نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 28-11-2021
السنة الخامسة عشر
العدد: 5202
مقتطفات كتاب
“الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” (1)
الباب الأول: “النظرية ومعالم الفروض الأساسية” (2)
مقدمة:
آمل أن يتحمل الزملاء والأصدقاء متابعة هذا النشر المتقطع لأنه مهم، ولعله يعطى فرصة للقراءة البطيئة (والمراجعة والنقد). شكراً
يحيى
المقتطف (3):
“نظراً لأن الطب النفسى التطورى يعطى ثقلا مناسبا ومتوازنا لكل من الجوانب العضوية والنفسية فإن ذلك سوف يسمح بالسعى إلى مزيد من البحث فى العلوم النفسية والعلوم العصبية معا بهدف التكامل مع بعضها البعض، ومع الجسد ككل، ليصب كل ذلك فى معلومات لازمة للطب النفسى.
التعقيب:
وهذا أقرب إلى ما تشير إليه التطبيقات المحتملة من هذا الطب، وهى غير الشائعة فى نماذج أخرى للطب النفسى بما فى ذلك النموذج النفسى البيولوجى الاجتماعى، وحتى فى النموذج الطبى بامتداده الأشمل، وربما تكون الإضافة هنا بالنسبة للطبنفسى التطورى هى فى الأمل فى تكامل أعمق، وليس مجرد إضافة إلى جهد الأخصائى النفسى أو الاجتماعى، بمعنى أن يكون الطبيب نفسه قادرا على معايشة هذا التكامل، وعلى الرجوع إلى هذه الحقائق الأصلية الأساسية بحيث يصعب عليه فصل أىّ منها عن طبيعة العلاقة العلاجية النمائية المتكاملة مع مريضه.
هنا، أذكر بالفضل أن الطب النفسى التطورى موجود قبل هذا الاسم تحديداً، فمثلا بالنسبة لمدرسة وتوجهات كارل جوستاف يونج الذى لم يغب عن المؤلفين “ستيفن وبرايز” ذكر فضله والاقتطاف منه كلما لزم الأمر، مثلا: حين استشهد المؤلفان منه بهذا المقتطف وهو يقول:
المقتطف (4)
“فى النهاية فإن حياة كل فرد فى نفس الوقت: هى الحياة الأبدية لنوعه”، (يونج!!)
التعقيب:
لاحظ: كل “فرد” فى نفس الوقت (ثم) الحياة الأبدية لنوعه!!!
المقتطف (5): استشهد المؤلفان أيضا بقول يونج:
“إن التفرد Individuation (العملية التى يتكامل بها الإنسان بشرا سويا) هو ممكن إذا أتيحت الفرصة للشخص أن يتكامل فيه ما هو “إنتوجينيا” مع ما هو “فيلوحينيا”، وبالتالى يتوحد وجوده الذاتى مع كل إمكانات الإنسانية وهو يستعمل نفس الآلية التى مُنِحْنَا إياها بأقصى ما تستطيع قدراته.
التعقيب:
لاحظ فى رأى يونج كيف أن تكامل تطور النوع (الفيلوجينيا) مع تطور الفرد (الأنتوجينيا) وارد، وليس فقط الاستعادة Recapitulation
ولاحظ أيضا ربط الوجود الذاتى مع: “كل إمكانات الإنسانية“.
