نشرت فى جريدة الأخبار
3/7/1979
معنى هذه الخطوة وصراخ العرب الغاضب
قالت العرب: لابد مما ليس منه بد والقوس له وترعرد والذى يعرف شرف كلمة العرب، وحضارتهم اللغوية، يعرف أنهم حين قالوا ذلك كانوا يعنون مايقولون.
ويقول المثل المصرى: ان كبر ابنك خاويه كما يقول مثل آخر مسير الأخ يبقى جار..
اذن، من هنا نبدأ، والبدالذى لابد منه هو أن يكون التعاون بين مصر الأم أو الأخت الكبرى، (أو الأب فى الحروب والملمات) وبين اخواتها الصغريات هو تعاون الكبير مع الكبير، لا الأم مع الرضيع، فقد آنالأوان بعد ماأعطت الأم من دروس فى الحياةوالإستقلال والثورة والحرب والسلام وبعد ما سلمتهم رؤوس أموالهم فى أيديهم يشترون بها مايشاءون..آن الأوان أن يصبح الأخ جارا وأن ينتقل التعاون الى أعمق وأصدق وأثمر وأثرى ما يكون.
ولكن السؤال الذى يطرح نفسه ويحتاج لبعض التحليل العلمى هو ك لماذا يرفض الإبن أن يستقل بعد أن أصبح أغنى (ويقول هو أقوى) من الأب (أو الأم)؟؟؟ من الذى من حقه أن يثور على الاراك الأب الذى جاع ليربى ابنه كريما ويعطيه ذهبه الأسود والأصفر خالصا، وينزف من أجله الدم طاهرا ثم يأتى الذى لا بد منه ليستقل الإبن، أم الإبن الذى نال كل شئ ولم يعط بعد شيئا ؟؟
رفض الفطام.. والخوف من الحرية
كلما عبثت يدى تمفاتيح المذياع وسمعت صياح الصبية ونواحهم، مرت على وجهى ابتسامة فيها بعض الشفقة، وبعض التسامح وكثير من الألم، وتذكرت – من واقع مهنتى مثل هذه المواقف فى العلاج النفسى، والعلالج الجمعى خاصة، ذلك الموقف العدوانى الذى يصاحب مرحلة الإستقلال من المعالة، اذ يثور المريض ثورة (مضربة) هائلة على المعالج، ويتهمه بالخيبة والعجز والتخلى والويل والثبور وعظائم الأمور، وعلى المعالج أن يفهم براعته ويحتمله حتى يتم رحلته ويستقل.
وأحسب أن اخوتنا العرب الصغار – ليس فى المقام ولا فى النقود والعياذ بالله – ولكن فى النضج والخبرة الحضارية، يعانون من مثل هذه الآلام.. الام الإستقلال وآلام الحرية، ومما لا شك فيه أن لهم وجهة نظر فى مسألة اسرائيل لعل فيها من السلامة والصحة ما فيها، وهذا شرف لنا قبل أن يكون شرف لهم وايش خاطر المحارب؟ قال خمسين قدس وتل أبيب، وهم منا وعلينا، وكل اجتهاد واقعى وعملى ومسئول سيعود علينا قبلهم بالخير لا محالة ولكن، للأسف، فإن هذا الصراخ والعويل لا يعبر عن وجهة نظر بقدر ما يعلن سخطا ورفضا لشئما، ربما يثبت بالتحليل العلمى أنه لا يتعلق مباشرة بالحرب والسلام بل ربما يتعلق بقضيتى الإستقلال والستغلال من جانب ابن يرفض أن يكبر، فإذا صغناها علميا قلنا انها آلام الفطام والإنفصال والخوف من الحرية والمسئولية.
