الوفد: 28/2/2002
معنى الحياة وهى تحتضن الموت
[الحاجة إلى وعى عربى جديد، يستوعب الجارى ويتعهّده!]
الانتفاضة إبداع غير مسبوق، لا أحد كان يتصور أن هذا الطفل الذى يلقى حجرا يحمل كل هذه الرسالة الإنسانية الأعمق والأرقى، لا أحد كان يمكن أن يصدّق أن هذه الفتاة الجميلة تفعلها هكذا وهى تودعنا بكل هذه الشجاعة، لتعلمنا معنى الحياة وهى تحتضن الموت، مع أنها تدرك كل ما يحيط بها من إحباط ، وما يتصف به ناسها الأبعد من تخلٍّ وتقاعس وصمت.
إذا صحّ أن أجدادنا هم الذين ولّدوا هذه اللغة العربية القادرة الخلاّقة، (وهو صحيح، وأن هذا الطفل وهذه الفتاة هما من أصلابنا فعلا (وهو صحيح أيضا)، فنحن على أبواب عالم عربى جديد، تتخلق فيه قومية جديدة، ليس لها علاقة بقوميةِ خـُطـَبِ التحريض، وشعر الكلام، ومؤتمرات القمة.
حقيقة الصدام
أحداث سبتمبر لها فضل علينا. إنها بقدر ما دفعنا فيها من ضريبة سوء استعمالها، فتحت كل الملفات، وطرحت كل الاحتمالات. جعلتنا نعيد النظر فى موقفنا الحضارى، زعموا أن صداما يجرى بين حضارتهم وحضارة الإسلام، مع أنه لا توجد للإسلام حضارة قائمة حالا، ليس معنى ذلك أن الإسلام لا يمثل حضارة حقيقية بديلة، لكن الموجود على الساحة كلها الآن لا يمثل هذه الحضارة أصلا. إن الحضارة لا تقاس بعدد من ينتمون إلى دين معيّن، الحضارة الإسلامية غير دين الإسلام، صحيح أنها نبعت فى رحابه ونمت من خلال قيمه، لكنها حضارة ينتمى إليها كل من أسهم فى مسارها من كل دين فى كل مكان فى العالم. على نفس القياس : لا توجد حاليا حضارة عربية لمجرد أن مجموعة من البشر يتكلمون اللغة العربية ويتجاورون جغرافيا. بل دعونا نعترف بهدوء ومسئولية أنه لا توجد- أيضا – قومية عربية.
الحضارة الإسلامية إما تاريخ نتحدث عنه، وإما وعد نأمل فيه، أما الموجود الآن فهو مئات من الثقافات الفرعية التي تدين بدين الإسلام. أو تتكلم اللغة العربية فلا مبرر إذن ولا معنى لنشر هذه الشائعات عن تصادم الحضارات حيث أن ما يزعمون التصادم معه هو غير موجود أصلا.
القومية العربية هى أيضاَ: إمّا آثار متبقية فى لغة رائعة قادرة دالة على تاريخ إبداعى لا مثيل له، (لغة بمعنى الوجود الذى أفرزها، وليست بمعنى الألفاظ التى نتبادلها الآن)، وإما هى حلم متجمّد، ظهر فى غفلة من الزمن، ولم يتعهده أصحابه ليصبح طرحاً ذا ثمار.
إذن ماذا ؟
هذا ليس نفيا لما هو عرب أو مسلمين، وإنما هو محاولة تحديد الجانب السلبى من حالنا الآن. إنه تنبيه إلى واقعنا الماثل، فإما أن نتحمّل مسئوليته، وإما أن نستسلم ولا نلوم غيرنا على ما نؤول إليه.
إن ما آلت إليه حضارة الغرب وهى تقف فى مأزق امتحان الاستمرار أو التراجع، يعلن بوضوح حاجتها إلى ما يكمّلها، إلى من يصححها، إلى من يأخذ بيدها، ليس بالتصادم والصراع الذى يفنى فيه أحد الطرفين، ولكن بالتوليف والجدل الذى يحتاجه الجانبان ، أو كل الجوانب.
