نشرة “الإنسان والتطور”
الإثنين 10 -9- 2018
السنة الثانية عشرة
العدد: 4027
(مقتطفات متفرقة) من أعمال يحيى الرخاوى: النقدية والإنشائية والإبداعية
…………
مقتطفات اليوم:
من الترحال الأول، بعنوان “الناس والطريق” (1)
(المقتطفات مرقمة بهدف محدد : هو ألا يحسب القارئ أنها يمكن أن تقرأ متصلة بعضها ببعض، وفى نفس الوقت ، لعل هذا الترقيم يؤكد التسلسل)
…………………………..
…………………………..
…………………………..
(من مقدمة العمل كله)
(1)
قبيل 21 أغسطس 1984:
لظروف خاصة، وفاءً لوعد قديم، قررت أن أقوم بهذه الرحلة المحدودة (رحلة الأسابيع الأربعة)، فالتمست لها هدفين، علّهما يخفيان ـ ولو عنّى ـ الدافع الأصلى: أولهما: تجديد الوعى بمثيرات طازجة عهدتُها مع التَّرحال. وثانيهما: التعرف على أولادى أكثر، فى محاولة جديدة لكسر الوحدة.
قبل أن تبدأ الرحلة، تيقّنت من فشل الهدف الثانى؛ حيث أُجهـِض فى محاولات تمهيدية، وذلك حين تبيّن لى حجم المسافة التى بينى وبينهم، وأن هذا الهدف، وهو الاقتراب الذى أنشُده، هو نوع من الحلم الخاص المتكرر، حلم يطفو على السطح فى أوقات الضعف القهرى، حين أكون أقرب إلى اهتزازى، وفى الوقت ذاته، أكثر وعيا بطبيعة نهايتى كفرد؛ فأستشعر الموت يزحف فى يقين الواثق من غلبته فى النهاية، فأعمّق وعيى به، وإذا بى أندفع نحو الآخرين بشغف أكثر، وحاجة أشد. فى هذه المرة، تصوّرت أن الفرصة متاحة للاختلاء بأولادى بعيدا عن رتابة العلاقة الفوقية من جانبى، والاعتمادية من جانبهم، إلا أننى قبل أن نبدأ أدركت ـ بلا جديد ـ أن محاولة عبور مثل هذه المسافة، بينى وبينهم، قفزاً أو قسراً، ليس وراءها إلا أوخم العواقب، فتراجعت.
…………………………..
…………………………..
(2)
…. حملتُ كتبىِ وناسىِ ونفسىِ وتوكلت، تفتحتْ مسامـِّـى. عرفتُ أننى فى حالة انتظار إيجابى لأمورٍ تستأهل.
علاقتى بالكتب حالة كونى مسافرا تحتاج إيضاحا خاصا، فأنا أشعر أنى بغير كتاب فى صحبتى، كالذى يمشى عاريا فى شارع مأهول بالغرباء، ودائماً آخذ معى من الكتب ما يثقل الوزن حتى يهدد المسموح به فى الطائرة، وقد تضيق بذلك زوجتى (سراً عادة)، وقد تتوقع ـ لا شعوريا فى الأغلب ـ أن يكون هذا الثقل على حساب ما تأمل فى شرائه، على الرغم من وعدها بغير ذلك. أنا لا أطمئن إلا وفى صحبتى عدد متنوع من هؤلاء الأصدقاء الكتب، ثم إن السفر هذه المرة كان بالباخرة، قائدا لحافلة صغيرة (أتوبيس صغير – ميكروباص) ، فلا مشكلة وزن أو حجم شاذ، ذهابًا وعودة، ولا تنافس بين كتبى ومشترياتها، فأعددت حقيبة مستقـلة للكتب، وبها من المراجع ما يلزم، لكننى، ولأول مرّة، وجدت نفسى أفتحها عنوة ليلة السفر، بعد أن تيقنت من خبرتى السابقة، وطبيعة المسافة التى تنتظرنى لأقطعها قائدا الحافلة الصغيرة، أننى لن أستطيع أن أمسّ هذه الكتب طوال الرحلة، فى حسمٍ مؤلم: تركتُ الحقيبة بما فيها مغـلقة، لكننى استدرتُ فمددت يدى إلى ملحمة حرافيش محفوظ، وجمعت البطاقات التى كنت قد سجّلت عليها ملاحظاتى على هذه الملحمة، وقدَّرت أنه يمكننى أن أرحل فى زمان هذه الملحمة حالة كونى مرتحلا فى أرض الله الواسعة، ويا حبذا لو صحبنا جارثيا (مائة عام من العزلة)، فحملت الملحمتين معاً، وقلت لعلى واجدٌ فيهما ما يصلح للمقارنة أو الإلهام بالتبادل.
…………………………..
…………………………..
(3)
…. كلما ألقيت بنفسى ـ أو ألــقِىَ بى ـ فى الطريق، خارج النفس الغالبة، وخارج الديار، رحت أعيد النظر فى نفسى وفى الناس – لا كما رسمتُهم لنفسى ولا كما اعتدت عليهم، فأستسلم لاقتحامهم الرائع، فأتجدد، ويتحرك الوعى إلى ما يمكن.
