نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 16-1-2022
السنة الخامسة عشر
العدد: 5251
مقتطفات كتاب
“الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” (1)
الباب الأول: “النظرية ومعالم الفروض الأساسية” (16)
مقدمة:
نواصل اليوم هذا النشر المتقطع من هذا الكتاب، لعله الأهم، أن تُقْرأ نشرة اليوم التى سنقدم فيها ما تيسر من الفصل السادس، وأوصى بالبدء بقراءة نشرة أمس.
يحيى
الفصل السادس
أسباب المرض النفسى
من منظور إيقاعحيوى تطورى
عن الأسباب (2) من منظور إيقاعحيوى تطورى:
إن المرض النفسى من المنظور التطورى الإيقاعحيوى لا يحتاج – فى المقام الأول– إلى البحث عن أسباب محددة له: فى وقت بذاته بمعنى أنه كان لا يمكن أن يظهر إلا بتوفرها فى صورته التى ظهر بها وكذلك هو ليس مثل التهاب اللوزتين يحتاج إلى مسكنات ومعرقات ومضادات لتسكين أو إخفاء الأعراض، إن هذا المرض – خاصة فى صورته المزمنة- ليس مثل مرض البول السكرى يحتاج إلى تعويض من الخارج عن نقص كيميائى فى الداخل طول الوقت!!، كذلك لا ينبغى اختزاله إلى عـُـقـَـدٍ ترسبت منذ الطفولة، أو من قديم والسلام، ثم هاهى تظهر آثارها على السطح فى صورة هذا المرض أو ذاك.
المفهوم البديل لكل هذا، وهو الذى يطرحه هنا الطبنفسى الإيقاعحيوى يقول:
إن المرض النفسى ليس إلا ظاهرة طبيعية، ليس فقط من حيث أنها كامنة فى كل إنسان بدرجات مختلفة، وإنما أيضا من حيث أنها تمثل نسبة تكاد تكون حتمية لمسار حياة وحركية لازمين لاستمرار حياة الإنسان الفرد، وحياة الإنسان كنوع، (3).
لكن إذا كان كل إنسان يحمل استهدافا للمرض مثل الآخر، فـَـمـَـنْ مـِنْ كل هؤلاء الذى يُعلـَـنُ المرض عنده بصورته المشوَّهة والمعوّقة، ولماذا هذا التشخيص دون غيره؟ ولماذا هذا المرض دون سواه؟
فيما يلى بعض الخطوط العريضة لموقف الطب النفسى الإيقاعحيوى التطوري: فى محاولة الرد على بعض هذه التساؤلات:
1- تورث الأمراض النفسية مع الحياة ذاتها، إذن كل إنسان معرض لها بما هو حى، ولكن كل إنسان يختلف عن الآخر فيما ورث فيلوجينيا وعائليا (وخاصة فيما يتعلق بقوة أحد مستويات المخ عن الآخر أو عن الباقى):
* هذا الاستمرار، كما الاختلاف، هو نتيجة لطول استمرار أجداد وجذور فــئته النوعية فى بيئة احتاجت فاعلية هذا المستوى عن غيره زمنا أطول: (قد يصل إلى الاف السنين وأكثر)،
* ثم هو يختلف فيما تدعـَّـم به أنتوجينيا (التاريخ الأسرى المباشر وأنواع وأطوار العلاقة بالموضوع: الأم خاصة) بتدعيم مستوى عن الآخر،
* وأخيرا هو يولد بنسب متفاوته من تراكم فيض من المعلومات كأجسام غريبة، دون أن تـُـتمثل: أجسام تحتاج إلى اجترار وبسط مناوِب لإمكان تمثلها لتتناغم من جديد،
* ثم إن الاختلاف يمتد إلى كيفية إطلاق كل ذلك، ونوعية بسطه، وتوقيت تفعيله، وظروف استيعابه.