وبعد:
ما زلنا مع ستيفن، وبرايس وهما يقدمان لنا الطب النفسى التطورى بهذا العنوان الفرعى الدالّ: “بداية جديدة”، بطريقة جعلتنى فعلا أراجع الطب النفسى التقليدى وجفافه، مقارنة بالحس الفنى الإبداعى وتحريك الوعى الذى يحل بى وأنا أتابع إبداع هذين المؤلفين في الطبنفسى التطورى، وقد رحت أبحث عن التطبيق العملى الممكن لهذه الأحلام السعيدة!! حتى وصلت إلى صفحة (242)، وإذا بى أفرح بمقطع شديد الجمال والدلالة، برر لى موقفى وهذا نصه (وتشكيله):
المقتطف (6):
“حين يدخل مريض إلى حجرة الكشف فإنه يدخل ومعه – إن صح التعبير – جمهرة من الناس الممثلين تاريخه الشخصى، هذا ما يعرفه الطب النفسى من قديم. الذى يضيفه الطب النفسى التطورى هو أنه تبين أن هذا المريض نفسه يحضر معه أيضا أجداده من الصيادين وآكلى النمل والزواحف من تاريخ أسلافه، وحين تقترب الاستشارة من نهايتها تصبح حجرة الكشف مليئة بمعارض المخلوقات البدائية التى لكل منها الحق أن يُستمع له، وأن يُستجاب لاحتياجاته (2)
التعقيب:
الذى أفرحنى فى هذا المقتطف هو أننى حين رحت أتمثله والمريض أمامى ومعه (بداخله/وامتدادا له)، عشرات الأشخاص والأحياء، بإذنه أو رغما عنه فى حجرة الكشف، أقول عشرات بل هم أكثر بكثير (3)، حين تمثلت هذا الوضع ثم تلفتّ حول المريض وحولى فإذا – بحسب المقتطف- بكل هذه الأحياء تملأ حجرة الكشف (أو حجرة الدرس بل حجرات وعيى أيضا!!) وجدت أن الدنيا قد ازدحمت أكثر مما أحتمل، لكننى لم أتنازل عن فرحتى بهذا التصور الفنى الخيالى الواقعى معا، واعتبرته أول خطوة نحو ترجمة التنظير إلى التطبيق، إن أمكن. فهل يمكن ؟!!؟ وكيف؟
وجدت أننى فى ممارستى وفى حدود خبراتى وتنظيرى: ربما أتصرف كذلك، ولكن فى حدود ثلاث أو أربع أنواع من هذه الأحياء جميعا، أو أكثر قليلا إذا ما اضطررت إلى ذلك: (وهذا ما سوف أعود إليه حين أقدم الطب النفسى التطورى الإيقاعحيوى وتطبيقاته العلاجية)، وتعجبت كيف يتصرف ستيفن أو زميله فى هذا الموقف! يا تُرى ماذا تفعل فعلا يا عمنا ستيفن حتى بمساعدة زميلك رايس؟ وكيف ستستمع لكل هؤلاء ليس فقط من البشر، ولكن من سائر الأحياء الذين حضروا مع المريض فعلا؟ وإذا به يسمعنى ويسارع بالإجابة “إجابة رائعة”، قال ما يلى بالنص:
المقتطف(7):
“….ويصبح دور الطبيب النفسى مثل مدرب كرة القدم الذى يدرب كل لاعب على أداء دوره وشحذ مهاراته حتى يتكامل مع سائر اللاعبين فتكون نتيجة تفاهمهم وتكاملهم فى اللعب بكفاءة كفريق فعلا، وليس كأفراد يتنافسون فيما بينهم”.
التعقيب:
الله!! الله!! وزادت فرحتى، وزادت حيرتى، وزاد حضور الطب كفنٍّ، لأتعرف على مهنة تدريب الفريق التى أمارسها دون أن أدرى، فوجدت الكتاب يتكلم عن التفاؤل العلاجى Therapeutic Optimism يقول فى ذلك:
المقتطف (8):
“إن تفهـــُّـم الأعراض على أنها إبداع وآلية هادفة، يكشف قيمة هذا التفاؤل العلاجى لدى الطبيب والمريض على حد سواء”.
ثم يواصل شرح هذا التفاؤل العلاجى وهو يقول:
المقتطف (9):
“فبدلا من إدراك “الأعراض” على أنها معاناة مخِلّة، فإنه يمكن استقبالها باعتبارها آلام النمو لشخص يجاهد ليتكيف لمتطلبات الحياة التى فــُــرضتْ عليه”.
التعقيب:
“وعلى ذلك فإن مساعدة المرضى هى فى الأخذ بأيديهم ليواصلوا نموهم بعد عبور هذا المأزق المؤلم الفاشل (المرض) الذى اختاروه مضطرين”.
المقتطف (10): (مازال الكلام من نفس الكتاب):
“وبدلا من أن تكون مهمة المرضى هى تلقى الدعم والأدوية يجرى تشجيعهم: بالمشاركة فى معاناتهم حتى نواجه معا “معنى” المرض.
وهكذا تكون موضوعية (وجدوى) العلاج فى القدرة (قدرة المريض والطبيب معا) على تنمية علاقة إبداعية (4) مع الأعراض، بما تعنيه من محاولات تكيف، وإن كانت قد أخطأت السبيل، فوظيفة العلاج هى تصحيحه إبداعاً.
