“يوميا” الإنسان والتطور
10-9-2008
السنة الثانية
العدد: 376
مقال رمضانى رغم أنفى
الأطفال ورمضان، وربنا، والنجاح
مقدمة (قبل المقال):
احتج أقرب الناس إلىّ أن يحل علينا رمضان، ولا أكتب مباشرة فيه، أو عنه، اللهم إلا فى انحناءة عابرة، سوف تظهر السبت القادم، فى باب “تعتعة” ومن بينهم هذه الابنة الشقية التى أحضرت لى مقالا قديما كتبته فى الصحيفة اليومية السرية التى استضافتنى أسبوعيا عاماً أو بعض عام، ومنحتنى صفحة كاملة فى باب اسميته “الإنسان”، واقترحت ابنتى هذه أن أعيد نشر هذا المقال بالذات فى نشرة الإنسان والتطور بمناسبة رمضان،
وحين تصفحته قلت لها إننى أذكر أن أغنية “النجاح” التى تضمنها نزلت فى إحدى نشرات العام الماضى،
قالت لى “ولو”،
قلت لها لقد جاءتنى الفكرة آنذاك حين جاء رمضان، وألمحو لى فى تلك الصحيفة، أن أشارك فى الاحتفالية، فرفضت، حتى جاءتنى فكرة أن أنشر أربع مقالات فى السلسلة لربط فطرة الأطفال بربنا، وبذلك أتهرب من الرشاوى الطبية غير العلمية، التى تبدو كأننا نشجع الناس على الصيام بما هو أقل منه مئات المرات،
قالت لى (وهى ممسكة بأصل المقال فى 14/10/2005):
“ولو”!!،
قلت لها:
طيب أعيد قراءته بما يناسب اليوم بعد مرور ثلاث سنوات،
قالت:
“أبدا” لو قرأتُه أنا كل شهر مرّة، فسوف يصلنى منه جديد لم ألتقطه فى المرة السابقة.
قلت لها:
على عهدتك ؟
قالت :
على عهدتى .
قلت لها :
رمضان كريم؟
قالت: أرجح أن كرم رمضان هو الذى جعلك تجيبنى إلى طلبى،
وسلمتْ المقال للسكرتارية دون الرجوع إلىّ
وهذا هو:
أما قبل
فى حديث الامام الشيخ محمد عبده مع الفيلسوف هربرت سبنسر (1820 – 1903) عَلق الإمام على نقد سبنسر لمادية الحضارة الغربية قائلاً “….هؤلاء الفلاسفة والعلماء (يقصد: العلماء الغربيين) الذين حققوا كل هذه الاكتشافات فى الطبيعة والمادة “…(وعدد بعضها فى الكيمياء والفيزياء ..وغيرهما)… أفلا يتيسر لهم أن يجلوا ذلك الصدأ الذى غشى الفطرة الانسانية ليصقلوا تلك النفوس …؟”
ثم أشار إلى دور الدين والايمان فى الإسهام فى جلاء هذا الصدأ الذى غشى الفطرة البشرية.
لن نجلو الصدأ الذى حل على الفطرة البشرية بأن نفسر نبض الدين بظاهر العلم، أو أن نقرأ آيات تصف من لا يحكم بما أنزل الله، فنختزل فهمها إلى صفقة تهدف إلى “إدارة الدولة”، وصلنى أن الحكم بما أنزل الله – استلهاما لا تفسيرا – هو أن نحسن فهم الطبيعة كما خلقها، الطبيعة البشرية، والطبيعة الكونية، فكل هذا من عنده سبحانه، فهو أنزله، والحكم به هو أن نوجهه “إلى أحسن ما هو”، لعل هذا هو الذى دعى أحد المتصوفة أن يعّرف طريقه إلى الله بأنه: “..أن تملأ الوقت بما هو أحق بالوقت”. نحن أيضا نتعرف على الفطرة كما خلقها الله من الطفولة فى نقائها، ومن الطبيعة فى اتساقها وجمالها، وذلك من خلال كل وسائل المعرفة وقنواتها دون خلط أو استسهال أو تسطيح أو تعسف أو احتكار لأحد المصادر دون غيرها.
