نشرت فى الوفد
17-11-2010
مستر بكويك وتشارلز ديكنز، والنظام الديمقراطى الجديد
النتيجة معروفة والحماس شديد، والكلام كثير، والمقالات أكثر، وعمنا الأمريكى الذى عين نفسه وصيا على الديمقراطيات القاصر واثق من حقيقه ما يجرى، ومفوّت بخاطره، والحكام الأعلى مستريحون جدا، والدنيا بخير فلماذا كل هذا الذى يجرى بالله عليكم؟
جميع صنف مرشح يركز على مصالحه الشخصية، (ما عدا 13 فردا، أو 29 أو 38 خذ أى رقم حسب درجة سماحك، لن تفرق من 444 نائبا) ثم إنه قد يمتد اهتمامه إلى مصلحة أقاربه ثم مصلحة معارفه ثم مصلحة دائرته، أما مصلحة الوطن ككل وكيف سنصلح التعليم أو نعيد المدارس مدارس، والجامعات جامعات، والأمن أمنا، والحرية حقيقة، والاحترام واجب بين ناس مصر، فهذا الأمر لا يهم أغلب المرشحين، أما القلة من المرشحين الجادين المهتمين فهم يضيعون وسط المولد، ويهمدون بعد المولد من فرط الإحباط بعد الاستجوابات”، فلماذا كل هذا؟
قلمى يرفض أن يكتب فى هذا الموضوع ويعتبره تحصيل حاصل، ثم يجرجرنى إلى ذكريات طريفة، قلت أحسن: إنه العيد، وإذا به ذه الذكريات تتماشى مع كارثة التعليم، ثم لعبة الانتخابات، لا مانع.
كان ذلك سنة 1949: “مستر بكويك” هى الرواية الإنجليزية الفذة المقررة علينا فى التوجيهية (الثانوية العامة) تأليف تشارلز ديكنز، مدرسنا فى مدرسة مصر الجديدة الثانوية، “خواجة” إنجليزى الجنسية، والمدرسة حكومية متواضعة، والبلد محتلة، وهو لا يعرف العربية، لكنه كان يشرح لنا الرواية ببساطة إنجليزية جميلة، لغة واضحة، وكنا نفهم، كنت أفهمه تماما برغم أننى فلاح قادم من مدرسة زفتا الابتدائية، وظلت بعض لقطات الرواية ماثلة فى ذهنى حتى الآن (انظر بعد):
أنا لا أذكر اسم هذا الخواجة الإنجليزى برغم أننى أذكر اسم مدرس اللغة الفرنسية “مسيو لولو” (كان أيضا فرنسى الجنسية)، ذات صباح كنت قد تأخرت دقائق ودخلت الفصل لاهثا، وكانت أول حصة لغة إنجليزية، سألنى الوالد الخواجة بعد أن التقطت أنفاسى، واعتذرت له، سألنى وهو يربِّت على كتفى-وكنت أجلس فى أول صف-عن سبب تأخرى، قلت له: أننى كنت أساعد عجوزاً ضعيف البصر على عبور الشارع فسألنى: هل أنت من الكشافة؟ Are you a boy scout قلت له “لا”، قال لى من هو “الكشاف”؟ قلت له هو الذى يلتحق بفريق ِأو تنظيم الكشافة، وأنا تركت فريق الأشبال منذ تركت الابتدائى بزفتا، قال لى: “لا”، الكشاف هو الفتى الذى يعمل عملا خيٍّرا مفيدا لغيره كل صباح، أو كل يوم؟ ثم عاد المستر إلى الدرس عن رواية “مستر بكويك”، التى حضرنى منها الآن ما له علاقة بانتخابات مجلس الشعب الجارية (تصور!!؟)، تساءلت الآن قبل أن تتوالى الصور: كم من الأعضاء المرشحين تشغله قضية ما آل إليه التعليم بالمقارنة بما ذكرتُ حالا؟ كم مدرس يفعل مثل هذا الخواجة مع تلميذ؟، وهل يشغل هذا الأمر أى مرشح هنا والآن؟ وإلا فلماذا يترشح؟
كانت الفقرة التى علينا قراءتها مع الأستاذ من الرواية هذا الصباح هى جولة مستر بكويك الانتخابية فى مكان ما فى انجلترا، (واسم بكويك مشتق من لفظ pyknic الذى يطلق على الشخص “المستدير بدانة”، مثل صلاح جاهين رحمه الله) مستر بكويك هذا رجل خفيف الظل شديد التواضع وخاصة حين كان يحاول أن يتبسط مع الناخبين وهو أبسط منهم. مازلت أذكر منظره يتجسد أمامى وهو يقبل طفلا على كتف أمه، وقد اقتربت منه الأم تطلب منه وعداً ما، فيحمل مستر بكويك الطفل منها، ويقبله، ولا أذكر إن كان الطفل قد بال عليه أم تناثرت عطسته على وجهه، ويعود هذا المنظر ماثلا فى وعيى وأنا أتابع الجولات الانتخابية الآن على كل المستويات، ويصلنى الفرق أيضاً! أحاول أن ألاحق أعداد المتقدمين، وكمية المصاريف، والصور، والتراشق، والوعود، والدعايات، واللافتات، وأسعار البلطجية، والإشاعات، والتصريحات، والحاجات، والمحتاجات، وتختفى فرحتى بالذكرى ليحل محلها انقباض قابض، ويتصاعد الانقباض وأنا أتحسر على الوقت الضائع، والأمل المحبط مع سبق الإصرار والترصد، ولكن فجأة ينفرج صدرى وأحب ناسى جدا، وأحترمهم، وأعذرهم.
