نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 29-10-2018
السنة الثانية عشرة
العدد: 4076
(مقتطفات متعلقة) من أعمال يحيى الرخاوى
النقدية والإنشائية والإبداعية
(رواية “الواقعة”) (1)
الجزء الأول: من ثلاثية “المشى على الصراط”
مقتطف من الفصل السادس:
“الزيارة”
“…………….
للمقابر عندى معان مختلفة حسب الظروف والهدف من الزيارة، فهى: العيد والبلح، والطيارة الورق، والمراجيح، أو هى العفاريت والظلام والأرواح والجان، أو هى عذاب القبر وحساب الملكين، أشعر هذه المرة بمشاعر جديدة، أشعر أنها ليست مقابر يسكن فيها الموتى، ولكنها شكل آخر من أشكال الحياة، كأن الحد الفاصل بين الحياة والموت قد اختفى عندى حتى اختلط بعضهما ببعض فأصبحت أحس بأنى فى وادى الملوك عند الأستاذ نصحى، فى حين أنى فى مساكن الذين عرفوا الحقيقة وبخلوا علينا بها وأنا أزور المقابر.
توجهت إلى قبره مباشرة وأنا أفتقد أية مشاعر مثل الشوق والحنين مثل أيام زمان، حتى الرحمة لم أترحمها عليه، أحسست أن الحكاية مستمرة بشكل أو بآخر ولا داعى لكل هذا الجزع لمجرد الجهل بهذه الحقيقة الواضحة: “الحكاية مستمرة”، صرفت المقرئين والعجزة الذين تعودوا أن يحوموا حولى كلما ذهبت إلى هناك لأنى لم أجد مبررا لوجودهم هذه المرة، نفحتهم المعلوم وكأنهم قاموا بالواجب المعتاد كاملا، أردت أن أختلى به ربما أعيد التعرف عليه فى هذه الظروف الجديدة، اقتربت من المقبرة وأخذت أدقق البصر حتى وجدته جالسا يمسك بمسبحته الطويلة ويتمتم بالوِرْد الذى لا ينتهى أبدا، يهتز أحيانا ويتصلب حينا وينتفض نادرا، ولكنه مستغرق فى دنياه الخاصة طول الوقت، ليست صورة رمزية نتيجة للتصور والخيال، وليست روحا تجسدت مثلما كنت أسمع فى حكايات الرعب، لم تخالجنى ذرة خوف، كنت متأكدا أن وجوده لاجدال فيه وقد تمثل لى حتى عشته بعمق ربما أكثر من أى وجود آخر يدعى الحياة لمجرد أنه يخرج أصواتا من فمه، كنت فى كامل وعيى أعلم تماما أن ما أراه ليس مجرد منظور للعين، كنت أحس أنه جزء منى أو من الطبيعة الكونية التى هى أنا أيضا بشكل أو بآخر، لا ذرة خوف ولا مجال للتساؤل عن طبيعة الأشياء، عجبت لهذا التحول الذى قلب كيانى فجعلنى أخاف من سلالم دارنا وكنت أقفزها ثلاثة ثلاثة وأنا صغير، وفى نفس الوقت أذهب عنى الخوف وسط المقابر والأرواح، وقد كنت أرعب لمجرد سماع سيرتها.
جلست على الأرض مسندا ظهرى إلى جدار قبره ونظرت إلى الأفق الرمادى، مازال هذا الوجود الحى متمثلا أمامى رغم أن ظهرى للقبر، قلت فى نفسى “أجرب أن أحدثه”، بدأ خوف آخر، خوف له مذاق آخر، بدأ من مفاصل أقدامى يصاعد إلى أعلى ثم توقف عند منتصف البطن، كنت قد تعودت هذا الحوار الساخر بينى وبين عقل بالى وسميته مرة التفكير الداخلى، ومرة أخرى تصورته وسواسا، ولكنى أتقدم الآن نحو مسرحيات حية متعددة الأشخاص، يقينى بحيويتها لا يدع مجالا للشك فى صدق ما يجرى، لا أملك أن أتراجع، ماثل هو أمامى، فلا مناص من الحديث،
سألته:
- هيه؟ هل يعجبك هذا؟
استمر فى اهتزازه وأشار لى بيده أن أنتظر حتى ينتهى من السورة التى يتمتم بها، حاولت أن أرهف سمعى فإذا به يقرأ “وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ” لم أحاول أن أدقق ولكنى ازددت خوفا، عدت أسأله :
- ماذا تريد بعد ذلك؟
وضع المسبحة فى جيب سيالته والتفت إلى:
- أنت السبب فى كل هذا، …. وكم نصحتك؟
لم أكن أتوقع بعد كل هذه السنين، وحتى وهو تحت التراب أن يستمر فى نصائحه ومعايرته لى بأننى السبب فى كل المصائب، سوف أتمادى معه حتى النهاية.
