نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 29-4-2015
السنة الثامنة
العدد: 2798
مقالات قديمة!! (ثقافة وثقافة أخرى!! 3 من 7)(1)
حضارة بديلة! كيف (1-5)
عن المدنية والحضارة؟
نستعمل هذه الأيام كلمتى الثقافة و الحضارة بوفرة وافرة، وإلى درجة أقل كلمتى: المدنية والعمران، لا نتوقف كثيرا عند المعانى المقصودة، ولا نتعمق بدرجة كافية فى التفرقة الواجبة.
يرجح أغلب المؤرخين والمفكرين أن المدينة، وماتمتعت به واكتسبته من أدوات هى المسئولة عن تكوين المدنية التى هى مرادفة – فى أغلب الأقوال والمراجع وليس كلها- لما هو حضارة، أى أن العمران، بمايقدم من فرص وخدمات وتنظيمات تقوم بها مؤسسات هو المسئول عن نشأة واستمرار الحضارات، فإذا صح ذلك تاريخيا ولغويا، وصحيح بعضه، فإننا لا شك نحتاج إلى وقفة مراجعة عصرية دقيقة، نقف فيها الآن متسائلين:
هل يصدق نفس الأمر فى أيامنا هذه “هكذا” مباشرة؟ بمعنى: هل مجرد اكتساب أداة العمران هو أمر كاف لإنشاء حضارة، أم أن الأمر أصبح أكثر تعقيدا وأعقد إشكالية؟ إن من أهم أدوات العمران الآن: الحصيلة العلمية المتاحة للشخص العادى، والحصيلة التكنولوجية فائقة المعاصرة الجاهزة لاستخداماته. فماذا يمكن أن نفعل بها دون أن نصبح مجرد صدى أو نسخة مكررة ماسخة ؟
علينا أن نلاحظ ابتداء بعض ما يجرى عندهم دون تعميم: إن تــوفر الأداة العمرانية فى أكثر مدنهم تمدنا وأوفرها تقنية ومعاصرة (نيويورك – لوس انجلوس مثلا) لم يعد كافيا لحسن استعمالها لصالح البشر، والخوف المحيط بنا هو أن نحذو حذوهم جملة وتفصيلا إذا لم ننتبه بالدرجة الكافية إلى سلبيات تجربتهم، وفى نفس الوقت إلى إيجابيات عطاء أدواتهم.
نحن نتكلم بطريقة متواترة عن الدول المتقدمة والدول المتخلفة، ثم عن الشعوب المتحضرة والشعوب البدائية، ثم عن دول وشعوب العالم الثانى والثالث والرابع عشر، وقد زاد هذا الحديث بشكل متواتر حين بدأت بدعة النظام العالمى الجديد، ومن بعدها بدعة العولمة، ثم الشفافية وما إلى ذلك. نحن لا نشك فى أن الدول التحضرة هى كذلك (متحضرة) بالمقاييس السائدة، كما أننا لا نحاول أن ندخل فى لعبة الفخر والهجاء، خصوصا إذا اقتصر فخرنا على الماضى، ثم توجه هجاؤنا إلى منتصر يتفوق علينا طول الوقت فى كل المجالات المادية والظاهرة.
الوقفة التى أدعو لها تلزمنا أن نراجع الأمر لنرفض الترادف بين ما هو “مدنية” وما هو “حضارة”، دون أن نفصلهما فصلا تعسفيا.
نؤكد مرة أخرى أن العمران بما يقدم من أدوات ومؤسسات هو المسئول عن نشأة واستمرار الحضارات. ومع ذلك فالمسألة ليست بهذه المباشرة ولا بهذه البساطة. لا شك أن الحضارة تحتاج إلى استعمال كل منجزات الإنسان فى لحظة بذاتها فى بقعة بذاتها، لكن مجرد وجود هذه المنجزات ليس كافيا، ولا هو الضمان الأكيد لإفراز حضارة لها ما يميزها ويحافظ عليها، بل إن بعض الحسابات والمتابعات الواعية تشير إلى أن وجود هذه الوسائل قد تنقلب على صاحبها إذا هو لم يحسن استعمالها، ولم يتهيأ لها بالقدر الكافى. أو إذا استمرأ التباهى بها فى ذاتها دون أن يحرص على توجيه عائدها واختباره أولا بأول. إن هذا الخطأ هو الذى أدى إلى سقوط الامبراطورية الرومانية، وهو هو ما يهدد الحضارة الغربية حاليا. لهذا وجب علينا أن نذكر أنفسنا طول الوقت بالمحكات التى تجعل الوسائل (أدوات التمدن ورموزه) أكثر قدرة على إفراز إيجابيات الحضارة. وفى هذا نقول:
إن أدوات التمدن تصبح وسائل الحضارة حين تتوفر فيها الشروط التالية:
(1) إذا كانت من نتاج صاحبها الذى يستعملها، وهذا لا يستبعد أن يكون من حق أى إنسان أن يستعمل وسائل ابتدعها غيره، لكن الفرصة تزداد حين ينتمى الإنسان إلى ما صنعت يداه، فيشعر أنه أحق بأدائها، وأحرص على إيجابيات عطائها.
