7]) حاد أو تحت الحادْ([8]) يمكن التعامل مع الحالة على أنها حالة سبات، أما إذا كان السبات (أو ما يشبه الغيبوبة) بسبب حالة هذيان فانتقل إلى فقرة: فحص حالة الهذيان.
2- تذكر أن بعض المرضى فى سبات قد يصابون بهياج خطير مفاجئ، فلا بد من أن تضع هذا الاحتمال فى الحسبان طول الوقت، من حيث حضور التمريض، والاحتفاظ بمسافة آمنة.. الخ.
3- لاحظ إن كانت العينان مقفولتين أم مفتوحتين، فإذا كانتا مقفولتين، لاحظ إن كانتا تـَطـْرِفان (ترمشان) أم لا، ثم حاول فتحهما وانظر هل هناك مقاومة لفتحهما، فإذا كانتـا مفتوحتين فمرِّرْ شيئا أمام العين وانظر هل تتبع العين حركة الشيء أم أنها ثابتة تماما طول الوقت (وفى كل استجابة سوف تستنتج، مع سائرالأعراض، الاحتمال الأرجح للصورة الكلينيكية والتشخيص الأرجح ولو كفرض مبدئى).
4- إفحص التوتر العضلى للتعرف عما إذا كانت هناك أية يبوسة، ثـُم عمـَّا إذا ما كانت هذه اليبوسة تتصف بالخُلفْ([9]) أم لا، أى أنها يبوسة تزيد مع زيادة ضغط المحاولة أم أنها بنفس الدرجة طول الوقت، أو تلين كلما خفَّت المحاولة.
5- دقق فى تعبيرات الوجه، وبعض الإشارات العضلية إن وجدت، وقد تستطيع أن تستنتج بعض الأعراض مثل احتمال وجود هلاوس، أو إشارات يأس، أو استغراق فى عالم خيالى.. إلخ.
6- ثمة أعراض يمكن رصدها والمريض فى سبات مثل التصلب الشمعى([10])، وهو احتفاظ المريض بوضع الجسد أو بعض الأطراف فى الوضع الذى يشكله الفاحص دون الرجوع إلى وضعه السابق كأنه تمثال من شمع لين قابل للتشكل.
7- إبحث عن أى تاريخ نوبة مماثلة حدثت من قبل فقد تجد فى ذلك ما قد يساعدك فى التعرف على طبيعة النوبة الحالية، ولكن لا تسارع فى الحسم أو الإصرار على ضرورة التشابه الكامل.
8- تذكر أن المريض حتى وهو فى سبات عميق، قد يكون فى حالة انتباه سلبى شديد الحدة، وبالتالى كن حذرا فى الحديث عن المريض بما يزعج أو ييئِس أو يَجْرح، وتصرَّف باعتباره أحد الحضوراليقظين المشاركين فى الحوار.
9- عاود الفحص مرارا وتفصيلا خطوة خطوة، وقطعة قطعة كلما أمكن ذلك، وكلما لزِم ذلك.
ثالثاً: فحص المريض فى حالة “هياج”
1) لا تشغـلك ضرورة محاولة ضبط الهياج بالحقن الكيميائى أو بالتدخل المواجهى المباشر عن أن تلاحظ المريض بدقة وإمعان.
2) يمكن من خلال الملاحظة الدقيقة التعرف على نوع الهياج على وجه التقريب كالتالى:
-
الهياج الغامض المصاحب بدرجة من غيامة ولو طفيفة فى الوعى: قد يشير إلى هياج عضوى (هذيان حاد أو تحت الحاد).
-
الهياج المتوجس (المتلفـِّت) قد يشير إلى حالة بارنوية.
-
الهياج المندفع الأعمى قد يشير إلى هياج صرْعى.
-
الهياج النشِط الثرثار، الغضبان، أو المُسْـتـَثار، أو المتعدى، أو شديد المرح، قد يشير إلى هياج هوسى.
-
الهياج المستثار قد يشير إلى هياج نزوى نتيجة لعدم الكف، وأحيانا استجابة لضلالات بارنوية مهددة، أو ردًّا عليها.
3) لاحظ أن الفترة السابقة على الهياج مباشرة قد تعطى معلومات شديدة الدلالة تساعد فى تشخيص نوع الهياج، فاسأل عنها وأحسن الإنصات لمحتواها، وانتبه إلى ظهورها قبيل نوبة الهياج.