إيجابيات محتملة
إن هذه الانتفاضة تلو الانتفاضة إنما تعلن أن الناس الذين يتكلمون العربية (دون الحكومات، والمؤسسات) قد بدأوا يتحسسون طريقهم إلى الوجود المتميز، وأن شبابهم بالذات مستعد أن يدفع الثمن، وهو فعلا يدفع الثمن كل صباح، كل شهيد، كل قطرة دم، كل ذرة جسد. لا نريد أن يذهب كل هذا هباء. الرسالة التى تصلنا مع كل شهادة تلزمنا بالتمعن فى معناها، وحمل أمانتها. حتى نفعل ذلك، لا بد أن نعترف أولا بما وصلت إليه حالنا قبل هذه الصحوة التى فرضها علينا عدو شرس غبى مجرم.
كيف كنّا ، وكيف يمكن أن نكون؟
إذا أردنا أن نبدأ فعلا، وأن نكون كما نتصور ويعد تاريخنا، علينا أن نحدد من نحن.
نبدأ بثقافة محدودة حتى لا تسيح المسألة وسط شعارات لا تـُرَدِّدُ إلا تاريخا لن يعود، تعالوا نبدأ بالعرب: من هم العرب؟ ؟ كيف هم؟ أين هم ؟ كيف نحن ؟ إلى أين ؟ إلى من يمكن أن ينتمى بالضبط من يولد بين ظهرانينا الآن؟
نحن – الكهول فى مصر- نشأنا ونحن نهتف “نحن لمصر، نحن للملك، عاشت مصر، وعاش الملك”. ثم راح الملك فهتفنا بحياة من خلعه وفـَرِحـْنا به، ثم تراجعنا نراجع مواقفه ومواقفنا. فى حين اندفع الجيل الأصغر نحو أمل جديد رائع وواعد وعالى الصوت اسمه القومية العربية، ثم تكّشف الأمل عن ذاتية متضخمة، وإبداعية محدودة، وفلسفة منقولة بإيجاز مشوه، وتشنج متردد. وحين انفرط العقد: راح كل قطر يراجع نفسه ليتراجع، لكن من لم تكن يده في النار من العرب الأبعد، ظل يتمسك بهذا الحلم الغامض: القومية العربية، حلم لم يكن له آنذاك ما يبشر بإمكان أن يحقق حضارة حقيقية متميزة على أرض الواقع.
تمادى مسار هؤلاء وأولئك، وانفصم الناس إلى متحوصلين مترددين على ناحية، وحالمين متجمدين على الناحية الأخرى. أدى ذلك إلى أن ينقلب الوطن الصغير، والوطن الكبير إلى مجموعات متباعدة يستدفئ أفراد كل مجموعة ببعضهم البعض، دون حركة ضامّة فى اتجاه موحد. نشأت ثقافات فرعية كثيرة، وحتى هذه الثقافات الفرعية تفتتت إلى ثلل صغيرة، يساند أفرادها بعضهم البعض بلغة خاصة، لأهداف محدودة. ومع كل ذلك ظل ما يجمعنا هو ذلك الحلم الغامض عالى الصوت مهزوز المعالم، ولكنه ظل محتفظا باسم الشهرة الشائع: “القومية العربية”.
الصحوة فى مواجهة الإبادة
فجأة ، وفى مواجهة تحدى الإبادة ، وإهانات الامتهان، ومؤمرات النفى، نكتشف أن الميّت ما زال يتنفّس، بل إنه أنجب أطفالا وشبابا يتكلمون بلغة عربية أيضاً، لكنها لغة أخرى، وهم يضربون أمثلة أخرى. ويخلّقون كيانا آخر، يؤلفونه حياة جديدة من دماء ذكية وأرواح طاهرة.
تقوم الانتفاضة الأولى فالثانية وتستمر أبدا، انتفاضة القدس، فانتفاضة الوعى، فانتفاضة الإبداع، فانتفاضة الحضارة. هذا هو المسار الذى يلوح من بعيدا وهو هو الواجب تحقيقه . انتفاضة الدم والشهادة الجارية الآن هى صاحبة الفضل في هذه الإفاقة رغم ما كنا قد وصلنا إليه.
لم يتحمّل قادتنا أو مؤسساتنا الرسمية مسئولياتهم، ولا هم سمحوا للناس أن يستوعبوا حقيقة ما يجرى. لكنّهم أيضا فشلوا أن يـُجـْهـِضوا الحمل الواعد بنهضة جديدة ، وقومية جديدة، وربما حضارة جديدة.