2- توجد عند بعض العائلات طاقة حركية موروثة أشد من عائلات أخرى، وهذه الحركية تتمثل فى زخم طاقة عنيف، يمكن أن تُنـَبـِّـه أيضا إلى تاريخه الحيوى التطورى المتميز، وهو الذى يؤدى إلى جاهزية نبض “حيوى جسيم” يحتاج إذا ما تنشـَّط وانطلق إلى استيعاب نمائى إبداعى خاص بتهيئة ظروف تستوعبه، وإن لم توجد هذه الظروف بشكل مناسب! فهو المرض.
3- كذلك توجد درجات مختلفة من قوة وحركية نشاط مستويات وعى (أمخاخ/منظومات) خاصة فى الدماغ عن أخرى، وهذا ناتج عن اختلاف الأصل الإثنىّ، والأسرىّ وهذه المستويات ذات النشاط المتميز على هذا المستوى أو ذاك، لها دور أساسى فى تحديد نوع المرض من حيث غلبة المستوى الذى يمكن أن يُطلق مستقلا أو طاغيا أثناء تفعيل أو إجهاض نوبة النبض الحيوى الجسيم، ثم كيفية احتوائها وبدائل مساراتها.
4- من أهم ما يدعم المآل المرضى السلبى هو فشل النبضات الفسيولوجية النفسية فى استيعاب أطوار نبضات الإيقاعحيوى اليومية أولا بأولا، ونورد مجرد أسماء تلك النبضات ودورها
(i) كفاءة الأحلام كصمام أمن وإعادة تشكيل وتأمين نظام
(ii) كفاءة النوم كطور نبض تشكيلىّ مكمـِّـل للحركية الإيقاعية النشطة.
(iii) كفاءة التخزين السليم المرن للمعلومات فى أطوار الملء ككيانات بيولوجية منسقة جاهزة التشكيل والتمثل، وليست “مَدْخَلات غريبة” لأجسام مُقحـَـمـَـةْ، تلح للاجترار والإبداع، والجدل الحيوى، دون فرص كافية.
فإن لم تتمكن من قدر مناسب من إيجابيات كل ذلك : فهو الفشل والمرض.
وهكذا تظهر احتمالات مآل فشل هذه النوبة (فالنوبات) فى إطلاق الطاقة الحيوية فى مسارها البنّاء، فإما:
(1) أن تعجز النبضة عن البسط النموى السليم: أى تُجْهض أو تنغلق فتسكن عند المستوى الجاهز والمدعم طول الوقت ومن ثم تظهر كأشكال مختلفة من “العادية” أو فرط العادية!! أو اضطراب الشخصية!! أو العصاب المزمن،
وإما:
(2) أن تتجاوز الحدود تفعيلا للمستوى المستهدف، تتجاوزها بالاختراق والتنشيط المرضى على حساب النمو ومسيرة السواء، وربما على حساب التماسك والواحدية، فيظهر المرض في مثل الصور التالية:
(أ) تتجلى أنواع مختلفة من الأمراض الدورية، بما فى ذلك من احتمالات المآلات السلبية ضد الحياة، ويتوقف نوع المرض فى كل نوبة على طبيعة وتشكيل المرحلة من هذه المراحل التى ظهر فيها هذا الخلل،
أو:
(ب) قد تتمادى عملقة النوبات الدورية بما يتخطى محاولات ترويضها، فتتفسّخُ الواحدية بلا فاعلية، فتدخل فى طيف التفكك فالتفسخ الفصامى فالتدهور وفالاندمال بأنواعه.
وبعد
أعذر كل من يجد صعوبة فى أن يتابع هذا المنظور، سواء التطورى أو الإيقاعحيوى، دون أن ينظر حوله لأبسط المخلوقات المحيطة من أول مجموعة ذباب تطن حول صندوق قمامة حتى قطيع من الجمال يهرول فى طريقه إلى المذبح، ناهيك عن مملكة النحل أو مؤسسات النمل أو سرب النوارس، لكن ما فائدة أن يفعل ذلك وهو لا يتساءل كيف بقيتْ كل هذه الأحياء مثلها مثل الإنسان ومثل جميع من بقى من الأحياء (وهم – آسف للتكرار – واحد فى الألف من كل الأحياء) وكيف استطاعت أن تقاوم الانقراض فحافظت على البقاء دون حاجة – مثلاً- إلى مثل هذا التنظير الذى أكتبه الآن، وطبعا دون الحاجة إلى الطبنفسى أو إلى أى طب أو علوم نفسية أو أى علوم مكتوبة أو أى كتابة أو أى لغة منطوقة أصلا؟.