- وما العمل؟
- ترجع إليه بلا تردد.
تشجعت هذه المرة وقلت له:
- وأنت، ماذا فعلت بهروبك إليه؟
تلكأ فى الإجابة ووضع يده فى سيالته يعبث بمسبحته دون أن يخرجها.
- أستغفره، وأتوب إليه؟
قلت فى تحد:
- ذنوبك لا تنتهى عند هذا الحد؟
نظر فى غضب حتى تصورت أنه سيطردنى:
– رحمته وسعت كل شئ، وأنا أطمع فيها وهو راضٍ عنى.
- ومن أدراك؟
- ما أنا فيه.
- وماذا أنت فيه غير التمتمة والاهتزاز والاستجداء؟ هل عرفت شيئا عن أى شئ؟ هل تستطيع أن تجيب عن سؤال واحد من أسئلة الوجود؟ أم أنك احتميت بجهلك وخوفك، الأمور تغيرت والناس تريد أن تعرف.
- هذا تطاول لا يجلب إلا الضياع.
- وهذا عَمـَىَ، لا يجلب إلا الفراغ.
- ليس هناك سبيل آخر.
- أعلن عجزك وفشلك، ..نتفاهم !! هو الله الذى لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.
مضيت فى حديثى وكأنى لم أسمعه تماديت فى السؤال.
- أين الطريق ما دمتَ واثقا هكذا؟
- الصور تختلف والسبيل واحد.
- تصر على أن أكون مجرد نسخة منك، وأن أمضى بقية حياتى فى التمتمة والاهتزاز.
- دعنى إذن، … واجن ثمرة تطاولك على ما لا تعرف.
(يعيرّنى بالضياع وسأعيره بالشقاء)
- وهل أنت سعيد؟.
قلتها بتحد حقيقى وشوحت بيدى وكأنى ألقى قنبلة يدوية، اهتز قليلا وعقد ما بين حاجبيه وظهر الألم على وجهه حتى كدت أبكى لألمه، ندمت على جرأتى وقسوتى، ولكن أساريره سرعان ما انفرجت بعد لحظات ليقول لى فى صرامة.
- أسعد منك على أى حال.
- أنا أعرف شقاءك فهل تعرف شقائي؟.
- كنت أتمنى أن تكون أسعد منى.
- هذا ما أحاوله، أنت لا تستطيع أن تتحمل عاقبة أمانيك، أنا أشك فى نيتك، ساعدنى إن كنت صادقا.
- كيف ترفض طريقى ثم تطلب منى العون.
- أنت نفسك تنتظر أن أجد بديلا.
تراجـَـعَ فى صمت وكأنه يخفى ألما بعيدا يشككه، و قال وكأنه يذكر نفسه لا يخاطبنى،
- أطلب العون من أهل العون.
- أنت لا تعرف من هم أهل العون.
– ولا أنت، أنا مستمر فى البحث عنهم، أما أنت فتوقفت.
– أنت تعايرنى؟! ومع ذلك أنا لا أكرهك، ..ولا تـَـنْـس أن الفرصة مازالت أمامى.
- لا يا شيخ، دعنى أدعو لك.
أخرج مسبحته من سيالته ونظر إلى الأرض وابتدأ فى الاهتزاز الرتيب من جديد، سمعته يقول فى ورده “قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شىء قدير”.
هل يدعونى للاستسلام إلى ما لا أعرف؟ هل كتب علينا أن ننتظر العزة والذل مغمضى العينين؟ هو نفسه لم يستسلم أبدا ومازال دائب السعى إليه – نظرت إليه فإذا به قد استغرق تماما فعرفت أنه لن يرد على مهما حاولت، لكننى صدقت أن الفرصة أمامه.