يتركز جهد المؤسسات الرسمية على الإلحاح فى طلب إتمام ترتيبات الأمن، أمن القتلة لا أمن الضحايا، ثم راحوا يتراجعون إلى التوصية بتنفيذ توصيات ميتشيل، ثم تعليمات بنيت، ثم وصل التراجع إلى أن يكون غاية المراد هو أن يسـُمح لعرفات بحضور مؤتمر القمة، وكأن مؤتمر القمة سوف يفعل شيئا يحتاج حضور عرفات بالذات، وكأن قرارات هذا المؤتمر سوف تختلف إذا حضر عرفات عنها إذا لم يحضر، وكأننا لا نعرف مسبقا ماذا يمكن أن يتمخض عنه هذا المؤتمر، مثل كل مؤتمر.
هل هناك أسرار يحتفظ بها عرفات شخصيا لن يقولها إلا للمجتمعين فى بيروت؟ وهل نتصوّر أنه متى عرف المجتمعون هذه الأسرار، فإنهم سوف يعدلون عن استراتيجية السلام الأبدية ليجعلوها -مثلا – تكتيك سلام الشجعان المؤقت؟!! هل سيخبرهم عرفات شخصيا بأسرار جديدة مثل حقيقة عدد الشهداء، ومدى جوع الأطفال، ومآسى تشريد النساء والكهول من بيوتهم بعد هدمها؟ ثم هل هذا سوف يغيّر موقفهم ليتجاوز الإعلان عن معونات لا تـُدفـْع، وتوسلات لا تـُجـْدِى ، وتوصيات لا تـُسـْمع؟ هل هناك رقم محدد إذا وصله الشهداء فإنه سوف يجعل المجتمعين يقررون أن يسحبوا نقودهم من بنوك أعدائهم؟ هل هذا الرقم – مثلا هو 2000 شهيداً ؟ إن كان الأمر كذلك، فيمكن أن يكون حضور عرفات مهما لإبلاغهم الرقم الحقيقى الذى قد يتجاوز ما أعلنته صحيفة العرب اللندنية وهو 1193 شهيدا. أو ربما يفاوض عرفات ليتنازلوا عن رقم 2000 ويكتفوا بعدد 1500 فلا يبقى على المطلوب إلا 407 شهيدا ، ثم يتخذون القرار الذى وعدوا به. ثم هل سيضع مؤتمر القمة معنى عدد الإسرائيليين الذين راحوا مقابل الـ 1193 من شهدائنا وهو 258 إسرائيليا؟ هل يتذكر زعماؤنا الأفاضل كم إسرائيليا مات فى حرب 1967؟ ألا يشفع عدد الإسرائليين هذا لأبنائنا فى فلسطين أن يخفض المجتمعون عدد من يشترطون شهادتهم ثمنا لسحب نقودهم؟ هل سيساعد وجود عرفات فى ذلك؟ إذا كان الأمر كذلك، فإننا نصر على حضور عرفات حتى يرجع إلى قومه يبلغهم بعدد القرابين التى ينبغى تقديمها حتى يتمكن المجتمعون فى القمة القادمة أن يبتوا فى الأمر بما يليق.
وبعد
ندع الآن الرؤساء الأفاضل – كان الله فى عونهم، فجدول الأعمال مشغول بالأهم، ماذا يمكن أن يفعل الرؤساء خلال يومين أو ثلاثة ، أو خمسة (إذا أضيفت أيام التحضير بواسطة وزراء الخارجية) ندعهم ونقدرهم لأن عندنا-نحن الناس- وقتاً أطول بين المؤتمر والمؤتمر ( وهو أكثر من ثلاثمائة يوما وخمسون) فهى مسئوليتنا دون القمم. ندع الحكومات الآن جانبا فعمرها أقصر من إصرارنا. إن الواجب علينا نحن الشعوب أن نتعرّف على أنفسنا من خلال أبنائنا الذين ذهبوا تاركينرسالتهم لنا. إن دماءهم وأرواحهم تقول لنا إن ثـَمـِّة حضارة أو قومية يمكن أن تولد،إن ثـَمِّ حمل يتكون، إن ثمَّ فجر يتقدم.