لعل هذا هو ما دعا دانيال دينيت Daniel C. Dennet (4) صاحب كتاب “أنواع العقول”: أن يبدأ كتابه هذا بتساؤلاته المثيرة قائلا:
* هل للنملة عقل؟
* “ما الذى تفكر فيه النملة”
* لماذا لا تحس النسور بالغثيان من الجثث التى تأكلها متعفنة؟
* هل يمكن للعناكب أن تفكر؟أو أنها مجرد روبوتات صغيرة ؟
ويظل “دينيت” يتساءل هكذا حتى يصل إلى طرح السؤال الشامل الذى يقول:
-
هل يمكن أن تكون كل الحيوانات والنباتات – حتى البكتريا- لها عقول؟
ثم ينقلنا دينيت بجرأة أعنف إلى سؤال فرعى يقول:
– هل نحن جِدّ واثقين من أن كل أفراد البشر لهم عقول ؟
ثم هو يطرح عدة أفكار تنبه إلى احتمال الخطأ (الذى يصل إلى درجة أن يكون موقفاً لا أخلاقيا) إذا نحن حكمنا على غيرنا من الأحياء من حيث أنه “يعقل” أو “لايعقل” لمجرد أنه يختلف عنا، أو عن ما نتصوره عن عقولنا.
تطور الأفكار والفروض إلى الفرض الحالى ومواجهتها:
هى أفكار مبدئية آمِلَة متواضعة، لاحقتَنْى بعد تسجيل الخطوط العامة للنظرية بسنتين، وقد فضلت أن أثبتها اليوم – بما تحمل من بعض التكرار – ربما لأسباب تاريخية أيضا لمتابعة كيف تطورت الأفكار والفروض حتى وصلت إلى المرحلة الحالية، علما بأن التركيز الباكر كان على البعد التطورى دون البعد الإيقاعحيوى.
يمكن إيجاز العوامل المسئولة عن ظهور المرض النفسى من الوجهة التطورية كما يلى:
1- عوامل إستعدادية جِبِلِّيَة (فردية وعائلية، انتوجينية، ونوعية: فيلوجينية) = الوراثة (innate / inherited): وهى التى تشير - كما ذكرنا- إلى أمرين:
(أ) مدى وحجم قوة الطاقة الحيوية عامة عند أى فرد (أو أسرة) أكثر أو أقل من آخر (أو أخرى).
(ب) زخم القوة النسبية لمستوى من مستويات الوعى (الأمخاخ)، عند المريض.
وهذه العوامل تشير ضمنا إلى مدى جاهزية نشاط حركية المعلومات التى يولد بها كل فرد بالنسبة لسلوك بذاته، مما يمثل جاهزيته لحجم نبض الإيقاعحيوى الذى إذا كان مفرط القوة: فإما استيعاب زخم النمو فالإبداع الفائق وإما المرض.
2- عوامل إمراضية لاحقة وهى العوامل اللاحقة التى تدعم قوة مستوى بذاته، فالأم التى تشجع وتنمى أسلوب مواجهة العالم عند طفلها بالانسحاب والانغلاق على ذاته إنما تدعم الطور الشيزيدى (المخ البدائى)، فإذا كان هذا المستوى حاضراً – بالوراثة – بقوة منذ الولادة، فإن الوعى والوجدان يصبحان ممتلئان بهذه الجاهزية للتراجع والهروب لدرجة تقترب من حد الإنجراح المرضى، وبقدر تناسب جاهزية الانسحاب فى مقابل فاعلية الطاقة تفاعلا وتشكيلا تكون النتيجة: فإما أن تزيده هذه الطاقة انسحابا لعجزه عن استيعابها فى الكل الضام، وإما أن يستوعبها جدلا لتتخلق فيه تشكيلات وإبداعات قادرة على مواصلة النمو والتطور، فإن فشلت فى هذا وذاك فقد تنطلق فى فرط نشاط مرضِى أو انحرافىّ أخطر.