الخلاصة:
دعونى أتوقف عن الاقتطاف والإضافة الشارحة بين الأقواس لأثبت انطباعى المبدئى العام كالتالى:
مع اتفاقى (وربما اتفاقنا) مع هذا التوجه العام للبحث عن معنى الأعراض بدلا من الاكتفاء برصد الوصف بهدف تسميتها، ومن حيث إسهام المريض فى اختيار المرض، وبالتالى إمكان (بل ضرورة) اسهامه فى إعادة اختياره بإبداع: حلا أفضل نحو الصحة، فإنى أرى أن ما قدمه المؤلف (5) يحتاج إلى ترجمة عملية أبسط وأكثر واقعية وتحديدا، كما يحتاج إلى إعداد معالجين مبدعين مشاركين وليس فقط أهل رحمة سابغة، أو أخصائيى معامل لتنفيذ نتائج أبحاثهم (6)، وهكذا أجدنى مضطرا أن أعود للاقتطاف أمانة إذْ يبدو أن المؤلف قد سمعنا، فلحق بنا يقول:
المقتطف (11):
“حتى نتقدم بوضوح لشرح متطلبات مثل هذا العمل (العلاج هكذا) فإن على المعالجين أن يتعهدوا ذواتهم بدفع عجلة نموهم – شخصيا –، وبحفز قدراتهم الابداعية إذا كانوا يأملون فى رأب صدع مرضاهم ليعودوا لمواصلة وجودهم الصحيح لكن هذا قد يضع الطبيب النفسى الذى يلتزم بذلك فى موقع التحدى (الإبداعى) لتحقيق ما يعد به هذا المسار، إذْ يتوقف النجاح فى هذه المهمة على مهارة المعالج فى إطلاق سراح القدرات الابداعية غير المستعملة عند المريض مثلما هو معروف فى “علاج كارل ج. يونج” الذى يقوم بتعتعة النماذج البدائية: (الفيلوجينية) للتكامل الخلاّق مع سائر قدرات المريض…الخ.
وبعد
ألستم معى بالله عليكم أن كل هذا التكامل بهذه المواصفات سواء فى المريض أو فى المعالج هى صفات ضرورية تستدعى تغييراً جذريا فى طرق التدريب (بل فى طرق الحياة المعاصرة كلها غالبا) ليعود الطب النفسى إلى أصله: فن اللأم ونقد النص البشرى؟ ولنتعرف على الحياة قبل الاغتراب والتشويه “ربى كما خلقتنى”!
وربما نستهدى من ذلك إلى تصحيح مسارات موازية، انحرفت أو اختزلت بما يهدد المسيرة البشرية (وربما الحيوية)!
بالله عليكم كيف يمكن أن يقوم مدرب (مثل مدرب كرة القدم) (المعالج) بتدريب هذه الألوف (بل الملايين) من الأحياء الذين حضروا مع المريض فى نفس الوقت بالإضافة إلى ما تحرك بداخله من شخوص وأحياء أيضا، حتى يمكن أن يتخلق وعى جماعى داخلى متكامل متعاون، يعمل معا حتى يصيب الفريق الهدف (وليس اللاعب وحده).. بل حتى يتم عزف لحن الوجود كما خلقه واضعه!!
مادام الوصف بهذا العمق، والمعلومات بهذه الموضوعية، والنية بهذا الصدق، فقد كنت أتوقع أن أجد بعض التفاصيل العملية لطريقة العلاج والتدريب حتى أستطيع أن أدافع عن هذا الطب النفسى التطورى بقدر ما فرحت به وأنِسْت له وطمأننى، وقد وجدت بعض ذلك لكنه لم يكن كافيا إطلاقا لى وأنا أتصور إمكانيات تطبيقه فى مواجهة غلبة الطب الكمـّـى الميكنى السائد، جنبا إلى جنب مع تمادى الميل إلى الاعتمادية والاختزال فى كثير من جوانب حياتنا، وليس فقط فى هذا المجال المهنى الطبى المحدود.
………….
(ونواصل الأسبوع القادم بمشيئة الله)
[1] – انتهيت من مراجعة أصول “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” وهو من ثلاث أبواب: وسوف نواصل النشر البطىء آملا في حوار، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2021) (تحت الطبع)
– [2] لأهمية هذا المقتطف واستمرار مناقشته رأيت أن أورد نصه بالإنجليزية من الكتاب الأصلى : Page:242
When a patient enters the consulting room, he brings with him, in a manner of speaking, a crowd of people from his past. That psychiatry has always known. What evolutionary psychiatry has recognized is that he also brings the hunter-gatherers, anteaters, and reptiles from his ancestral past. By the end of a consultation, the room is crammed with this menagerie, each member of which has a right to be listened to, and, if possible, to have his needs fulfilled.