فهل هذا صحيح ؟
من شرم الشيخ إلى تونس
خلال أكثر من أسبوعين بقليل أتيحت لى الفرصة أن أنتقل من شرم الشيخ إلى صفاقص فى تونس الخضراء ، فكانت نقلة مهمة ما بين ضيوف أجانب يحسنون الإنصات ، وأشقاء عرب يصنعون من الأمل واقعا واعدا. فى شرم الشيخ عقد مؤتمر الاجتماع الإقليمى للجمعية العالمية للطب النفسى، بالإشتراك مع الجمعية المصرية للطب النفسى، (17-19 يناير 2002) وكان علىّ أن ألقى إحدى المحاضرات الافتتاحية، فاخترت لها عنوان: “العولمة والطب النفسى والأحداث الجارية”. كان الهدف أن أبيّن، للضيوف خاصة، هذا الارتباط الوثيق بين تخصصنا، وبين الحياة العامة ابتداء من أرضنا وامتداداً إلى سائر العالم. أوضحتُ من خلال هذه المحاضرة كيف أنهم قد يكونوا أحوج إلى ما يمكن أن نكونه (وليس إلى ما هو نحن) إذا استطعنا أن نقلب ثقافاتنا الفرعية المتناثرة إلى حضارة حقيقية. بينتُ كيف تختلف الثقافة عن الحضارة ، ففى حين أن “الثقافة هى هذا النسيج المتضمِّن لجُمّاع مستويات الوجود الفردى فالجمعى معا “حالا”، وأنها فى نفس الوقت “المنظومة التى يتمحور حولها تاريخ الجماعة مسجَّلا فى نوايا خلايا أفرادها، ثم متجليا فىِ مظاهر سلوكهم”. فإن الحضارة عادة ما تتصف بـدرجة فائقة من النمو التقنى والثقافى، وأيضا تتميز بممارسة طرق تفكير ومعاملة لها شكل راق مهذّب.
قلت لهم إننا لا نمثل في الوقت الراهن حضارة بديلة أصلاً، ذلك أنه لا تعتبر الثقافة حضارة إلى إذا اتصفت بـ:(ا) موقف خاص “مختلف” لماهية الوجود فى الحياة (ب) ثم يتجلّى هذا الموقف فى السلوك اليومى لأغلب أفراد هذه الثقافة .(جـ) مع الميل لتصدير(نشر – تسويق) هذا الموقف إلى الآخرين فى كل العالم (د) يتم ذلك بامتلاك مناهج وأدوات يمكن أن تحقق هذا التسويق (هـ) وأن يثبت الزمن، بما يملك من اختبار الفاعلية، والنفع، أن هذا الموقف المختلف هو إضافة صالحة (تطورية) لمسيرة الإنسان جميعا فى كل مكان.
وبما أننا لم نحقق أيا من ذلك، فنحن لا نمثل حضارة قائمة، ولا حضارة بديلة، ومن ثم لا صراع ولا تصادم إلى أن ننجح فى استيفاء شروط الحضارة، وهو أمر بعيد المنال رغم أنه محتمل، فإذا فعلناها ، فقد يكون ذلك لصالحهم وصالحنا معا، فلا يكون إلا الولاف والتكامل، وليس مجرد الحوار والقبول، ناهيك عن التصادم والصراع.
العجيب أن الضيوف الأجانب، وأنا أتعمّد ألا أذكر أسماءهم أو مناصبهم حتى لا أتمحك فيهم، قد تلقوا هذا الكلام بإنصات واع، وقبول حسن ، تعدّى مجرد المجاملة التى اعتدت أن أحذر منها.
خرجت من هذا المؤتمر وأنا أتساءل: هل نستطيع حقا ؟ هل نحن جادون فى ذلك فعلا بعيدا عن مؤتمرات القمة واستراتيجيات السلام، وزعم آخر الحروب ؟ هل نحن أهل لذلك ؟ كيف ؟ وأين؟ ومتى؟
أرض الواقع فى بلد شقيق
ظلّت هذه الأسئلة تدور فى ذهنى دون إجابة طول الوقت، حتى وجدت نفسى فى صفاقص (6-10 فبراير 2002). كانت دعوة محدودة للتعريف بما أسميته “الطب النفسى التطورى”، وخاصة فيما يتعلّق بتطبيق أفكاره فى العلاج الجمعى والمجتمع العلاجى فى العالم العربى، ومع أنها أمور تبدو متخصصة إلا أنها كانت بالنسبة لى تمثل نموذجا مصغرا لما يمكن أن يتميز به مجتمع عربى يسعى أن يسهم فى تطور البشر من موقعه المتخصص المحدود.