(2) إذا كانت هذه الأدوات متاحة لتكون فى أيدى الكافة. أى أنها لا تكون مجرد رمز طبقى قاصر على صفوة بذاتها.
(3) إذا عاد عائد استعمال هذه الأدوات على دائرة أوسع فأوسع من ناس صاحبها، ثم راح يمتد إلى الأبعد فالأبعد حتى يشمل الناس جميعا.
(4) إذا طوع مستعمل الأداة أداته لخدمة غايته الإنسانية التى أفرزها وعيه المتقشف، ويقظته النبيلة.
قل هذا على الكهرباء والنفط والذرة والكتابة والحاسوب والإنترنت والفضائيات. وما شئت من أدوات هانت أم عظمت.
أما إذا كانت الوسيلة مستوردة، أو مقلدة، ولم يستطع مقتنيها أن ينتمى إليها فتنتمى إليه، وإذا اقتصرت الوسيلة على فئة ظنت أنها مزية لها دون سائرالبشر، وإذا كان عائدها لا يصب إلا فى مزيد من تميز صاحبها دون العالمين، وإذا انفصلت عن صاحبها فقادته إلى حيث لا يدرى دون اختيار واع، إذا حدث كل هذا أو أغلبه، ومهما بلغت مهارة الأداة أو تطاول البنيان، فحدث عن سلبيات التبعية لا عن فرص الحضارة. بل حدث أيضا عن احتمال الضرر من خلال لبس ثوب المدنية مع الإبقاء على معالم التخلف.
خلاصة القول: إن الحضارة أساسا هى حضور وعى بشرى مسئول، يصنع العمران ليعمر به الأرض لا ليتطاول فى البنيان، إن مثل هذا الوعى النبيل المتقشف إنما يتجلى فى فعل ظاهر فى ذاته ممتد فيمن حوله، يعلن تفوق الإنسان على تاريخه الحيوى والبشرى على حد سواء.
إن هذا الموقف النقدى اليقظ يلزمنا أن نربط ما هو مدنية لكى تكون حضارة بشروط التأكد من أن وعى الإنسان الذى أتيحت له فرص امتلاك أدوات العمران هو قادر على حمل مسئولية استعمال هذه الأدوات لدرجة تسمح بممارستها فى تعمير الأرض – لا خرابها -، وتطور البشر- لا تشويههم أو تناثرهم وتمزقهم، إن تطور البشر لا يقاس فقط بإنجازات الصفوة فى مراكز البحث وعروض المتاحف وبراءات النشر، ولكن لا بد أن يدخل فى التقييم والقياس نوعية تعامل الناس مع بعضهم البعض، وعمق مشاعر الأخوة الإنسانية التى ترسى قواعد العقد الاجتماعى السليم، وكذلك نوعية ممارسة القوانين العرفية التى تحكم الفعل اليومى. بل إن هذاالوعى (الحضارى) قد يتم ويتنامى مهما تواضعت أدوات المدنية المتاحة.
إن نظرة إلى ما هو نحن، وإلى ما حولنا لا بد أن تؤكد فائدة هذا التمييز، بحيث يمكن بقليل من التباديل والتوافيق إعادة تقسيم عالمنا المعاصرحسب علاقة المدنية بالحضارة بطريقة أخرى نورد أمثلة لها فيما يلى:
1- مدنية فائقة وحضارة مبعثرة أو مترهلة أو متراجعة، وهو ما نجده فى دول فائقة التقدم واضحة القوانين صلبة المؤسسات، تفيض بالجديد المحكم المنمط بشكل عام، يتبدى ذلك فى دور العلم، ومعطيات الصناعات، ومعارض الفنون، ومراكز الأبحاث، ولكن ما أن ننتقل إلى الشارع بعد السابعة أو الثامنة مساء فى كثير من مدنها حتى نجد الأمر مختلفا، فالناس تتلفت، وتخاف أن تحيى بعضها بعضا، وتغتصب وتـنتهك، وثمة قوانين تحتية تتحكم فى المشاعر والعلاقات والحياة يمكن أن تشمل: (مثلا) قانون “الرعب والقنص”، و “قانون الكر والفر” و “قانون البقاء للأسرع” إلخ.
2- مدنية وافرة حديثة مستوردة، و حضارة زائفة ومقلدة
وهو ما نجده فى دول حديثة التمدن و الثراء حصلت على كل وسائل الدول المتقدمة السالفة الذكر، وأكثر، فرصفت الشوارع، وأرست وسائل التوصيل والمواصلات، وخططت المدن ووفرت كل وسائل الحياة الأحدث لأغلب أفراد شعوبها، لكنها لا تضيف، ولا تبدع، ولا تطور، ثم أصبحت هذه الأدوات فى هذه المجتمعات هدفا فى ذاتها لذاتها وليست وسيلة لإطلاق القدرات واختصار أوقات المعاناة لملئها بالإبداع والموضوعية. أى أنها تمتلك وسائل التقدم والمدنية، لكنها توظفها فى بؤر متناثرة، تستعمل من الظاهر فيما يشبه البحث العلمى ومزيد من التمدن المتمثل فى التراكم الكمى لمزيد من أدوات البناء وليس العمران.
3- حضارة واعدة متوثبة، على الرغم من أدوات المدنية المتواضعة، هذا ما يمكن أن نتصور توفره فى مجتمعاتنا إذا حرصنا على الحفاظ على التقاليد الإيجابية والأخلاق الغيرية، عرفا و تدينا وإيمانا، بهذا تصبح هذه المجتمعات العريقة والمتواضعة قادرة على أن تطرح بدائل حضارية حقيقية حتى لو لم تمتلك ما يكفى من أدوات. بل إنها يمكن أن تخلق أو تطور ما يصلها من أدوات لخدمة موقفها المتميز، لا المقلد. هذه المجتمعات قد توصف بالبدائية والقبلية إذا لم ينتبه الناظر أو ينتبه أهلها إلى ما يعنيه الجانب الإيجابى من هذه القبلية، وخاصة متانة العقد الاجتماعى، وإيجابيات العرف النافع والخلق السليم.
فإذا ما هيئ لبعض هذه المجتمعات أن تمتلك مزيدا من أدوات التمدن والعمران، فإنه يمكن أن تسرع خطاها فى اتجاه ما حافظت عليه من إيجابيات موقعها المتميز والملتزم بالتغيير الكيفى وليس لمجرد الفرحة بالتراكم الكمي. إن المقياس الآمن لو صح مثل هذا التوجه هو أن نختبر عائد ما نمتلكه من أدوات معاصرة، لا بالاستزادة منه فحسب، بل بقياس آثاره وتطويره على هذا الأساس أولا بأول.
إن تأسيس حضارة بديلة هو أمر وارد، شريطة أن نخلق نحن معالمها من خلال ممارسة أخرى، وإن كانت بنفس الأدوات إذا كان لنا أن نستعيد دورنا فى ريادة المسار الحضارى، فإنه لا يكفى ترديد استعادة أمجاد أجدادنا، كما أنه لا يمكن أن ننجز شيئا حققيا دون امتلاك أحدث أدوات العمران وأكثرها فاعلية. ثم إن علينا كلما امتلكنا وسيلة جديدة (سواء كان قمرا صناعيا أم محطة فضائية أم موقعا على الإنترنت) أن نحسن ملأها بما يميزنا، ثم نعدل خطانا فى كل مجال من أول التنمية الكمية حتى تنوع الإبداع.
إن كل ذلك يتطلب منا أن نحدد معالم السلوك الحضارى كما نتصورها، الأمر الذى يحتاج إلى تحديد الخطوط العريضة بقدر ما يتطلب الاحتكام إلى محكات عملية كما تتجلى فى الفعل اليومى.
ولهذا وذاك حديث لاحق.
[1] – نشرت بجريدة الوطن السعودى بتاريخ: 27/11/2000