ليكن. وليكن من بين ما يتحرك هذا القلم بيدى.
فهل يا ترى هذا هو ما يسمى “أدب الرحلات؟
…………………………..
…………………………..
(4)
…. أديب السفر يعامَل باعتباره أديبا، لا مؤرخا، ولا رحالة مسجِّلا، فهو يكتب نفسه ابتداء، وينجح ـ مثل كل أديب ـ بقدر ما يستطيع أن يعرِّض نفسه لـلتجارب، وبقدر ماتسمح له مسام وجوده باستنشاق الآخرين، وبقدر ما تتيح له مرونة أفكاره بإعادة النظر وتفجير شرارات التغيير من خلال تصادم الاحتكاك، وبقدر ما يستطيع أن يصوغ كل ذلك بأدوات مهارته، حالة كونه مسافراً.
…………………………..
…………………………..
(5)
….. هذا السفر الذى أنتزع نفسى إليه، أو ترغمنى الظروف أو المصادفات عليه، هو الذى يحرك وعىيى إلى حيث لا أعلم، اكتشفتُ بمحض الصدفة أنّ أكثر من نصف ما كتبته مما قد يسمّى شعراً، كتبته فى “حالة سفر” (2) استطعت أن أرجح من خلال ذلك أننى بمجرد أن أتخلص من الإغارة السرية المتسحبة المستمرة على وعيى بالمؤثرات الرتيبة الباهتة، وأيضا بالضغوط الملحّة الجاثمة، تتفجّر من داخلى الرؤى المؤجَّلة، والمهمَـلة، والكامنة، والعنيدة، فأعيد تنظيمها “لأقول” بالأداة التى تحضرنى.
انتبهت من كل ذلك إلى وظيفة السفر عندى، وقلت لعل ورطتى فى سفرتى هذه، تكون فرصة جديدة أتعرف من خلالها على بعض أبعادى، لا على بعض أولادى كما تصورت أولاً، وأمِلتُ -ربما كبديل – أن أسمح لبعض نفسى، مما أعرف ومما لا أعرف، أن تنساب منى، وأنا أجرب هذه الأداة الجديدة، والتى قد تسمى أدب الرحلات ستراً وتحايلاً، وإن كانت قد انتهت لتكون أقرب إلى السيرة الذاتية، أو لعلها تتراوح بين هذا وذاك، فهى ترحال بين الداخل والخارج طول الوقت، (ثم تطور الأمر لأسميها “أدب المكاشفة”، وليس حتى “أدب الاعتراف”).
…………………………..
…………………………..
(6)
….لا أفهم أسفار المشتريات الاستهلاكية، ولا أسفار المؤتمرات العلمية (شبه العلمية). بل إننى لا أفهم أسفار السياحة بمعنى زيارة التاريخ والآثار؛ حيث يكون الهدف الأهم هو التجوال “حول الأطلال” و “داخل المتاحف”. كم من مرّة مازحتُ فيها مرافقىّ فى بعض أسفارى، ونحن نزور الأماكن “المقررة” (مثلا: عمارة الإمپاير ستيت أو تمثال الحرية) فأقول ونحن نلتقط الصور بجوار هذا المَـعـْلمِ أو ذاك: “وهكذا تم التوقيع فى سجل تشريفات “سيدنا الأثر “الفلانى” بعد دفع المعلوم فى صندوق النذور”، فلزم التنويه!! حتى إذا سأَلـَنا سائل عند العودة عن هذه الأماكن، أو إذا ذُكِــرَتْ أسماؤها بانبهار أمامنا، شاركنا بإيماءةِ رأسٍ أو نظرة أُلفة، وبالتالى ننضم ـ ولو منتسبين أو أعضاء شرف ـ إلى فصيلة من يعرف هذه الأسماء المشهورة التى يدور حولها الأكابر والمثقفون والساسة المسافرون فى فخر وزهو فوقيّـين.
نعم، كل هذه الأسفار لا تستأهل لدىّ شد الرحال، ومع ذلك فإنه حتى لو شاركتُ فى مثلها لبضعة أيام، فإنى أمارس خبرة تفجير الداخل، وتفتح المسام، بطريقة تجعلنى أعود ـ حتى رغما عنى ـ مهزوزاً منتعشاً مفكِّراً أبحث عن بدايات جديدة، أو أعيد وزن أفكار قديمة، أو كليهما….
وبعد
لست متأكدا إن ” كان اثنين” الأسبوع القادم سوف يكون من نصيب نفس العمل أم من غيره؟
عذرا، ولا مانع من تلقى ما تروْن دون التزام منى، إلا بأن يظل الاثنين مخصصا لمقتطفات من هذا النوع وليس بااضرورة من ننس العمل.
[1] – يقع هذا العمل ما بين السيرة الذاتية و أدب الرحلات، وكنت أتصوّر أننى سوف أنجح أن أصنّفه إلى أى منهما فلم أنجح. والعمل يوجد كاملا فى طبعة ورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
[2] – أنظر الترحال الثالث “ذكر ما لا ينقال” إن شئت (منشورات جمعية الطب النفسى التطور، سنة 2000)