4) إنتبه لعدم استثارة الهياج المعانـِدْ (كنوع من الخـُـلف) الذى يظهر فجأة هادفا مؤذيا وقويا ضد أية محاولة لفرض رأى أو فعل.
5) أعد الفحص بعد الهدوء النسبى ولا تعتمد على (ولا تهمل) الافتراضات المبدئية التي رجـّحتها عموما أثناء أى فحص أوّلى.
رابعاً: فحص المريض فى حالة “مرض عقلى ذى سبب عضوى محتمل”
يضاف إلى الفحص العام بعض الاختبارات الكلينيكية العملية التالية:
1- الإختبارات المكانية البصرية، والاختبارات البنائية
-
أطلب من المريض أن يغلق عينيه بعد النظر حوله فى الحجرة ثم أن يعدد ويشير إلى مكان الموجودات بالإسم.
-
إعرض على المريض – وخاصة إن كان يقرأ ويكتب- أشكالا مرسمومة ثم إبعدها واطلب منه أن يعيد رسمها.
2- اختبارات المهارة اليدوية والمهارة الإصبعية:
أطلب من المريض أن يطرقع أصابعه أو أن يلضم عقدا أو أن يرتب أعواد الكبريت بطريقة معينة. (وسوف تظهر هذه الاختبارات أى احتمال لـ “اللاأدائية” Apraxia أو عسر الأدائية).
3- العـَمَهْ: يمكن أن يكتشف الفاحص (بعد التأكد من سلامة أعضاء ومسار الإحساس) نوعاً من العـَمَهْ Agnosia من فحص المنطقة أو الوظيفة التى لا يستطيع المريض فيـها أن يدرك أو يتعرف على المثير، ومن ذلك:
-
عمه التجسيم: هو فشل التعرف على الأشياء (ذات الأبعاد الثلاثة) التى نضعها فى يد المريض وهو مغمض العينين.
-
عمه التوضيع: هو فشل المريض أن يحدد موضع الشيء الموضوع على جلده.
-
عمـه الكتابة: هو فشل المريض (غير الأمى) أن يتعرف على ما يكتبه الفاحص على جلده من حروف أو كلمات.
كذلك ينبغى أن نختبر القدرة على التعرف على اليمين من اليسار وهذا من أبسط الاختبارات.
4- إن أمكن فحص اللغة من حيث صعوبة النطق (الرته) أو التهتهة أو العُـقلة، وعجز التكوين (الحبسة) فقد يساعد على تجاوز الصعوبة ولو بدرجة بسيطة.
خامساً: فحص الأطفال
فحص الأطفال يختلف حسب السن، والمعروض هنا يخص أساسا من هم فى السن بين الثالثة والسابعة([11]) مع تذكر أن الأطفال الأصعب تناولا مثل حالات الذاتوية الطفلية Autism، وحالات التخلف العقلى الجسيم، وذهان الطفولة، يحتاجون إلى اعتبارات ومهارة خاصة أكثر تفصيلا، ويقوم بها عادة مختص في علم النفس أو “القياس النفسى” أو “طب نفسى الأطفال”.
(1) لابد من مراعاة وجود الطفل طول الوقت، بمعنى أن نفترض أن أية كلمة أو تعليق مهما بلغت صعوبته أو غرابته سيصل للطفل، وأن الطفل فى أى سن سوف يلتقط ولو بعضاً مما يجرى حوله، إن لم يكن بنص الألفاظ فسوف يصله بعض ما وراء الألفاظ، والطفل يلتقط بوجه خاص الشعور بالرفض، والإهمال والسخرية، والاستهانة حتى لو لم يبد عليه أنه التقط أيا من ذلك.
(2) كلما كان سن الطفل يسمح (وأغلب الأعمار تسمح!!!) فلتبدأ الحديث معه (وليس ابتداء مع الأم مثلا، ثم تنتقل إلى الأم أو الأب إن حضَر).
(3) عـَرِّف الطفل بنفسك، إفعل ذلك دون تفصيل أو تردد، ولا داعى لذكر أنك “طبيب نفسى”، إلا إذا سألك، واشرح له بأبسط الكلمات أن معنى ذلك أنك طبيب تساعد من يحتاج مساعدتك.
(4) لا تدع الوالدين يتكلمان طول الوقت نيابة عن الطفل بضمير الغائب خاصة وهو حاضر، وكأنه غير مسموح له بالمشاركة أصلا، ويمكن “مقاطعة” أى من الوالدين ودعوة الطفل للمشاركة فى أى وقت.