التفت إلى الأفق الرمادى فإذا بالسحاب الداكن يتجمع ليتعجل قدوم الليل، وحين رددت بصرى إلى حيث يجلس لم أجده، نظرت إلى جوارى فلمحت على مقربة منى كومة من الخرق الملونة القذرة، لم أكن قد لاحظتها من قبل ذلك، هممت بالانصراف ولكنى سمعت سعلة جافة ضعيفة تصدر من تحت كومة الخرق، انزعجت فى أول الأمر، ..إلا أن هذه الأماكن وما تحتويه لم تعد تزعجنى بقدر ما تزعجنى زيارة عائلية عادية، سعلت الكومة مرة أخرى فتأكدت أنها كائن حى، هززتها بلا خوف، اهتز جسمها وأخرجت يدها تهشنى بها مثل ما تهش أى حشرة تحاول التدخل فى حريتها، أو تبحث عن وجبة دسمة من دمها، لم أتراجع فهززتها مرة ثانية حتى كشفت عن وجهها فى غضب واشمئزاز، عرفتها، خالتى “شلبية الهبلة”، حاولتْ أن ترجع إلى تكورها تحت كومة الخرق فهززتها أكثر مناديا عليها باسمها، أزاحت هذه الكومة من على جسدها فظهرت من تحتها كما عرفتها طول عمرى، لم يتغير منها شىء أبدا، لا عمرها ولا وجهها ولا بقايا جسدها، … ولكنى أنا الذى تغيرت حتى استطعت أن ألمح فى عينيها معنى آخر للحياة …
- كيف حالك يامـّـه شلبية …؟
نظرت إلىّ طويلا وهى تحاول أن تتعرف علىّ، ثم أشاحت بوجهها عنى دون رد وكأنها عدلت عن الترحيب،
- أنا عبد السلام يا مـّه شلبيه ..
قلتها رغم علمى أن هذا الاسم لم يمر على سمعها قبل ذلك أبدا، فأنا لا أذكر أنها نادت أحدا باسمه مرة واحدة، ..
نظرت إلى ثانية وقالت:
- إن شا الله .
فرحت بردها، كنت أود أن أسمع صوتها بأى ثمن، حاولت أن أتمادى معها فى أى اتجاه:
- إن شاء الله ماذا يامه شلبيه؟.
نظرت إلى باستنكار ثم ضربت على صدرها بيدها عدة مرات صائحة، ..
- خلِّ الجدعان، خلِّ الجدعان، .. خلِّ الجدعان، ..
ومضت مسرعة بين القبور حتى اختفت عن ناظرى تماما، .. وكأنها دخلت أحدها.
* * *
رجعت إلى البلدة أجر قدمى ولا أحاول أن أسترجع شيئا مما كان، هل كل ما حدث هو داخل مملكتى الخاصة؟ أشعر أننى فى حالة بين الائتناس والحذر، مما جعلنى أشعر بأنى أكثر قدرة على مواجهة الفلاحين دون أن يظهر علىّ تغيير يمكن رصده، أحس أنى أعود إليهم ومعى سند قوى من لقائى مع أبى ومع خالتى “شلبية” لم أعد وحدى تماما.
كان الظلام قد احتوى البيوت حتى لم يعد يمكن تمييز معالمها، زاد من طمأنينتى أن ملامح الناس – وبالتالى ملامحى – قد اختفت هى الأخرى فى هذا الرمادى الزاحف، عرجت إلى “البوابة” واخترت ركنا منزويا خلف الظلال المتراقصة، أصروا على أن أتوسطهم تكريما للقادم من مصر، بدأ يتوافد على الدكان بضعة نفر ممن أعرف ومن لا أعرف، كان العدد محدودا فقد فضل الباقون اتقاء البرد فوق الأفران المحمية، جلست وسط جو من الترحيب المعلن والتعليقات الهامسة، لم يخطر ببالى أى تفسير سيئ لهذه الهمهمات من خلفى لأنى كنت متأكدا أن النور الخافت يخفى ملامح وجهى، كما كنت أعلم أن هذه هى طريقة استقبال القادم من “مصر”، فما بالك بعد طول غياب؟ رجع إلىّ السؤال الأول “هل هذا هو مكانى؟ هل أجد هنا الحل؟” تطلعت فى وجوههم فى حذر فتبينت قفزات البسمات اللاذعة والتحدى، غمرونى بالأسئلة عن مصر وأحوال مصر، وكأن لى مصادرى الخاصة تزودنى بالمعلومات السرية، كان علىّ أن أجيب إجابات محددة، وألا أعتذر أو أؤجل تحت أى ظرف، حتى حين طلب منى ”رزق” المزين أن أوصى ناظر مدرسة الصنايع بالمركز على ابنه، لم يسمح لى بأن استفسر عن اسم الناظر تحديدا قائلا:
- دهدى، ..اسمه حضرة الناظر طبعا.