3- عوامل تراكمية: Cumulative Factors وهى التى تشير إلى كم المعلومات الغير متمثلة والمُدخـِّـلة قسرا، واغترابا، أوكيفما اتفق، أى أن أى معلومة لا يتمثلها الكل البيولوجى، عاجلا أو آجلا فى “واحدية الذات الممثّلة” للوعى الفردى المتواصل إلى ما بعده: تصبح عبئا على الوعى فى الداخل والخارج، وبالتالى تعتبر إحدى مقومات ”الازدحام العشوائى” مما يزيد فى احتمال نبض إيقاعحيوى جسيم يزيدنا قربا من عتبة الإنجراح المرضى: الاضطرابات الدورية أو بدائلها.
4- عوامل مُطْلِقة releasers وهى عوامل الضغط التى تسمح بتخطى عتبة الانجراح بأن تطلق النبضة المرضية الجسيمة فى وقت بذاته (5)
5- عوامل محوِّرة، ومعادلِة، ومؤجِّلة: (6) وهى العوامل التى تشكل وتحور الناتج المبدئى لانحراف النبضة الجسيمة (وهى أيضا متأثرة بالوراثة والتدعيم ومدى التراكم جميعا)
6- عوامل دوامية Perpetuating: ومُبْقية: وهى العوامل المسئولة عن استمرار وتفاقم العجز عن تمثل المعلومات أو عن نشازها ودوامها كأجسام غريبة، ويعتبر الانتباه إلى هذه العوامل الأخيرة من أدق مهام المعالج لأنها الأوْلى بالإيقاف خاصة مع إمكانية ذلك: “هنا والآن”.
…………….
…………….
(ونكمل الأسبوع القادم)
كيفية مواجهة هذه الأسباب من جذورها؟
[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث أبواب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2021) (تحت الطبع)
[2] – كما اعتدنا، نبدأ فننبه إلى استبعاد المرض النفسى العضوى (التشريحى) العشوائى وهو الذى يظهر بشكل مباشر (يكاد يكون خطيا) نتيجة سبب عضوى بذاته.
[3] -Jonathan Burns “The Descent of Madness” Evolutionary Origins of Psychosis and the Social Brain. 2007
[4]- Daniel C. Denne : (1996) “Kinds of Minds Towards Understanding of Consciousness”
دانيال دينيت: أنواع العقول: نحو محاولة فهم الوعى : الكتاب المترجم صادر عن “المكتبة الأكاديمية” القاهرة 2003
[5] – وهى المقابلة لما يسمى العوامل المرسبة Precipitating factors
[6] – Neutralizing and postponing factors: modifiers
المقتطف : كفاءة الأحلام كصمام أمن وإعادة تشكيل وتأمين نظام
(ii) كفاءة النوم كطور نبض تشكيلىّ مكمـِّـل للحركية الإيقاعية النشطة
التعليق
يعنيي النوم والحلم مسؤلان عن تنظيم اندفاع النبضه .وصلني ان للحلم وظيفة استيعاب وهضم مهمه لو تجاوزته الاندفاعه فهو اعلان لفشله في الاستيعاب..
هذا صحيح
تقريبا.
المقتطف: (1) أن تعجز النبضة عن البسط النموى السليم: أى تُجْهض أو تنغلق فتسكن عند المستوى الجاهز والمدعم طول الوقت ومن ثم تظهر كأشكال مختلفة من “العادية” أو فرط العادية!! أو اضطراب الشخصية!! أو العصاب المزمن،
التعليق:
نقدر نقول يا دكتور يحيي ان الحيل الدفاعية تنشط هنا اكتر لتساهم في اغلاق النبضة..
نعم
فرط استعمال الحيل الدفاعية يقلب المادة المعدّة لتهدئة التحريك العشوائى إلى جدارٍ مسلح: قد يجمد الموقف إلى عكس المراد.