(5) بعض الوالدين يكذبون على الطفل زاعمين أنهم فى زيارة لبعض الأصدقاء، ويستحسن أن يصحح هذا مبكرا جدا، ومباشرة دون شجب ما فعل الوالدان بقسوة أمامه، ربما مع شىء من الإيضاح لمبرراته الوالدية الطيبة.
(6) لا تجعل المكتب حاجزا بينك وبين الطفل طول وقت المقابلة، دعه يجلس فى مواجهتك دون حائل أو بجوارك ولو بعض الوقت إذا سمح اللقاء والأثاث بذلك فى الوقت المناسب.
(7) إذا أمكن: يستحسن عمل جزء من المقابلة فى حجرة اللعب الخاصة: للأطفال الأصغر.
(8) لا تحرص على أن تحصل على كل المعلومات فى مقابلة واحدة، خاصة المقابلة الأولى.
(9) ناد الطفل باسمه مباشرة أو باسم الشهرة أو اسم التدليل الشائع إن عرفت أيهما.
(10) لا تُخْرج الطفل لتختلى بالوالدين فى نفس المقابلة، ما أمكن ذلك.
(11) يمكن الحصول على تفاصيل التاريخ الأسرى وغير ذلك من الوالدين فى مقابلة مستقلة.
(12) لا تسارع بعمل اختبارات نفسية هكذا خبط لصق، إذْ لابد من إرساء علاقة أولا.
(13) لا تعتمد على رأى الأهل فى ذكاء الطفل، فمعظم الأهل – فى مصر والبلاد العربية- يرون أطفالهم أذكى الأطفال وأفضل الأطفال مهما تعثروا أو تأخروا، وفى المجتمع العربى عامة، أو المصرى على حد علمى، يعتبر المتخلف أحيانا ذا مواهب خاصة تصل إلى درجة التبرك به، وبالتالى يعطون معنى لكل ما يخرج عنه، وأيضا بعض الأمهات لا يفرقن بين الذكاء والذاكرة، ولكن كثيرا ما تقول أم من الأمهات عن طفلها (المتخلف) أنه “من ناحية ذِكـِى ذِكـِى، بس هيـّه الذاكرة”!! ومعظم الأمهات – المصريات على الأقل – يعتبرن أطفالهم متميزين جدا جدا تحت كل الظروف.
وقد كتبت فى ذلك على لسان إحدى الأمهات ما سبق ذكره قصيدة “طفلى الخاص” (ص 106).
(14) يظل الفحص الجسدى شديد الأهمية للطفل مثـلما هو للبالغ، ولكن ينبغى أن نتذكر صورة الطبيب عند بعض الأسر المصرية والعربية، حيث أحيانا ما تستعمل الأمهات التهديد بالذهاب إلى الطبيب، وإعطاء الحقن كنوع من العقاب، وبالتالى فإن الفحص الجسدى قد يحمل هذه الصورة، وعلى الطبيب أن يستعد لنفيها بشكل أو بآخر (ليس فقط بالألفاظ).
(15) تذكر أنه كثيرا ما يكون الطفل سليما تماما وأن المشكلة فى معلومات الأم أو قلقها، أو غير ذلك، أو ربما فى الأسرة كلها، وقد تحتاج الأم إلى تشخيص مستقل أو ربما يشمل التشخيص الأسرة كلها أيضا.
(16) عند كتابة تقرير عن الطفل، للمدرسة مثلا، ينبغى أن يكتب بالتفصيل، وبلغة سهلة، ليخدم الهدف المحدد المطلوب له التقرير.
………………….
………………..
(ونواصل غدًا)
______________________________
[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث كتب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، وهو (تحت الطبع) ورقيا، إلكترونيا حاليا بالموقع: www.rakhawy.net وهذه النشرة هي استمرار لما نشر من الكتاب الثانى: “المقابلة الكلينيكية: بحث علمىّ بمهارة فنية”.
[2] – Aphasia
[3] – Conversion hysteria
[4] – Depressive Stuper
[5] – Catatonia
[6] – Elective Mutism
[7] – Delirim
[8] – Acute or Sub-acute Delirious state
[9] – Negatirsm
[10] – Waxy flexibility
[11] – على أنها يمكن تطبيقها بشيء من التحوير فى أعمار أخرى.