نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 16-8-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4733
مقتطفات علمية
من (ملف الوجدان واضطرابات العواطف)
النزوعات الأولية فى الطبيعة البشرية
نرجع إلى أصل العواطف، وهل توجد نزوعات أساسية، أى عواطف أولية، وعواطف ثانوية؟ وكيف يتولد هذا من ذاك؟
ابتداء: سوف اكتفى بما أورده بلوتشيك شروطا لاعتبار أية عاطفة أولية، ولى تحفظ على توصيفه ومع ذلك نبدأ بها.
حتى نصف عاطفة بأنها “أولية” علينا أن نتبين فيها ما يلى:
1) أن تكون ذات صلة بالعمليات التكيفية البيولوجية الأساسية
2) أن توجد بشكل أو بآخر فى كل مستويات التطور
3) ألا يكون تعريفها معتمدا على ارتباط محدد بتركيب نيرونى أو جسدى
4) ألا يعتمد تعريفها على الاستبصار الذاتى
5) أن تتميز أساسا بارتباطها بسلوك هادف :الاستجابة لمثير ذى فاعلية.
وبرغم اجتهاد بلوتشيك فإنى قد تحيرت:
- كيف يمكن رصد عاطفة ما أنها كانت ومازالت موجودة فى كل مستويات التطور؟
- وهل يمتد ذلك إلى الأحياء وحيدة الخلية مثلا، أم نبدأ البحث فى السلسلة بما يمكن رصده بأى طريق مباشر أو غير مباشر؟
- وأين دور الاستبصار الذاتى إلا فى الإنسان ؟
- وما هى المحكات التى تميز السلوك الهادف من غيره، وفى أى وقت يتم تحديد أنه هادف فعلا (حقق غرضه)، حالا ؟ أو بعد كم من الوقت؟
مع تحفظى على هذه العوامل البدئية، قبلتُ ما أورده بلوتشيك كنقطة انطلاق لما أسماه “مشاكل” التكيف الأساسية، ربما نبدأ بالتعرف على بعض أصل ما نسميه عواطف حاليا بأسماء تناسب ما آلت إليه، وفيما يلى أهم ما أورده بلوتشيك فى هذا الصدد:
أولا: الهيراركية Hierarchy
هذا التوجه يشير إلى أنه فى أية جماعة توجد فئة أكثر قوة أو أكثر مهارة ، ويتحقق التكيف إما بالنضال من أجل التفوق فالسلطة، وإما بالتسليم للأقوى، والسبيل الأول يحتاج إلى الهجوم والغضب، أما السبيل الثانى فيصاحبه الخوف والانسحاب.
ثانيا: الإقليمية (التوطـّن) Territoriality
يشير هذا النزوع إلى أن أى كائن حى يتعلـّم فيعـًلَم أنه ينتمى إلى مكانٍ ما، موقعٍ ما، ومن وجهة نظر تطورية: فإن الموْطن هو المكان الذى يجد فيه الكائن الضروريات اللازمة للبقاء حيا، كما يجد فيه الأمان من المهاجمة والافتراس، ويعتبِر الكائن أنه متمكن إذا ما كانت حدود موطنه مؤمَّنة ضد اختراقها من أى مُهاجم أو مُغير.
ثالثا: الهوية Identity
لا تتحقق الهوية – من وجهة نظر تطورية – إلا بالانتماء إلى جماعة من نفس النوع، ذلك أن الكائن الحى لا يمكنه أن يحافظ على بقائه إلا إذا تماهى مع جماعته، وهذا البعد الذى يمكن أن يسمَّى بعدا اجتماعيا يترتب عليه كثير من أنواع السلوك الاجتماعى مثل الصيد التعاونى، والدفاع الجماعى، والتواصل بين الافراد والمجموعات، ومثل هذه الهوية لا تمحو الذات الفردية وإنما تدعمها.
رابعا: الوقتية Temporality
لكل نوع من الأحياء مدى عمر معين، بمعنى أنه مهما طال عمره فإن له نهاية، وهذه الحقيقة تصل غالبا إلى كل الأحياء بشكل أو بآخر (1)، بما تستتبعه من توقع النهاية بشكل أو بآخر، بما لذلك من آثار وتداعيات.
وبعد
ففيما عدا مشكلة “الوقتية”، والتى تطلبت منى استبعاد احتمال الشعور الواعى بحتمية البقاء لزمن محدود عند أغلب الأحياء، فإن النزوعات الأخرى تتطور غالبا إيجابيا إذا ما سارت فى مسارها الطبيعى: لتصبح آليات للتفاعل بين أفراد الجماعة وبعضهم، بل وبين الجماعات أيضا، بما يمكن أن ترجعه إلى ما سُـمِّـىَ باسم “العقل الوجدانى الاعتمالى” (2) فكل من “الهيراكية” و”الهوية” (كما عرفناها هنا) هى وسيلة جيدة لتنظيم الجماعة للحفاظ على البقاء، أما التوطن فقد بدا لى أكثر وضوحا وألزم تحقيقا، وهو غالبا الأساس لعاطفة “الوطنية” أو “حب الوطن”، أما فكرة الوقتية التى فهمتها باعتبارها الشعور بمحدودية العمر فى مقابل استمرارية الوجود، فقد بدت لى – كما ذكرت – أنها تحتاج إلى وعى خاص أو ما أسميه الوعى بالوعى، وهو الذى لا يتوفر إلا للكائنات الأعلى وبالذات للإنسان، ولا أظن أنه يحتاج فقط للوعى بالوعى، وإنما أيضا لدرجة من الدراية بحركية الزمن وحتمية زحفه (3).
…….
وسوف نواصل مناقشة بعض هذه النزوعات في النشرات القادمة
[1] – كما يزعم بلوتشيك
[2] – Emotionally Processing Mind
[3] – لعل تحفظى هذا مرتبط بنقدى لملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ، ولاحقا لمقارنة ضلال الخلود فى هذه الملحمة بأوهام الخلود فى حضرة المحترم لمحفوظ أيضا.