نشرت فى الوفد
2-12-2009
تعتعة الوفد
معايرة؟… أم “مثل أعلى”؟
تمتلئ أحاديثنا وكتبنا ومقالاتنا بالمقارنات المثيرة، والأرقام المتحدية التى تضع إنجازاتنا وجها لوجه مع إنجازات غيرنا من المتقدمين عنا، والمتأمل فى هذه المقارنات لا يستطيع أن ينكر أغلبها. وهو لابد أن يحترم حسن النية وراء إظهار هذه الأرقام وتلك الإحصاءات، ولكن هل حسن النية يكفى، وهل هذه الأرقام وتلك المقارنات تقوم بدورها فى الحفز والتحريك، أم أنها تنقلب، ولو دون وعى، إلى شيء أشبه بالمعايرة، ولا تترك فينا إلا شعورا بالخجل، وأحيانا بالدونية؟ ألا تحمل هذه الأرقام ضمنا معنى أننا لو حققنا ما حققوا فسوف نكون مثلهم؟ أفلا يعنى ذلك – دون أن ندرى - أننا نعتبرهم مثلا أعلى؟
تتردد هذه المقارنات على ثلاثة مستويات:
المستوى الأول: مقارنة بيننا وبين ما يسمى بالعالم المتقدم، وبالذات أمريكا، وأن عندهم كذا حاسوبا، وكذا زائر للإنترنت، وكذا صاروخ عابر، وكذا صاروخ قابع متحفز.إلخ
المستوى الثانى: مقارنة بيننا وبين من هم مثلنا أو قريبون منا، أو على الأقل، كانوا قريبا منا منذ وقت يسير، ثم سبقونا. مثال ذلك: المقارنة مع بلدان جنوب شرق آسيا، مثل الصين، ثم تايوان، مرورا بالهند، وكوريا. (النمور الأسيوية، وما حولها، ومن مثلها).
المستوى الثالث: مقارنة مع إنجازات إسرائيل: إسرائيل تنشر عشرة أضعاف المتوسط العالمى للنشر العلمى، جامعات إسرائيل لها أعلى معدلات تسجيل براءات الاختراع، إسرائيل هى ثانى الدول بعد اليابان فيما يخص نسبة عدد العلماء والفنيين إلى إجمالى عدد السكان..إلخ.
ماذا يعنى كل هذا بالضبط؟ ماذا نريد من ترديد هذه النغمة بشكل متكرر هكذا؟
الانطباع الأول هو أنه علينا أن نجد ونجتهد لنلحق بهم، تحقيقا لمبدأ: “إما لحاقا أو انسحاقا”. مع أن هذه المقارنات، التى تبين كل هذه الهوة، قد تثبط بعضنا باعتبار أنه لا داعى للمحاولة أصلا، لا فائدة. فإذا نجح منا من يقبل التحدى فقد يمتلئ غيظا، ثم يروح يعدو وراءهم للحاق بهم فلا يلحق بهم - بداهة - لأن سرعة الخطى تختلف.
هل حقيقة نحن نريد أن نلحق بهم فنكون مثلهم؟ لا أظن.
أعتقد أنه بداخل داخلنا شيء حقيقى لا يريد، ولا يقبل أن يكون – ببساطة – مثلهم تماما. ربما كان فى هذا الموقف بعض ما يفسر مقاومتنا للتقدم، وليس تقاعسنا عنه. أنا لا أوافق على ذلك، فقط أقول “ربما”.ما الحل؟ لابد أن ننتبه إلى ضرورة التفرقة بين الوسيلة والغاية، بين الكم والكيف.
هؤلاء الناس يفتقدون شيئا جوهريا، لم يستطيعوا أن يحققوه على الرغم من كل هذه الإنجازات الرائعة، والأدوات القادرة، والوسائل الحديثة، والعمل المتصل.