وجدتُ آذانا صاغية، وحنينا طاغيا، وقلوبا خافقة، ولغة تحاول أن تعود إلى سابق قدراتها، وإرهاصات إبداع تجتهد أن تتجمع لتضيف، كل ذلك رغم واقعٍ صعب، يكاد لا يعد بأى من ذلك.
هل هناك رابطة بين الإنتفاضة كإبداع غير مسبوق، وبين إصرار كل الناس العرب (بغض النظر عن مواقف حكوماتهم) أن يكونوا، وأن يقولوا، وأن يضيفوا، وأن يحاولوا ؟
هل هناك أمل فى أن تحقق الشعوب بلغتها المتميزة، وإبداعاتها الواعدة، ما تساهم به فى مسيرة البشرية فى الفروع المختلفة من المعرفة والوعى؟
هل عندنا حقيقة ما يختلف عمّا عندهم، ليس أحسن ولا أسوأ، ولكنه مختلف، وبالتالى فهو إضافة نكتشفها معا، ونبحث لها عن مكان مناسب للكل الذى يتخلّق ؟
هل ثمة علاقة بين إبداع الانتفاضة وما نحاوله فى الطب النفسى(مثلا)، وبين التعريب، ومناهج البحث الجديدة، وتعميق الفروق الثقافية للتكامل لا للتمييز؟ هل هذه المحاولات رغم قلة من ينتمى إليها، هى إكمال لرسالة الشهداء، ووفاء بتحقيق رسالتهم؟
حمل جديد بقومية جديدة
رجعت من تونس الخضراء وأنا أشعر أن القومية العربية تولد من محاولات الناس لا من مؤتمرات القمة، من دماء الشهداء لا من خطب التحريض، من التفهّم الإنسانى الأشمل لا من قصائد الفخر والوقوف على الأطلال، من البحث عن مناهج جديدة لا من التقليد الخفى للغرب رغم تشنجات زعم الاختلاف عنهم، رجعت وأنا ملىئ بمشروع انتفاضات أخرى فى كل مجال، وكل مكان.
عموميات المحاولات
هذا أمر ليس خاصا بالعرب ولا بالمسلمين، مثل هذه المحاولات تجرى فى أمريكا اللاتينية، وفى الصين، وفى البلقان، وفى إندونيسيا، وفى أوربا، وداخل أمريكا نفسها.
القومية العربية الجديدة تتحرك بإصرار مثابر، ينمو جنينها فى ثقافة الصبر والاستمرار والعناد. القومية العربية الإنسانية المبدعة تنمو وسط الدماء، ترتوى بفيض تحلل الأشلاء الطاهرة النقية. تترعرع بإحياء اللغة من جديد كائنا متخلقا، لا زينة فى متاحف المعاجم المنغلقة، إنها تتخلّق من الإصرار على البحث عن مناهج أرحب، تستوعب غايات أبعد (أبعد من الرفاهية والاستهلاك).
أزمة النمو أزمة الحضارة
لا تقوم حضارة لمجرد أن الناس أصبحوا يتمتعون بوقت فائض يمكن أن يصرفوه فى الإبداع والفن والثقافة الرفيعة (كما يزعم ويل ديورانت) ، وإنما تتولد الحضارة انطلاقا من الوعى بتحديات البقاء أثناء النقلات نحو الأرقى، تلك التحديات التى توقظ الوعى من خلال التهديد بالفناء، فتتخلق أساليب جديدة، ومواقف جديدة، ومناهج جديدة. فتكون الحضارة الجديدة.
المفروض أن يحدث ذلك فى كل ثقافة نوعية على حدة، وما تقدمه ثورة الاتصالات والمعلومات الآن هو احتمال أن تثرى إنجازات الثقافات الفرعية بعضها بعضا، لتتخلق حضارة كونية حقيقية، بديلا عن هذه العولمة الـُمأَمـْرَكة الغبية.
مثلما يمر الإنسان الفرد بأزمات نمو متلاحقة يولد فيها من جديد، تمرالبشرية كذلك بأزمات تطورية (حضارية) تحتاج نقلة نوعية من الجميع. أحسب أننا – البشر فى كل مكان – يواجهون مثل هذه الأزمة الآن.