حين أقول إن الله أنزل قوانين الفطرة لا أقصد تحديد أى نص إلهى بذاته، وإنما أقصد أن كل علم أو معرفة أو إبداع حقيقيين هو من عنده، بمعنى أن إبداع المبدع، وإنجاز العالم، هو من عنده من حيث المبدأ، وهو لإزالة الغشاوة التى حجبت حركية الطبيعة، بغض النظر عن معتقد المبدع أو العالم. هذا الرأى مخالف تماما للتفسير الذى يسمى الإعجاز العلمى للنص الإلهى، لأنه مثل ذلك التفسير لا يضيف إلى العلم أو إلى المعرفة إلا مغالاة فى التأويل، وتسطيحا للمعرفة، وتشويها للإيمان، اللهم إلا إذا كان إشارة إلى استلهام متجدد لمعنى موازٍ، وليس متعسفا قاصراً على آية نابضة بمعلومة لا تؤخذ إلا فى سياقها الإيمانى.
أين يقع النجاح – مثلا– كما نعرفه اليوم من نبض الفطرة وغايتها؟
هذا هو سؤال اليوم؟.
حكايات وأغانى رمضان: عن الفطرة والأطفال
النجاح: غاية أم وسيلة؟
قيمة النجاح هى من أعظم القيم الدافعة للتفوق والإنجاز والفرح، هذا ما يؤكده كل شىء تقريبا فى حياتنا.
“مالاقيش فرحان فى الدنيا قد الفرحان بنجاحه”،
– “الناجح يرفع إيده” ..إلخ
هذا صحيح يا عم عبدالحليم يا حافظ. أوحشتنا!!
من يستطيع أن ينكر أنه يريد أن ينجح؟ وينجح جدا؟ وينجح أكثر من غيره، ويتفوق عليه؟ ما العيب فى ذلك؟ لا يوجد عيب طبعا.
ألا أريد شخصيا أن أنجح الآن فى توصيل فكرتى لمن يهمه الأمر، ومن لا يهمه الأمر؟
ألا نتكلم طول الوقت عن نجاح هذا الفيلم وحصده كذا من الإيرادات، وفشل ذلك الفيلم برغم عرضه فى العيد؟
ثم خذ عندك النجاح “الذى هو”، فى المال والتجارة، وكافة أنواع البيزينس والشطارة !!! ثم حديث هؤلاء بدورهم عن “أعداء النجاح”، والحقد الذى يلاحقهم من كل السمّاويين على الأرض.
ما حكاية النجاح ومنذ البداية؟
يولد الطفل ليعيش، لا لينجح،
صحيح أنه ينجح أن يمشى بعد أن كان يزحف،
وينجح أن يكون جافا بعد أن كان يبلل كل ما يرتديه أو من يحمله،
لا المشى هدف فى ذاته ولا الجفاف مطلب مستقل.
الذى يحدث غالبا، وخاصة عند الطبقة المتوسطة، هو أن ينقلب النجاح –خاصة فى الدراسة – إلى غاية فى ذاتها، بل إن النجاح يصبح غاية طاردة لغيرها من الغايات الأخرى حتى لو كانت أرقى، وقد تدور عجلة النجاح حول نفسها، فلا يكون بعدها إلا مزيد من النجاح المفرغ من وظيفته مهما حسنت النوايا.
قالوا: وكيف كان ذلك؟
فى مجتمع ذى فرص محدودة، وخاصة لأبناء الأسرة المتوسطة وما دونها، يتم الإعلاء من قيمة النجاح “الغاية”، والتفوق المقدس، فى مجال التحصيل الدراسى، منذ سن مبكرة، الأمر الذى يحتد تماما قرب الثانوية العامة، حيث كثيرا ما نسمع كيف أن المسألة قد أصبحت باختصار “مسألة حياة أو موت”، وحين تحتل قيمة التفوق والنجاح هذا المقام الخطير، قد يتم تحقيقها على حساب قيم أخلاقية وإنسانية ودينية رفيعة مثل: الأمانة أو التراحم فى العلاقة بالآخر، أو الإبداع، أو الإيمان الحقيقى. الذى شاع مؤخرا فى مجتمعنا من انتشار الغش الفردى، أو الجماعى، وفرط الأنانية الغبية على حساب الآخرين، والمنافسة غير الشريفة، وشيوع مبدأ الغاية التى تبرر الوسيلة، كل ذلك يشير إلى فداحة الخطأ، ومدى الخطر.
أزمة الثانوية، والابن المشروع الاستثمارى
إن ما يسمى أزمة الثانوية العامة للمتفوقين، أو الذين كانوا متفوقين ثم فجأة تعرقلوا وهم يقتربون من هذه المرحلة، تعلن بوضوح رفض الأولاد والبنات لما وصلهم، أو لمِاَ صيغوا من أجله حتى هذه المرحلة. هم يدركون – فى داخل داخلهم – فى هذه المرحلة الحرجة من العمر كيف أنهم بالنسبة لأهلهم ليسوا إلا أداة مصقولة يتم إعدادها من خلال التفوق لتحقيق النجاح. يبحث الناشئ عن ماهيته، أو هويته، أو وجوده، فلا يجد نفسه إلا كما صوروها له أو تصوروها عنه، باعتبار أنه ليس إلا “مشروع استثمارى” لابد أن ينجح. من هنا يصل إلى وعيه أنه “غير موجود” برغم نجاحه، بل إنه أصبح كذلك – غير موجود- بسبب نجاحه. إنه لم يوجد أصلا إلا ككتاب مصقول يتم التأكيد على نظافته، وجمال إخراجه، ومدى جاذبيته، دون النظر إلى محتواه أو حقيقة معناه، أو فائدة توظيفه.
فى فترة المراهقة بالذات يبدأ مستوى ما من مستويات الوعى فى التساؤل عن: من هو؟ أين هو مِنْ كل هذا الذى لصق به؟ أو حل محله؟ فإذا به يكتشف أنه ليس إلا كتابا يملكه الوالدان، فإذا احتدت الأزمة لدرجة المرض، فإنه لا يتردد أن يمزق ذلك الكتاب الذى حل محله أملا فى أن يجد نفسه مختبئا خلفه، فإذا به يكتشف أنه إنما يمزق نفسه لأنه لم يكن – كما صنعوه- إلا كتابا !!! وهات يا قلة تركيز، وهات يا إعاقة للذى كان متفوقا “يا حبة عينى”، وهات يا شكوى، و يا مرض، فطبيب نفسى، ويا ترى !!
قراءة من الداخل
فى محاولة قراءة من داخل هذا الناشئ يمكن أن نكتشف أنه لا يرفض النجاح، وإنما هو يرجو أن يستعمله وسيلة إلى ما بعده.
إلى ماذا؟
وهل بعد النجاح شىء؟
ترد الفطرة السليمة بقولها: نعم، النجاح ليس إلا وسيلة لدعم الفطرة كما خلقها الله “بما هى لما هى”.
قيل: وكيف ذلك؟
قالوا: بأن تتطور إلى غايتها فى نمو متصل.
قيل يعنى ماذا؟
قالوا: قد يعنى ما يلى:
لقد خلقنا الله لنعبده؟ “وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون”. استلهاما من هذه الآية الكريمة، وليس تفسيرا- يأتينى معنى للعبادة، بالإضافة للبنية الأساسية من الأعمدة الخمس فى دينى، إنها “مواصلة الكشف المعرفى إبداعا” حتى نتعرف أكثر فأكثر، وبتجدد مستمر،على أنفسنا، فالكون، سعيا إلى وجه الحق سبحانه وتعالى. يقال إن ثم حديثاً شريفاً، ينسبه بعض الصوفية إلى الله سبحانه، برغم ضعفه، يقول “..كنت كنزا مخفيا، فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق…إلخ”.
نحن فى سعينا لرفع الغشاوة عن فطرتنا نتعرف على مختلف طبقات وعينا معا، فنعيد تشكيلها، فنكتشف أنها تتناغم مع كون متسع لا نعرف تفاصيل معالمه، لكننا – من خلال الإبداع والعبادة- نتعرف على طبيعتنا – فطرتنا- حالة كوننا نتناغم مع طبقات وعى الكون، توُّجهاً إلى معرفة أشمل بلا نهاية، سعيا إلى وجه الحق سبحانه وتعالى، الذى وسع كرسيه السماوات والأرض، بما لا مثيل له (ليس كمثله شىْ).
لو حاولنا أن نستمع لما يقوله هذا الناشئ (أو الناشئة) فى عمق وعيه ، لوجدنا فطرته تحاول عرض ذلك بأبسط الكلمات وأنشط التلقائية .
هو لا يرفض النجاح، لكنه يريد أن يضعه فى محله كوسيلة إليه، عن طريق التعرف على نفسه ، نحو ربه ، جهادا أكبر لإبداع أروع.
النص:
هوَّا حدّ يحب يسقط؟
هوَّا حد يحب يغلط؟
آنا طبعا نفسى أنجحْ
عايز افرحْ.
بس ما يحلّش محلى: “إنى ناجح”
إنت مش واخدْلى بالك، إنت سارح.
فى اللى نِفسك انى اجبيه لحد عندك.
آنا باعبُـد ربنا.
ليه عايزنى أبقى عبدك؟
آنا عبده هوّه وحده
يعنى حاسعى لحد حدّه
بس هوّه تعالى خارج كل حدّ
وانا باسعى له ومش قايل لحدْ
طَبْ حاقولَّك:
آنا طول عمرى هنا من قبل ما انجح
آنا موجود بعد ما انجح
يعنى لو تِعْترفُوا بيَّا لو سقطتْ
أو غلطتْ
حاعرف انى قد كبرتْ
أرجع أنجح شكل تانى
مش بعيد مالأولانى
بس أجمل
أصل هوّه الأصل يا با ، تبقى تعقلْ
تنتبهْلى تشوف طريقى، واللى خَلَقكْ
حاتْلاقينى وصلت قبلكْ
آنا رايح ناحيتُهْ
زى ما هوّا خلقنى بْحِكْمتُه
يعنى مش محدود بوهمى إنّ “انا”
أو كما رسمتْنى أوهامكم هِنَا
أنا حانجح مش عشانكم
مش عشان خاطر عيونكم
النجاح دا هوّا ليّا، وانا منكم
النجاح الحلو يعنى:
هوّا إنى:
أنتفع بنجاحى ليِنَا، يعنى ليّا
إنى أسعد لينا فيكمْ، يعنى بيّا
إنى أفـْـهَم نفسى أكَتْرَ
يعنى أفهمكم واقدَّرْ
يعنى أكْبـرَ
النجاح دا زى عربيَّة جميلة،
تبقى حلوة، لو أسوقها، مش تدوسنى
نفِسى مرّة فِى عواطف مالأصيلة
مش تبوسنى:
لما أنجح ،
وامّا ما انجحشى كإنى، مش تبعكم
أنا حانجح شكل تانى، واشترى حتى اللى باعْكُمْ
ليكم انتمْ
وانا معْكم
القراءة
نلاحظ معا تعبير “بس ما يحلش محلى “إنى ناجح”، هذا هو ما أشرنا إليه حالا من حيث أن النجاح هو نتاج الوجود الصحيح، وفى نفس الوقت هو دعامة له، وسيلة إليه. وليس بديلا عنه.
هل يمكن أن يفهم الأهل كيف وضعوا العربة امام الحصان، حين علقوا – ربما لا شعوريا- اعترافهم بابنهم على نجاحه؟ الأوْلى أن يكون نجاحه نتيجة أنه موجود معترف به، وبالتالى قادر على أن يطلق قدراته.
هل يستطيع الصغير أن يخترق ما لحق به من إلغاء؟
هل يمكن أن يرد على هذا التجاوز، ليس بتمزيق نفسه وإزاحتها – بالمرض عادة – وهو يتصور أنه لا يمزق إلا كتبه ولا يعطل إلا دراسته؟
هل يمكن أن تهديه فطرته إلى أن تتجه خطواته نحو المعرفة المتصاعدة على سلم النجاح إلى الناس فالعبادة والإبداع بالصورة السالفة الذكر؟
إن الصغير يريد أن يستولى على ناتج نجاحه ليتكوّن به، وفى نفس الوقت يُـسكت أهله عنه باعتبار أنه حقق ما أرادوا، لكن لغير ما أرادوا.
نستمع إليه: “…. أصل هوّه الأصل يا با، تبقى تعقلْ، تنتبهلى تشوف طريقى، واللى خلقك، حاتلاقينى وصلت قبلك. آنا رايح ناحيتُهْ، زى ما هوّا خلقنى بحكمتُه، يعنى مش محدود بوهمى إنّ “انا”، أو كما رسمتنى أوهامكم هنا.”
هكذا يمكن أن ينقلب النجاح، هو هو، إلى وسيلة للنمو، وليس غاية للتكاثر يقول صاحبنا: “…حاعرف انى قد كبرت، أرجع أنجح شكل تانى، مش بعيد مالأولانى، بس أحلى” .
الأهل لا يعرفون – غالبا – من معانى النمو إلا التقدم فى السن (بأمارة أعياد الميلاد مثلا) أو أن الولد أصبح أطول من أبيه، أو انه حصل على الشهادة الكبيرة، أو تزوج، كل هذا لا يعلن إلا مرور الأيام، والسنين، أما النمو بمعنى التغيير الكيفى، نحو مزيد من التطور، فهذا ما لا يعنيهم، بل قد يرعبهم حتى يعتبروا أن النمو، مثلا فى فترة المراهقة – ليس إلا مرضا مستعصيا .
يقول صلاح جاهين
النص
“البنت فارت والولد خنشر
يا ميت ندامة ألف بعد الشر
يا ريتها كانت نزلة معوية
ولا وجع فى البطن يتدبر
إلا اللى صابهم كان قضى ونابهم
مالوش دوا ولا طب يا سى أنور
البنت فى الإعدادى لسّاها
كان إيه لزومه الغصن يتدوَّر
والأّ الولد دا يا دوب دخل ثانوى
ليه خده ينطر شوك بدى المنظر
مش لمّا بس يكملوا علومهم
ما كانشى يومهم، يا النهار الأغبر
القراءة
هذا التأجيل: “مش لما بس يكملوا علومهم” ، نفهم منه أن الأهل يرفضون حتى البلوغ فى المراهقة، إلا بعد انتهاء مرحلة الدراسة، وكأن للنمو أولويات من حقهم التحكم فيها.
إنهاء الدراسة لا
يتم إلا فى بداية منتصف العمر، ويا ليته وعدٌ جاد.إن تأجيل السماح بالنمو لا ينتهى أبدا. أزمات النمو التى تبدو – من فرط المعاناة – أنها مرض خصوصا فى فترة المراهقة ومنتصف العمر- تحتاج إلى إعداد سابق حتى نجتازها بسلامة، بما فى ذلك استعمال عائد النجاح، باعتباره وسيلة إلى النمو وليس هدفا فى ذاته.
الفرض
النمو يتم بقوانين التطور بالنسبة للنوع (ربما برامج بقائية تكونت فى طين الدّنا”)، وإذا بالإنسان، حين تجرأ فحمل الأمانة، راح يسهم فيها بوعيه وإبداعه بالنسبة للفرد والمجتمع على حد سواء. هذا الوعى ليس بنفس شجاعة ومغامرة مسيرة التطور، ومن ثم نُرْعَبُ من مواصلة النمو أفرادا فجماعات،
يبدو أن الذى يحدث هو أننا حين نعجز – شخصيا – عن مواصلة النمو كبارا نَحُلّ فى أولادنا حتى قبل أن يولدوا، نتصور، ونأمل، أنهم سوف يحققون ما عجزنا عنه، فينمون نيابة عنا،
لكنهم ما أن يولدوا حتى تنقلب الحال، فبدلا من أن نواكبهم آملين مسئوليين داعمين، نسارع بوضع قيم متوسطة للحياة وأهدافها، باعتبارها نهاية المطاف، ومن أهمها “النجاح”، الأمر الذى يعيقهم فيظلون أقزاماً مثلنا.
النمو هو السعى المتصل إبداعا نحو المعرفة المفتوحة النهاية التى توصلنا إلى وجه الحق سبحانه وتعالى، فيكون التوقف عند أى هدف دون ذلك، باعتباره نهاية المطاف، هو نوع من الشرك بالحق تبارك وتعالى.
كلمة التوحيد”لا إله إلا الله” هى دعوة شديدة العمق للسعى إلى حرية حقيقة تسمح بالنمو و الإبداع كما خلقنا الله بشكل متصل مفتوح النهاية،
التوحيد الحقيقى يسمح بحرية إبداعٍ متميز لا يمكن أن يحل محله أمر آخر، يتجلى الشرك بالله إذن حين تحل الوسائل أو الأهداف الوسطى محل النمو المفتوح النهاية بالإبداع والعبادة: نحو الحق سبحانه وتعالى.
أزمة منتصف العمر
يحدد متن الأغنية موقع النجاح كوسيلة إلى ما بعده، وإلا كان كارثة لمن يتوقف عنده….”النجاح دا زَىّ عربيَّة جميلة، تبقى حلوة، لو أسوقها، مش تدوسنى، نفِسى مرّة فِى عواطف مالأصيلة، مش تبوسنى، لما أنجح ، وامّا ما انجحشى كإنى، مش تبعكم، أنا حانجح شكل تانى”
المقابل لهذا الذى يحدث للنشء صغارا هو ما نتورط فيه – كبارا- من عبادة المال، أو السلطة، أو اللذة الحسية المنفصلة، كهدف نهائى.
لا اعتراض على نجاح ومكسب وشهادات ودكتوراهات وحب وجنس ونقود كثيرة، على شرط أن يكون كل ذلك وسيلة لما بعده،
من بعض مظاهر، ما يسمى “أزمة منتصف العمر”، أن يكتشف رجل الأعمال الناجح (الشديد الثراء ولا مؤاخذه) أن نجاحه الذى حققه، لم يعد عليه بما يميزه إنسانا، لم يسعده كما كان يتصور، فيصاب بما تيسر من معاناة تصل فى كثير من الأحيان إلى حد المرض، اللهم إلا إذا زاد فى سرعة دولاب الجرى فى المحل، لنجاح أكثر بريقا، يعميه عن أى شئ آخر.
الحل لهذه الأزمة قد يتمثل فى وقفة مراجعة إبداعية تعيد تقييم كل شئ، وذلك مثلا بأن يهتدى هذا الناجح إلى تسخير ناتج نجاحه هذا لما يطمئنه، بالمعنى الأصيل للطمأنينة، الأمر الذى لا يتم إلا بأن يصب نجاحه فى نوعية وجوده الممتد فى الناس إلى الله، فيسمح له ذلك الوعى المراجَع أن يشكل وعيه الفائق برجوعه – بكل ما حصل وجمع- إلى الحق سبحانه وتعالى راضيا مرضيا، بأن يدخل فى عباده، إسهاما وإبداعا وتواصلا وعطاء، فيدخل جنته بفضله تعالى، هذا ما استلهمته من هذه الآية الكريمة، التى يجتزئها البعض حتى يجعلوها لا تفيد إلا فى ترويج مفهوم التسكين المستسلم.
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)
دعوة رمضانية
رمضان بكرمه يدعونا إلى إعادة النظر فى عادات الأكل والشرب،
فهل نستطيع أن ننتهزها فرصة ونعيد النظر أيضا فى عادات التفكير؟
وجوهر العبادة؟
وإبداع الإيمان؟
وقيمة النجاح؟
ومدى التكاثر للاستهلاك؟
وحقيقة الجوع؟
ومدى مسئوليتنا عن حدوثه؟
وعن تلافيه؟.