[3] – إذن ليسوا فقط حالات الذات الطفل والناضج والوالد التى وصفها إريك بيرن فى التحليل التفاعلاتى
[4] – الخط تحت الكلام إضافة من عندى
[5] – ابتداء من هنا سوف اتحدث عن المؤلف (مفردا) نيابة عن المؤلفين حتى لا اضطر إلى الاطالة طول الوقت.
[6] – كما يزعم الطب النفسى الترجمى.Translational Psychiatry ندوة “أنواع الطب النفسى” (2014) قسم الطب النفسى – جامعة الإسكندرية.
ألستم معى بالله عليكم أن كل هذا التكامل بهذه المواصفات سواء فى المريض أو فى المعالج هى صفات ضرورية تستدعى تغييراً جذريا فى طرق التدريب (بل فى طرق الحياة المعاصرة كلها غالبا) ليعود الطب النفسى إلى أصله: فن اللأم ونقد النص البشرى؟ ولنتعرف على الحياة قبل الاغتراب والتشويه “ربى كما خلقتنى”
التعليق : وانا بقرا النشره فرحت لدرجة الشعور بالونس والطمانيه بان المحاولات مستمرة ومتجدده في جعل الطب النفسي كما يجب ان يكون … المرض رغم نتاجه السلبي والطاقة الهدامه التي تتشكل في الاعراض او تتشظي كأعراض تصلني دائما انها عملية ابداع – ضلت الاتجاه – ولم يتثني لها سوي التعبير هكذا …
نعم
هو كذلك
تقريبا
شكرا
هذا صحيح
المرض إبداع مُجْهَض
والعلاج إبداع بإحياءٍ بعد موات (ما أمكن ذلك)
ولكن
حذار من المثالية والشطح
فالكون مصنوع من ذرات لا تـُرَى
أستاذى الفاضل
فرحت جدا بما كنبت كما فرحت أنت بما وجدته فى كتاب ستيفن وبرايس . وأوضحت لى أشياءا لما أنتبه إليها فى الكتاب الذى قرأته أكثر من مرة . وراودنى الشعور نفسه الذى راودك وألح على السؤال وماذا بعد ؟” الكلام جميل ومنطقى ولكن كيف يمكن أن نستفيد منه فى العلاج , وذهبت أبحث عن كتب أخرى مثل كتاب مارتن برون textbook of revolutionary psychiatry الذى لا يقل أهمية عن كتاب ستيفة وبرايس, وكتاب أصل الجنون لجوناثان بيرن وأنواع العقول لدانيال دينت ,مقالت كثيرة فى الطب النفسى التطورى ,لكننى لم أعثر على جواب شاف للسؤال. وكنت أتمنى أن تسفر هذه المسأله عن علاج منظم structured على غرار العلاج المعرفى السلوكى cognitive psychotherapy ,والذى قمت بترجمته ليس عن اقتناع كامل وإنما لا إعجابى ببنيته المتسقة وسهوله تعليمة للاخرين حتى أصبح أكثر العلاجات النفسية انتشارا وقبولا فى الأوساط الطبنفسية. فهل يمكن أن تسفر نظرية الطب النفسى التطورى عن علاج يكون ممنهحا متصلا لا يعتمد على شخصية المعالج ودرجة تطوره بل على منهاج واضح. وأعتقد أن هذه النظرية سوف تساهم فى تقدم العلاج الجينى القائم على الهندسة الوراثية , لأن – فى راييى _ من أراد أن يدرس الطب النفسى التطورى علية أن يكون ملما بعلم الواراثه genetics بكل مافية من مصطلحات وأليات لأن كل سلوكيات الحيوانات التى بداخلنا قد ترجمت الى ألحمض النووى فى صورة جينات تتفاعل مع الانتوجينى والتى يسميها التطوريون تفاعل الأسبات الأولية أو الغائية ultimate causes مع الأسباب المباشرة proximate causes أى الفيلوجينى مع الأنتوجينى . وقد يمكن للعلاج النفسى أن يغير الجانب الانتوجينى وربما يستطيع أيضا أن يغير الفيلوجينى . فما رأي أستاذى الذى يؤنسنى فى غربتى ووحدتى أكثر مما يؤنسنى أى مفكر آخر فى مجال الطب النفسى.
أهلا طلعت
مازلت أشعر أن شغفك بالتنظير، والتفسير يَحْتلّ مساحة أكبر مما يستحق،
بارك الله فيك،
أرجو أن تواصل متابعة الأجزاء التالية من الباب الأول ثم ما يليه إن كان لديك الوقت