الأهرام: 13-1-2003
معرض الكتاب، ومسئولية حمل أمانة القراءة
الإنسان المعاصر حيوان قارئ. يظل كل من الكتاب والصحيفة والمجلة والقلم والورقة هم الأصدقاء الدائمون للإنسان المعاصر فى الحل والترحال. حتى تلك الوسائل التى غمرتنا مؤخرا هى أدوات مساعدة للقراءة وليست بديلا عنها. نحن نقرأ الإنترنت، ونـقرأ الآقراص المليزرة (السيديهات). نحن نقرأ المعلومات الجديدة بكل لغاتها مهما اختلفت، حتى تلك المصورة منها تتحول فى النهاية إلى ‘قراءة’ بشكل أو بآخر. كل الأدوات تنتهى بنا إلى قراءة ما.
هذا عن القراءة (والكتابة) التى نعرفها كما شاعت بما يقابل عكس الأمية . لكن ثمة قراءة أخرى أسبق وأعمق. كان أول ما أمر به ربنا نبينا عليه الصلاة والسلام هو أن ‘إقرأ’، وهو أمى على اختلاف ما فسروا به أميته. وصلنى هذا الأمر بالقراءة على أنه قراءة فى الوجود، وفى النفس، معا، بما يؤكد هذا التواصل الرائع بين الإنسان والطبيعة فالأكوان. بل لعلها توازى الوعى بمسئولية ما يلقى علينا من قول ثقيل علينا أن نتحمل أمانته. ‘إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا’.
تذكرت ذلك وغيره بمناسبة افتتاح معرض القاهرة للكتاب بعد عشرة أيام. هذه المناسبة الرائعة التى تلتقى فيها العقول العربية ببعضها البعض، فتتذكر ما نسيت، وتستعيد ما بعـد، وتتفق وتختلف. وتستكشف وتتحاور، ليس فيما بينها وبين بعضها فحسب، وإنما هى أيضا، وربما قبلا، تستنشق رحيق عقول الفكر البشرى من كل حدب وصوب، بكل حرف وصوت. هذا المهرجان ومثله تقليد عربى قديم، منذ سوق عكاظ وقبله، حتى الجنادرية، وجرش، مرورا بالشارقة وبغداد فالمغرب الكبير، ثم متمحورا حول القاهرة، فهل يا ترى يقوم بما يعد به؟
مهما أعليـنا من شأن القراءة حتى التقديس، أو زعمنا بأن الإنسان حيوان قارئ، فإن القراءة لا تعدو أن تكون وسيلة للحياة وليست غاية فى ذاتها. لا يوجد شيء اسمه القراءة للقراءة . حين تصبح القراءة غاية فى ذاتها تصبح عبئا على الوجود وليست وسيلة إلى تعميقه وتحسينه. إن القراءة التى لا تملأ الوعي، ولا تحفز الامتداد لا تعدو أن تكون إضافة معلومات إلى مخزون قد يكون سببا فى إرهاق صاحبه، لا تحريكه.
إذا أسهمت القراءة – مع وسائل أخرى كثيرة – فى تأكيد وتعميق ما يتميز به الوعى البشرى من القدرة على جدلية ‘الامتلاء المتجدد’ توجها إلى حركية ‘التطور المبدع’، فإنها تكون الأمانة التى تحملها الكلمات ويشرف بها البشر، أما إذا أصبحت القراءة مجرد زينة للعقل، وحلقة مغلقة للفخر والهجاء، وإضافة موسوعية شكلية لم يعد المخ البشرى فى حاجة إليها بعد أن قامت وتقوم بالواجب تلك الأقراص المليزرة (السيديهات) ، فإنها تصبح سلبا واغترابا.
ما لم يكن معرض الكتاب – ومثله – تذكرة لنا بما يجب أن نحمله من أمانة الكلمة قولا ثقيلا، وما لم يكن اقتناء الكتاب متضمنا حمل هم ما يحويه، وما لم تكن فرحتنا بلقاءاتنا فيه هى تجديد وعد بقبول التحدى الحضارى الملقى فى وجوهنا، ما لم يكن كل ذلك كذلك، فإننا نخدع أنفسنا بمثل هذه النشاطات، التى مهما لمع بريقها، قد تتسرب نتائجها من بين أصابع وعينا إذا ما تخثر بالجمود التخزينى الآسن حتى لو طفت على سطحه فقاعات الكلمات، أو انسابت على وجهه ألعاب المراكب الورقية، بالملايين.
إن الكلمة الفعل هى التى تحفز تغييرا إيجابيا فى حياتنا أفرادا فجماعات فشعوبا. أتصور أن مثل هذه اللقاءات الفكرية، ومثل هذه المعارض التى تسمح لنا أن نتابع ما يجرى بيننا وحولنا، لا تقوم بدورها إذا نحن اكتفينا فيها باقتناء عدد من الكتب ومزيد من الموسوعات وزخم من المعلومات. هى تكون فى أوج عطائها حين تـلهمنا أن نحمل مسئولية ما يبلغنا منها، حين تصبح قراءتنا لما يعرض على وعينا بمثابة إلزام بمحاولة التغيير على أرض الواقع، انبعاثا مما وصلنـا من جديد. هذا، وإلا أصبح الأمر مجرد نوع من ‘التدليك الفكري’، وهو تعبير ليس من ابتداعي، لكنه أعجبنى فأحذر به من يتباهى بمجرد ترديد الأفكار. واقتناء الكتب.
الكلمات مسئولية، والوجود يحتاجها لتصبح فعلا خلاقا، وليست ‘ديكورا’ لعقل يتبختر قراءة، أو زينة للسان يتمنطق خطابة، أو ألعابا نارية تبرق فى ندوات المعارض، ثم تنطفئ بانتهائها.