آلام الإستقلال
وقد اعتاد الناس أن يتكلموا عن المعى الى الإستقلال، ولكنهم لم يتعودوا أن يسمعوا عن رفض الاستقلال، أو الخوف منه، الا أن هذه الظاهرة أكثر تواترا مما نحسب، وهى ملاحظة على مستوى الأفراد والجماعات، فليس غريباان يثور الرضيع عند فطامه، وليس غريبا أن نثور الشاب عند تخرجه واخراجه من البيت لبدء حياته على مسئوليته وبذراعه، وليس غريبا حين تثور المرأه على من تريد وثار على استقلال مصر ذلك تحريرها واستقلالها وهكذا، والذى عاصر منا مراحل استقلال مصر، قد يتذكر بعض تعليقات أعمامنا وخالتنا وجداتنا التى كانت تؤخذ مأخذ الطرافة، وأن كانت لها دلالتها الخاصة فى هذا المقام، فما زلت أذكر ما يشبه النكتة من والدى عن جدتى أنها خبطت بيدها على صدرها حين قالوا لها: مصر امتقلت يانينة فقالت منزعجة: ياعينى يابنى !
ومازلت أذكر شعرا طريفا حكاه لى والدى أيضا عن زميل (مدرس لغة عربية) كان مازال معمما، وثار على استقلال مصر فى ذلك الحين واعتبره قبل آوانه فى ذلك الحين، فقال فيه زميل ثالث هذا الشعر هاجيا :
خراف الشيخ فضلا رام يعلو فتدلي
ماله وهو ابن مصر ساءه أن تستقلا
من لرجلى بقفاه أنه يصلح نعلا
ولست أدرى لو كان هذا الشاعر موجودا الآن، ماذا كان سيصنع من منتجات الإذاعات الهائجة هذه الأيام؟
اذن، فالاستقلال رغم روعته وشرفه، ليس أمرا هينا، ولا هو محبوب أو مرغوب فيه طول الوقت كما يبدو لأول وهلة.
وعندى أن الذى يجرى على الساحة العربية الآن – من هذا المنظور – لا يتعلق مباشرة بقضية معاهدة سلام أ احتمال حرب، فهذه أمور سياسية لها حساباتها التى تخرج عن هذه المحاولة التفسيرية لما يجرى، لأن ما أقدمه هنا عى هذا المقال هو محاولة ايضاح أن ما يجرى الآن هو محاولة لمد فترة الرعتمادية الرضيعية وهذا تعبير علمى لا ينبغى أن يؤذى أحدا واحتجاج على الإستقلال المتحدى، ورفض لتحمل آلامه.
قرار مصر هو احترام لقدرات اخوتها العرب
والإستقلال الذى أعنيه ليس نقيض الإحتلال، فمصر، والحمد لله لم تحتل أحدا (حتى غزة)، ولن تحتل أحدا (حتى ليبيا)، ولكن الإستقلال المعنى هنا هو ضد الإعتماد.
فقد فوجئ اخوتنا العرب – وهم بعد فى روضة أطفال الحضارة الجديدة – بهذه المرحلة التى حسبوها أكبر من قدرتهم. فى حين أن مصر الأم قدرت أنها فى متناول شرفهم ومسئوليتهم، فموضوع معاهدة السلام بما له وما عليه – هو صدمة الواقع… أكثر منه أى شئ آخر، وهو بذلك اعلان ضمنى للعرب كل بقوته وبمسئوليته.
أن يستقل الان وبدون استئذان وأنه لم يعد من اللائق لا بالأم ولا بالأبناء أن تطول فترة الرضاعة، ولا أن تشترى أمومة مصر وأبوتها ببضع عشرات الملايين فهذا امتهان للأم (حتى ولو كانت هى التى أعطت البلايين) وشلل للأبناء، ومن هذا المنطلق، قررت مصر الا تكتفى بلبس المزيكة فى مؤتمرات القمة، وأن تسير على أرض الواقع مهما كانت مفروشة بالأشواك أو الألغام، ومن خلال هذا العرار فوجئ أخوتنا العرب، الأميون منهم والمستجدون فى مدارس محو الأمية الحضارية، فوجئوا أن عليهم أن يستقلوا الآن وليس بعد تفسيرى أنهذا هو سر ثورتهم، أو غضبتهم أو صياحهم، ونحيبهم.
الخطوة والمعنى والنتائج
فمعنى هذه الخطوة، مهما قيل فيها، هو أن مصر تتحمل مسئوليتها بخطئها وصوابها، وأنها فى نفس الوقت تثق فى اخوتها الأصغر، وتحترم قدراتهم وتوقن بأنهم سيحملون مصيرهم واحدا واحدا وهى ستساعدهم على ذلك – ماأمكن – دون وصاية.