ولما سألته عن عنوانه قال فى دلال وعتاب، ..
- إيهييه، ..ماهو معكم فى مصر.
ولم أملك إلا أن أعـِدَهُ خيرا.
ابتدأت أحس بالاختناق من كثرة الأسئلة وطلب التوصيات من شخص عاجز جاهل وحيد مثلى، لم أشعر أن أحدا شعر بى منذ وصولى إلا شلبيه الهبلة، وأمى لبضعة لحظات، وأبى رغم عناده.
حتى فرصة التأمل الصامت لم يسمحوا لى بها، أستأذنت فى أول فرصة، وانصرفت مودعا بنظرات لا أعرف محتواها تفصيلا، ولكنها كانت كلها على حد إحساسى أحكاما، أحكاما، أحكاما تكاد تخترق ظهرى حتى كدت أجرى متجها إلى دارنا وأنا أتجنب أن ألتفت ورائى صائحا “والله العظيم ما عملت حاجة”، لم أكن أنفى الأحكام فقط، بل إنى كنت أرفضها جميعا، وخاصة الحكم علىّ بأنى “رجل طيب!!”
- هل ذهبت لأبيك يا ابنى.
- طبعا يا أمى.
- روح يا ابنى الله يهديك ويزيح عنك.
كانت تروح وتجئ بنشاط بالغ وسعادة حقيقية، رحت أتعجب من هذه الحيوية التى دبت فيها، وكأنها ليست الهيكل المتهالك الذى استقبلنى قابعا تحت الشمس منذ ساعات، كدت أسألها: “وكيف يهدينى الله وماذا يزيح عنى؟ إيش عرفك يا أمـِّـى بما بى، ياليتنى أعرف ماذا جاءنى بلا استئذان حتى أستطيع أن أزيحه عنى !، ياليت نظام نزح خزانات الفضلات يصلح لتخليص الإنسان من فائض أفكاره التى تطفو على عقله حتى تفسده، لا بد أن للعقل فضلات مثل الجسم، ولا بد أن نعرف طريقا للتخلص من الأفكار الزائدة التى لا جدوى منها فى الحياة اليومية، ولكن كيف لمثلى أن يعرف الأفكار الزائدة من الأفكار الضرورية؟ لماذا ترك لنا الحكم والاختيار فى محتوى العقل ولم يترك لنا الخيار فى مسائل الجسم، أكاد أجزم أننا لو كنا نخير فى مسألة وظائف الجسم والعقل ويسمح لنا بالتساؤل حولها بلا شروط إذن لتوقفت جميعها نتيجة لغرور الإنسان وسوء استعماله للحرية.
هذا ظلم لا يرفعه إلا الجنون، إما أن نوهب التفكير على قدر احتياجنا له أو قدرتنا عليه، وإما أن نوهب نظاما ما نفرز به فضلات أفكارنا، لو كنت أعرف ماذا تقصد أمى بدعوتها “يزيح عنك”، ولو كنت أعرف ما يدعو لى به أبى، لساعدتهما وساعدت الله على تحقيق دعواتهما، أنا لا أعرف ماذا أريد أن أُبـِقـْى وماذا أريد أن أدع، هل أريد أن اتخلص من عقل بالي؟ وهو أقرب إلىّ من عقلى؟ هل أنا أريد أن اطمئن وأرضى، أم أن أعرف وأمضى.
* * *
أخذت أمى تنسق الطعام على الطبلية فى سعادة لا تخفى، ثم جلست أمامى على بعد قليل لا تشاركنى الطعام، هذه عادتها من زمان، الأكل عورة، ولكنها تريد أن تطمئن على أنى أتيت على الدجاجة المحمرة حتى آخرها.
فى هذه المرة لم أجد عندى شهية تتناسب مع إصرارها على ألا تتركنى إلا وقد مسحت آثارهها جميعا، حاولت أن اتحايل على أفكارى حتى أتفرغ لهذا الواجب ولكنى لم أستطع، فى أول الأمر نظرت إلى الساعة فتبينت أنها لم تتعد السابعة مساء، ياطول ما ينتظرنى من سواد الليل، هجمت على الوليمة أملأ بطنى بها، أخذت ألتهمها التهاما بلا رحمة وكأنى لم أنصرف عنها منذ قليل آملا أن تتخمنى فتخدرنى فأنام.
جمعت أمى بقايا الافتراس من عظام مهشمة، فى سعادة راضية عن امتلائى لا تتناسب.