الأزمة التطورية (الحضارية) العامة أو الخاصة لها معالمها مثل أزمات النمو الفردى، كما أن لها مضاعفاتها، ومخاطرها. لا توجد أزمة بلا ضحايا ومجرمين، بلا شهداء وقتلة، كما لا توجد أزمة بلا احتمال نكسة.
لزوم ما يلزم
أتصوّر أن لزوم ما يلزم للخروج من هذه الأزمة هو أن نبدأ من الواقع . واقعنا الآن (هنا وهناك) ملئ بالدم والأشلاء، لا بد أن نحترم ونتحمّل ضرورة الحرب وحتم استمرارها، لابد من دفع ثمن التضحيات فيها، ما دامت قد فرضت علينا فرضا سواء فى أفغانستان، أو في فلسطين، أو فيما يستجد من أعمال تحت أى عنوان.
فضل الحرب على البشر. حتى لو كانت المعارك محلية، ليس قليلا. الحرب تهديد بالفناء، وبالتالى فهى وعدٌ بالبعث أو الولادة من جديد. حتى الحروب الأهلية لها أفضال رغم الضحايا والآلام. حرب لبنان الأهلية التى استمرت خمسة عشر عاما هى التى تصنع الآن لبنان جديدا ديمقراطيا مبدعا، الموت يذكرنا بالحياة، والذاهبون يلقون إلينا الشعلة قبل أن تنطفئ أجسادهم دون رسالتهم.
الحروب، بكل ما تحمل من شرور، هى بداية تكتمل بالاقتصاد المنتج، والتربية الموضوعية، فالإبداع الحىّ، حتى المهزومين – لا المنتكسين – مثل ألمانيا واليابان يستفيدون من نتائج الحرب إذا أحسنوا استيعابها.
هذه ليست دعوة للحرب من على مقعد وثير، لكنها قبول بالواقع الذى فـُرِضَ علينا بغباء وإجرام ونذالة. هى فرصة اضُطِرْرنا إليها، وليس أمامنا إلا أن نأخذها مهما كانت التضحيات.
مقتطفان
حتى لا يكون الكلام إنشائيا صرفا، أهدى أهل القمة مقتطَفيْن لو أحسنوا استيعابهما ربما اتخذوا قرارات أخرى تعيننا على إكمال الحمل حتى مخاض الولادة، قرارات لا تحتاج إلى حضور عرفات بالضرورة. وليس فيها إعلان مباشر للحرب، ولكنّها قد تخفف الألم عن المحاربين وتطمئن أرواح الشهداء
المقتطف الأول من مقال الدكتورة كاميليا محمد شكرى “(الوفد الخميس14/2/2002) “صرح مسئول كبير فى البنك الدولى .. الدكتور عبد الشكور شعلان… بأن الدولتين اللتين ليس لديهما مشاكل اقتصادية بقوة الدول الاخرى هما الصين والهند. “
ذلك لأنهما يدبران أمرهما دون دول مانحة ، ودون دول دائنة، مع أنهما يمثلان معا حوالى ثلث سكان العالم، ثم إن إحداهما ديمقراطية جدا، والأخرى ما زالت شيوعية معدّلة. خذ بالك.
المقتطف الثانى من مقال الصديق جمال الشاعر، الأهرام الثلاثاء 12/2/2002 ” هل تصدقون أن الأرصدة العربية فى بنوك الغرب بلغت أكثر من 1500 مليار دولار… منها 800 مليار فى أمريكا وحدها ..”
نحن لا نطالب أهل القمة بإعلان الحرب، نحن نطلب فقط استثمار هذه المبالغ فى أرض العرب. حتى نتوقف عن طلب المنح والاستدانة، نحن لا نطلب تخصيص بعض هذه الأموال لأهل فلسطين بالذات، ولا لشراء أسلحة.
هل تحتاج مثل هذه القرارات إلى حضور ياسر عرفات شخصيا؟
إفعلوها ، ونحن علينا الباقى: الشهادة ، والإبداع.
وسوف تتولد قومية أخرى، ومن ثم نساهم فى الحضارة الإنسانية القادمة التى سوف تحل حتما محل المدنية الأمريكية المنتحرة.