أما النتائج المزعجة كما استقبلوها فهى أن الإستقلال الذى فرضته مصر عليهم من واقع حساباتها الأنضج يعنى أن تحرير الأرض، وتحرير العقل وتحرير الإنسان قد أصبح فرض عين لا فرض كفاية، فهو لا يسقط عن الكل أن قام به التقض، ومصر حين اعتبرته كذلك قامت بما رأت أنه فى مقدورها نحو بنيها المصريين آكلى الفول ومانحى الدم ودعاة الحضارة، ونحو بنيها الفلسطينيين ساكنى الخيام، وضحايا الكلام ومسلوبى الوطن وبتواضع الكائن الناضج قالت أن هذا قدرى، وهذه قدرتى، ويدى بعد ذلك على كتف من يأخذ بها من أبنائها وأخوتها الأصغر، بنا جميعا الى الساحة، فرض عين لا اعتذار عنه، الآن وليس بعد، وسترون كيف تفخر أمكم بكم بعد أن ضربت لكم القدوة، وسلمت الأمانة فيما هو مسئولية كل ابن منكم فرض عين لا فكاك منه.
رفض الرؤية الموضوعية
أما وقد أخذت القضية حجمها الحقيقى المتناسب مع كل منا فى موقعة، فقد ثار العرب وكأنهم يرفضون رؤية ما أمامهم من واقع جديد، وهذا نفس شأن الطفل فى مثل هذه المواقف، فالطفل يريد أن يرى والده الها قادرا على كل شئ، وبمجرد أن يكتشف فيه تواضعه البشرى، وضعفه الإنسانى يثور عليه، ونحط من قدره الى أسفل سافلين، والطفل لا يريد أن يرى الأشياء كما هى، ولكن كما يجب أن تكون.
ويبدو أن أخوتنا العرب الصغار يريدون أن نروا أن مصر هى صاحبة المشكلة أولا وأخيرا، وأنها فى نفس الوقت قادرة على كل شئ؟ (بما فى ذلك تكديس أكوام الذهب فى خزائن الأبناء الأعزاء)، وهذا شرف لنا بلا جدال، وفيه كثير من الحقيقة، الا أنه لا يقدر على القدرة الا الله، والتمادى فى هذا المنطق لعبة فى يد الخصم أولا وقبل كل شئ.. أما وضع الواقع فى حجمه فهذا هو الخطر بعينه عليهم وعلى توازنهم.
الواقع والحسابات الجديدة
والواقع الجديد (القديم المعلن) يلزمنا جميعا بإعادةحساباتنا بهدوء بعد كل هذا الصراخ الغاضب، وهذا الواقع يقول. أن القضية ليست قضية بين مصر واسرائيل (واليهود من قبل)، فليس هناك بينهما ثأر قديم (قبل احتلال فلسطين: الأخت الصغرى والجارة الحبيبة) وليس بينهما اختلاف جوهرى قبل اجرام عصابات الصهاينة، بل لعل العكس هو الصحيح، فهماأبناء عمومة، وحتى سيجموند فرويد قد حاول أن يصور سيدنا موسى تلميذا لاخناتون، لكم القضية أصبحت ثأرا ودما بين مصر واسرائيل (التى تحق وحقيق) بعد أن دنست أرضها تكل هذا العار طوال كل هذه السنين.
ومن هذا الواقع المر، كان لزاما أن نستعمل أبجدية جديدة لنسمى الأشياء بأسمائها.
(1) فإذا كانت القضية اليوم فضية أرض – وهى كذلك – فليحرر كل صاحب أرض أرضه سواء حصل على موافقة الجار أو تلقى قنبلة العدو، فإذا سار همس يقول ومن الذى يحرر الضفة مثلا، قلنا نحن أيضا لأنها أرض اخوتنا، وتأتى بعد أرضنا مباشرة (ولكنا لا ننسى أن نذكر العاهل الشجاع بالمثل المصرى القائل: تأخذها لحمة وترميها عظمة، مع ترحماتنا على بابا جدو، وفى نفس الوقت نتحمل مسئوليتها عظما ينهشه الكلاب، ونكسوه لحما بإذن الله)، نقوم بكل هذا بحجم قدرتنا ومسئوليتنا العربية والإنسانية والحضارية معا.