* * *
خرجت فى الصباح التالى محملا بالزيارة التى كادت تنقطع بعد انقطاعى عن البلدة، وجلست أنتظر قطار الدلتا فى ركن خلف المقهى المكون من بعض جذوع الشجر المغطاة بأعواد القش والقابع فى مكان ما بين بيت حضرة الناظر ودار خالتى أم عوض، انتهزت فرصة غياب القطار حيث لا موعد له وأخذت أرتشف الشاى الأسود واسترجع السؤال فى هدوء “هل أجد هنا الحل”؟
كانت الحمير والجمال تمر علىّ محملة بالسماد إلى الحقل، وبالتراب إلى الحظائر، يقودها الأطفال والرجال أو تقود هى الأطفال والرجال حسب موقعهم من بعض من أمام أو خلف، ملأنى الإعجاب بهذا العمل الدؤوب الذى لا يتوقف فيرحم العقول من التلكؤ حول “لماذا”، “أو إلى أين”؟ هذا الداء الوبيل الذى يستشرى فى خلايا العقل مع انتشار القراءة والكتابة والتلويح بأحلام أرضية،
تقدم منى شاب أشعت أغبر يخبط على صندوق الأحذية، تبينت فيه “زينهم” الذى كان آخر عهدى به صبى نجار، جلس تحت قدمى دون اسئذان وحيانى بترحيب حقيقى؟ ناولته قدمى فى استسلام وانتهزت الفرصة لأتبادل معه آخر حديث قبل أن أغادر القرية مهزوما تماما.
هل تركت الأسطى عبد الستار النجار يا زينهم !
- من زمان.
- وكيف حاله هو؟
- مشى فى حب الله.
- كيف؟ حدِّثـْنِى؟
- حدث ما حدث بين يوم وليلة، أصبحنا فإذا به ينادى أخاه ويسلمه العدة، ويوصيه بالأولاد، ويملأ مخلاته بالخبز الجاف، ثم يخرج دون سلام، منذ ذلك الحين لا أحد يعرف عنه شيئا، وإن كان يظهر أحيانا بالبلدة لبضعة أيام دون مناسبة، أو فى مولد سيدى الشيخ عمارة، وقد كثر الكلام ياسعادة البيه.
قالها وغمز بعينيه يستدرجنى لمزيد من التساؤل؟
- خير يا زينهم، ..أى كلام؟
- الكلام كثير، فمن قائل إنه عشق “الغزية” التى تحضر أيام المولد، ومن قائل إنه واصلٌ ومن أهل الخطوة، ومن قائل إنه يدخل البيوت يساعد النساء العواقر على الحمل، أرزاق يا سعادة البيه!!!
- كان سيد العاقلين وأنت خير من تعرفه يا زينهم.
- أحوال يا سعادة البيه، يدبرها سيدك؟.
إذا كان تدبير سيدى هذا هو التدبير الأمثل الذى يغرينى به كل ما يدور حولى فلماذا تصبح خالتى شلبيه الهبلة “هبلة”؟ وترفض هؤلاء الأحياء لتعيش بين القبور، ولماذا يسير عم عبد الستار النجار فى حب الله؟ أو لست أدرى ماذا؟ ولماذا يقتلون كل من يشذ عن المجموع دون حيثيات أو مذكرة تفسيرية؟
التفتُّ إلى “زينهم”:
- وكيف حالك أنت يا زينهم.
أجاب وعيناه تلمع فى خبث الصياد حين تغمز سنارته.
- زفت كما ترى يا سعادة البيه، ربنا يتوب علينا، …
- من ماذا يا زينهم؟
- من البلاوى والغلب، ياليتك تجد لى عملا فى مصر.
صرخت كالملدوغ.
- فى مصر؟؟!!
- أيوه فى مصر، ..مصر أم الدنيا، .. وهل هناك أحسن من مصر؟
حضر قطار الدلتا فى دلال، وساعدنى زينهم فى حمل الزيارة إليه.
أخذت أنظر من النافذة والقطار يبتعد فى دلال أيضا عن البلدة.
ماذا أرجع به من زيارة أمى؟
أنظر من النافذة ولا أستطيع، والقطار يزيد من سرعته التى لا تزيد، وأنا لا أستطيع أن أميز بين حيوان ونبات وجماد… وبين الناس.
****
[1] – المقتطف من رواية “الواقعة” الجزء الأول من ثلاثية “المشى على الصراط” الطبعة الثانية 2008 (الطبعة الأولى 1977) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط