نشرة “الإنسان والتطور”
18-10-2011
السنة الخامسة
العدد: 1509
مقالتان: اليوم وغدًا عمرهما 12 سنة
هل قرأهما أحد؟ هل سيقرأهما أحد؟
لست متأكدا لماذا أعيد نشرهما على أربع نشرات اليوم وغدا !؟ ثم الأسبوع القادم!!
هل هو كسل أن أكتب جديدا أم استسهال أم تذكرة أم غرور أم ماذا؟
مرة أخرة، يبدو أنها ليست أخيرة: عثرت على هاتين المقالتين المتتاليتين نشرتا منذ اثنى عشر عاما فى الأهرام بتاريخ 14-5-1999، ثم 1-6-1999، فتساءلت:
هل قرأهما أحد؟
وهل أثرا فى أحد؟
وهل لأى منهما علاقة بربيع الشرق الأوسط؟!! بالربيع العربى؟!! بالجارى والذى سيجرى؟
المقال الأول: 14-5-1999 كان بعنوان: العولمة ونوعية الحياة، وقد قسمته الآن إلى جزأين، الأول بعنوان: “الاختلاف نوعىٌّ والإغارة متلاحقة“، والثانى بعنوان: “حقيقة أن “الله موجود” تغيّر كل الوجود”
وفى الأسبوع القادم ننشر المقال الثانى على جزأين أيضا أملا فى استيعابهما أفضل مع هذا النشر البطىء المجزأ.
هل حدث شىء خلال هذه الأثنى عشر عاما؟
وهل سيقرأهما الآن أحد أم سيكون مصيرهما مجهولا مثلما أرجح أنه كان كذلك عند النشر الأول ؟
تصورت، وأنا أرجعهما، أننا أحوج ما نكون إلى توظيفهما من جديد بدأ بما هو نحن ثم عبر العالم لعلنا نساهم فى إنقاذ الجنس البشرى، كل من موقعه وبقدراته، إنقاذه مما ينحدر إليه تحت شعارات كاذبة وقيم زائفة.
لم أغير حرفا فيهما، فقط سوّدت ما أردت التنبيه إليه بإعادة النشر!
المقال الأول: 14/5/1999
الجزء الأول
الاختلاف نوعىٌّ، والإغارة متلاحقة
كثر الحديث عن العولمة، وعن العالم الذى أصبح قرية صغيرة، وعن ثورة الإتصالات التى سمحت للإنسان المعاصر بأكبر قدر من الحرية(حرية ماذا؟) عبر التاريخ، وعن الشفافية التى جعلت كل شئ متاحاً لكل أحد، وعن النظام العالمى الجديد الذى به حلت نهاية التاريخ!!!، عن صراع الحضارات الذى لابد بالتالى أن ينتهى لصالح الحضاره المنتصره،[على فرض ان الحضارة الامريكية قد إنتصرت جدً، إذا كانت قد وجدت اصلا!!].
ويبدو أن كل ذلك قد شغلنا عن الأهم والأولى بالنظر، وهو محاولة التساؤل بعد كل هذا، ومع كل هذا عن: إلى أين..؟ (و) إذن ماذا؟.
ونحن إذ نتساءل عن ذلك لا نعترض ولا نتحفظ ولا نضع شروطا لاستفادتنا من انجازات العولمة، لكننا نحاول أن نرتقى بوعينا وفعلنا إلى مسئوليتنا عن وجودنا، وعن نوعيته هذا إذا كان لنا ان نختار ما فضلنا به الله، وهو الوعى بما نحن، ومن ثم الإسهام فى اختيار ما يمكن ان نكونه.
لقد أنهى بيل جيتس كتابه الطريق يمتد قدما1995 المترجم باسم المعلوماتيه بعد الانترنت (فى سلسلة عالم المعرفة ترجمة عبد السلام رضوان مارس1998) بأمل واعد يقول… ويمكننا بالتأكيد أن نواصل توفير برمجيات أفضل وأفضل من أجل جعل الكمبيوتر الشخصى اداة تمكين معممه فى كل مكان… ولم يقل، ولا يبدو أنه شغله أن يقول لنا، اداة تمكين من ماذا؟ ولا أداه تمكين للوصول إلى أين..؟ اللهم الا إشارة عابره لانشاء شركات جديدة،، وعلوم جديدة تحقق ما يتصوره عن تحسين نوع الحياة.
فهل يوجد تعريف إجرائى لنوعية الحياه التى نريد ان نحسنها؟ أهى إطاله العمر، ام مجتمع الرفاهية، أم أوهام الحرية، أم تعميق الوعى والإمتداد الايمانى، أم مزيد من تأنيس الإنسان؟.
كذلك انهى الكاتيان هانز بيترمان، وهارالد شومان كتابهما فخ العولمة (المترجم ايضا فى نفس السلسلة أكتوبر1998 ترجمه د. عدنان عباس على برص عشرة أفكار رائعة لإنقاذ اوروبا من غباء العولمة (الأمريكية)، وليس لإنقاذ الجنس البشرى من الإنقراض المحتمل، وقد بدت لى هذه الافكار الأوروبية التى لوح بها المؤلفان بدت لى أفكاراً مثالية خاصة بأوروبا جداً، آملة، وقصيرة الأجل.
كذلك تتبعت مقدراً إجتهادات ا. د. زقزوق، وأيضا د. محمد رءوف حامد (اهرام الجمعة7 مايو1999)، فى محاولة التوفيق بين الإسلام والعولمة من جهة، وبين الوطنية والعولمة من جهة أخرى، إلا اننى شعرت بعد الإمتنان لهما أن الأمر قد يحتاج الى خطوة أبعد مما ذهبا إليه مشكورين.
وسوف اتجنب ألا أركز على فتح ملف الفروق بين ثقافة الشرق(المتخلف أو الوجدانى أو الإشراقي!! وثقافة الغرب والشمال(المتقدم، البالغ الوفرة، المحقق للرفاهية!! فهو ملف مفتوح دائما، والنقاش فيه مغلوط عادة،(مثلاً بالمعايرة أو التشفى بذكر مذبحة كولورادو الأخيرة على أنها نذير تدهور الغرب كله لا محالة.. إلخ).
كذلك لن أحاول أن أعدد فضائل الأخلاق(المنقرضة) التى كنا نتمتع بها، أو التى يمكن أن نفخر بها، أو التى ينبغى أن نتصف بها، فمثل هذه الدعوات لا جدال حول وجاهتها، من حيث أنه على الإنسان أن يكون على خلق عظيم، سواء باحياء تعاليم دينه او بإتباع مواثيق حقوق الإنسان، إلا أن المطلوب ليس مباريات الفخر والهجاء، ولا حتى محاولات التوفيق والتزام قدر من الموضوعية، وإنما المطلوب هو محاولة التساؤل المبدئي:
هل توجد فروق جوهرية فيما يتعلق بنوعية الحياة التى يلوحون لنا بها، وبين نوعية الحياة التى تصلح لنا من وحى إختلافنا التاريخى والآنى، والتى قد يكونون هم أحوج ما يكونون إليها(إلينا) إذا نجحنا فى إثبات جودة وصلاحية ما ندعو اليه ونحققه؟ ام ان العولمة قد أزالت هذه الفروق بالمرة؟
يقول بطرس غالى فى شأن العولمة حالة كونه سكرتيراً للأمم المتحدة: ليست هناك عولمة واحدة، بل ثمة عولمات عديدة، فعلى سبيل المثال، هناك عولمة فى مجال المعلومات، والمخدرات، والاوبئة والبيئة، وطبعاً، وقبل هذا وذاك، فى مجال المال أيضا ثم يتكلم غالى عن الجرائم العابرة للحدود كما يتكلم عن الأموال العابرة للحدود، لكنه ربما من باب الحذر لا من قبيل الغفلة لم يشر إلى عولمة التدين، وعولمة التوحيد، والأخلاق الحميدة العابرة للحدود، والوجود الإيمانى العابر للحدود.
وقد تناول ديستويفسكى حضور الله سبحانه فى وعى الإخوه كارامازوف واحداً واحداً ليعلن بطريق مباشر أو غير مباشر أن هذا المتغير حضور الله فى الوعى هو أساسى فى بناء الشخصية، ومن ثم فى تحديد نوعية الحياة، بحضورها الآنى فى الفعل اليومى، يستوى فى ذلك تسليم إيفان الملحد بأنه.. إذا فقدت الإنسانيه هذا الإعتقاد بالخلود فسرعان ما ستفيض جميع ينابيع الحب..(و) أكثر من ذلك أنه لن يبقى شئ، يعد منافياً للأخلاق، وسيكون كل شئ مباحاً، او رأى ديمترى أنه: أنك إذا أنكرت الله تنتهى إلى زياده سعر اللحم.. الخ.
كذلك ظل نجيب محفوظ يلح حول هذه القضية بكل اصرار ومثابرة من أول زعبلاوى حتى الحرافيش إلى أصداء السيرة، مارين بالطريق دون إستبعاد أولاد حارتنا، ومن أنصت إلى عمر الحمزاوى فى الشحاذ وهو يستمع لذلك الصوت يعاتبه فى نهاية الرواية إن كنت تريدنى، فلم هجرتنى، لابد أن يدرك أين وضع محفوظ هذه القضيه محوراً فى تحديد نوعية الوجود البشرى. وكل ذلك وغيره خليق بأن يلح علينا بضرورة إكتشاف وتاكيد حقيقة جوهرية فى الوجود البشرى تقول: إن وجود الله هو ضرورة حيويه ليكون البشر بشراً، وأن هذه القضيه يستحيل أن تكون مجرد مسألة منطقية شبه عقلية، أو حتى أن تختزل إلى إستسلام دينى غيبى.
ولن استطرد بعد ذلك فى شرح هذه المسالة حتى لا أخرج عن هدف المقال الاصلى الذى يقول:
أننا ونحن نتناول هذا التمادى المطرد فيما هو أدوات التمكين التى تتيحها وسائل الحياة المعولمة، لابد أن نضع هذا المتغير الأساسى فى حسباننا، وإلا فسوف نستدرج إلى التسليم ضمنا بموقع العقيدة والإيمان كإضافات اختياريه Options(مثل كماليات السيارات) يمكن أن يتحلى بها من يشاء بعض الوقت تحت زعم أن الدين لله والوطن للجميع، أو أن ما لقيصر لقيصر وما لله لله وكلام من هذا، مما يخدعنا تحت وهم تسامح كاذب لا يصل إلى عمق حقيقة التواصل البشرى تحت مظلة الله.. سبحانه وتعالى طوال الوقت؟.
إننى أزعم أن هذه المسألة “وجود الله سبحانه” كمتغير فاعل طول الوقت هى الجوهر الذى ينبغى أن نعتنى باستعمال الأدوات الأحدث لبرمجته بطريقه تميزنا نحن، وفى نفس الوقت قد تضيف إلى إحتياجاتهم ما يمكن أن ينقذهم من أوهامهم حول الإكتفاء بالحرص على الرفاهية والتنافس الكمى المتنامى، والإستغناء عن الله باثارة الفنية فى إبداعهم؟ أن الحياة البشرية تختلف نوعياً إذا كان الله موجوداً عنها إذا ما أنكرناه أو أبعدناه أو حددنا أوقات لقائه أثناء العبادات او ايام الأحاد أو الجمع! ولعل هذا، فى رأيى، هو الفرق بين الإسلام الموقف الوجودى، وبين الإسلام المغترب، او المختزل، او الإسلام المستعمل من الظاهر لتولى سلطه، أو إعلان وصايه، وكذلك بين الإسلام الفطرة وبين التشويهات التى لحقت بممارسات الإسلام المؤسسة، والأديان الأخرى التى تمارس بإعتبارها إضافه طيبه للحياه لا مانع منها بعض الوقت!!!
أن التاريخ الحيوى للتطور يعلمنا أن أى نوع من الأحياء ينقرض إذا تمادى عدم التناسب بين مجالات وجوده، ونوعيات قدراته، وطبيعه فطرته، وأيضا ينقرض نتيجه عدم التناسب بين إحتياجاته ومعطيات الوسط المحيط، هكذا تعلمنا دروس إنقراض الديناصور مثلا حين تمادى عدم التناسب بين ضخامة جسده وصغر حجم مخه وسرعة حركته إلخ، وما تعرضه علينا الآن أدوات العولمه يكاد يضعنا فى موقف مشابه اذ نتهدد حتماً بدرجة من عدم التناسب بين سرعة الحصول على المعلومات وبين امكانية استيعابها، وايضا بعدم التناسب بين غلبة الحسابات الظاهرة على الحس الإيمانى التواصلى الاعمق.
فهل عندنا اى موقف أو تاريخ او اختلاف يمكن ان يسهم فى تحقيق إعادة التوازن المطلوب هذا؟
الاجابه عندى بكل عناد (او غفله) نعم.