(2) واذا كانت القضية قضية دين فى مقابل دين، فبها ونعمت، بيت الله الحرام ضد حائط المبكى والقدس ضد القدس، فلتكن كذلك وليكن الإسلام بكل قوته وتطوره والتزامه تحو كافة البشر.. ضد النهودية بما أصابها على أيديهم من عنصرية وعناد وضيق أفق وجفاف وليكن صراعا صليبيا بحق يمتد حتى ينتصر من هو أولى بالإنسان والحضارة، ولنأخذ نصيبنا منه بالقدر الموضوعى المناسب (35 مليون من 800 مليون مسلم)، ولتقدم ايران السلاح المعد فورا… فورا قبل التراجع من الامال الإسلامية تحت ضربات الواقع كما فعلت باكستان، ولتقدم السعودية النفط والمال فورا فورا، ولنقدم تحن الرجال والعقول كل ذلك ولقدر الذى يناسب حجمنا الموضوعى فى القضية.
(3) واذا كانت القضية قضية امبرياليةضد ككفاح س الشعوب الحرة فلنأخذ نصيبنا منها تحت رعاية وعون وبسلاح الشعوب الحرة فى كل مكان (بعد وضع تعريف موسوعى لهذا اللفظ: (الشعوب الحرة) وذلك دون شروط مسبقةلنوع ودرجة التحرر والتحرير
وبعد ياناسانا يا كرام
ليس عيبا أن يقول الكبير للصغير كفانى تعليما لك وتوجيها لك… والبركة فيك.. أنت أهل لتحمل عبء الحياة، وأنا معك يابنى وهاديك، ولكن عليك أن تقوم بواجبك أولا
ليس عارا أن يقول الكبير للصغير: اعتبرنى غير موجود مادمنا قد اختلفنا، اعتبرنى غير موجود فهذا من صالحك، اعتبرنى غير موجود الا بمقدار ما علمتك، وحتى اذا أدى بك طمعك أن تستولى على زملاكى التى كتبتها باسمك، فهى لك حلا عليك، فإذا تخطيت خطاى الى الأفضل فهيا ويدى على كتفك وستكون فخرى ن، حتى بالرغم منك. ولكن العيت كل العيب، والعار ذل العار الا يأخذ الصغير فرصته فى الإستقلال ويرفض أن يتحمل مسئولية القرار (والعلم يقول أن القرار لا يكون قرارا الا على أرض الواقع وليس فى أرشيف الإجتماعات) ولكن العيب كل العيب والعار كل العار أن يمن الصغير على الكبير بعد فضل الأخير عليه.
ولكن كل العيب وذل العار أن يكون سلاحنا هو الإنتظار والمثل يقول يامتغطى بالأيام عريان ولكن كل العيب وذل العار أن يتمسك الأخوة الصغار بالتبعية، ولا يفعلوا الا أن يمتهنوا الأكبر بشبثا بالإعتمادية وإنكار الواقع.
يا أمة العرب روضة الحضارة
كونوا أبناءعاقلين متفوقين عنا حتى نتعلم منكم، ولكن لا تنسوامقاييس التفوق الحضارية، وهى ليست على كل الحال فى علو الصوت أوالتطاول فى البنيان أوأموال قارون.
هيا ياأبناء العم ويدنا على كتفكم وليكن استقلالكم عنا عبئا صعبا عليكم وعلينا معا، ولكنه هو شرف الوجود ذاته، وليكن بدايةتعاون من نوع أكرم، لا إعلان قطيعة
أما إذا استمر هذا الصياح الغاضب بديلا عن أصوات القنابل ورعد المدافع، واذا استمر هذا الغثاء الهش بديلا عن كلمة الخلود والعمل الإنسانى الممتد، فدعونا وشأننا، فنحن نعرف الطريق اليها -الحضارة- ولعلنا تعطيكم عن بعد أكثر ما أعطيناكم عن قرب، وكله لكم ولنا فى البداية والنهاية، وصدق الله العظيم: قل لاأسألكم عليه أجرا الا المودة فى القربى.