إن من حقنا، بل إنه من واجبنا أن نشحذ همتنا لنتقن استعمال كل الوسائل الحديثة بلا استثناء، بما فى ذلك إنجازات تكنولوجيا المعلومات، وغير المعلومات..كذلك إن لنا – وعلينا - أن نمتلك ناصية شبكات الاتصالات، وأن نتقن لغتها، وأن نحضر فى مواقعها. إن هذه الوسائل ليست ملكا لأحد، إنها نتيجة لتراكمات مسيرة العقل البشرى، غيرنا بدأها ونحن أكملنا فيها شوطا رائعا حين تسلمنا مقود تسيير الحضارة فى الفترات الزاهية من تاريخنا، ثم جاء متقدوموا هذه الأيام ليكملوا شوطنا.
ليس مثلى الأعلى أن أعيش كما يعش الأمريكى، ولا كما يعيش الإسرائيلى، ولا حتى كما يعيش الصينى، لابد أن نحذر، أن تستدرجنا الأدوات، مهما بلغت روعة أدائها، وموفور إنجازها، إلى ما تريده هى، أو ما يراد بنا من خلالها. إن الوسيلة هى وسيلة، لا بد أن تظل كذلك. علينا أن نتأكد من غاياتنا، وإلا وجدنا أنفسنا حيث لا نريد، أو حيث يراد بنا. هل نحن نريد أن نحقق’مجتمع الرفاهية’ كما تصدر لنا هذه القيمة وكأنها غاية المراد؟ أليس مجتمع الرفاهية هو مجتمع الاستهلاك، لمزيد من الاستهلاك، هو مجتمع السياحة للسياحة، هو مجتمع الكم و التراكم؟ هل هذا هو مثلنا الأعلى فعلا؟
هل نحن نريد أن تنتظم علاقاتنا من خلال عقود مكتوبة تديرها بيروقراطية قانونية صماء، تتصور أن الدولة أحنى على الأطفال من أهلهم، وأن المؤسسات أقدر على توفير حرية البشر من ذويهم، وأن نهاية حلم الفرد هو أن يجد القرش والوقت اللذان يسمحان له باختيار أن ينسحب؟ وأن حقوق الإنسان هى أن يتصور أنه حر فى مجتمع ليس حرا.
ألا يحتمل أننا فى محاولتنا أن نلحق بهم حذوك الحاسوب بالحاسوب، وحذوك البورصة بالبورصة، نعجز أن نأخذ الصفقة على بعضها، وبالتالى ألا يصلنا منهم إلا السلبيات دون الإيجابيات، ناسين أن هذه السلبيات قد تكون ثمن النجاح الذى حققوه وليست مستقلة عن ما أفرزها من نجاح وإنجاز، إن كنا مضطرين إلى التقليد الأعمى فلنأخذ الصفقة على بعضها بخيرها وشرها دون فرز، فهل نستطيع؟.
الحل – فى اعتقادى- يحتاج إلى وقفة مبدئية تحدد جوهر الاختلاف، فيما يتعلق بالغايات والمعنى، قبل أن نبالغ فى التذكرة المتكررة لنا بقصور وسائلنا وضعف أدائنا.
إن هذه الوقفة التى أدعو لها لا ينبغى أن تبرر كسلنا أو تقاعسنا. إن الكسل والادعاء، مثله مثل الفخر والهجاء، لن يحقق لنا لا أهدافنا، ولا أهدافا مثل أهدافهم، إنه تنازل عن حق الحياة ذاتها.
إذا كان البديل عن اللحاق بهم هو أن نقعد فى أماكننا فكلا، وألف كلا، فلنلهث وراءهم حتى لو ظللنا عبيدا مقلـدين.
أما إذا كان البديل هو أن نستولى على حقنا من أدوات، ووسائل، وأن نتقنها، وأن نضاعف من جهدنا، وأن نملأ وقتنا لنتوجه إلى ما يليق بنا وبالبشر. فليوفقنا الله لما خلقنا له: تعمير الأرض، وكرامة البشر.