هذا الشعب العظيم لا ييأس ابدا، دع جانبا المرشحين وما آلت إليه الترضيات والتربيطات، لا أنكر أن من بين المرشحين عددا من المتألمين لهذا البلد، الآملين فى ناسه وهم مازالوا يتصورون أن هناك شئ اسمه ديمقراطية، وانتخابات، فهم يضحون وينزلون إلى الناس ويترشحون وهم يتصورون إمكان الاسهام فى تحول سلمى حقيقى إلى ما هو أصلح باستعمال هذه الوسيلة المسماة “ديمقراطية” برغم يقينهم أنها مضروبة مسبقا، كان الله فى عونهم.
أما ما حدث فيما يسمى الحزب الوطنى، فقد عرّى نفسه بسذاجة غريبة بتبنى ما أسمّيه هنا: “النظام الديمقراطى الجديد: صنع بمصر، ورشة بئر سلم الوطنى”، وذلك بتقديم آلية جديدة تسمح بتعدد مرشحيه فى الدائرة الواحدة، ما وصلنى من هذه الخطوة الخائبة هى أنها بمثابة إعلان عن فشل هذا التجمهر الانتهازى المصنوع أن يصبح حزبا متماسكا له شكل ومبادئ محددة تسمح لأى ممن ينتمى إليه أن يمثله، تعدد المرشحين هكذا من نفس الحزب فى الدائرة الواحدة هو إعلان صريح عن طبيعة هذا التجمع وهو أيضا نذير لمآله، فهو يتفكك من داخله، فيسارع الأفراد يدورون حول دائرة كراسى المجلس النيابية الموسيقية لكى يلحق الأشطر أن يقضم أكبر قطعة من “تورتة” خير البلد لصالحه شخصيا، ونادرا للمقربين من أهل دائرته، أما أن هذا الشاطر يمثل حزباً له برنامج، وبالتالى فكل واحد فيه يمثل هذا البرنامج فهذا ما لم، ولا يخطر على بال أحد منهم برغم أنف الديمقراطية، ناهيك عن أن هذا المرشح يمثل وطنه وطموحات وطنه (يعنى ماذا؟).
حاولت، والله العظيم ثلاثا، أن أفسر الجارى بأى منطق سليم أو غير سليم، تقمصت المرشحين من الحزب الوطنى ومن المستقلين ومن أحزاب المعارضة الأملة وأحزاب المعارضة الصورية وأحزاب المعارضة الورقية وأحزاب المعارضه الفعلية ولم أستطع أن أفهم أو حتى استشعر مشاعر أى منهم إلا نادرا، لماذا تنفق سيدة فاضلة (صوت الأمة 12/11) 250 ألف جنيه فى الإعداد للترشح من الحزب الوطنى ثم تُستبعد فتحتج أو تقاضى من استبعدها؟ نعم “ربع مليون جنيه”: “فتح كلام”!! وكيف تتصور هذه السيدة الفاضلة، (الثرية ربنا يبارك)، أنها سوف تسترد أموالها إذا ما نجحت، أم أن كل هذا الكرم هو للإسهام فى إصلاح حال البلد؟ شكرا!!
ما هذا الذى يجرى بالضبط؟
ولماذا لم يقبل الحزب الوطنى الانتخابات بالقائمة؟ أليس هذا أقرب للديمقراطية مقارنة بما يجرى الآن؟
ما الحكاية بالضبط؟
ما هذا الذى يجرى؟
أنها ديمقراطية معدلة آخر موديل، صنعت بمصر، مصانع الحزب الوطنى الخاص فى بئر سلم السياسة،
امتلأت المساحة المقررة، ولم يبق إلا مساحة تتسع للخطوط العريضة لهذا النظام الديمقراطى الجديد: مجرد عناوين، حتى أعود، أو لا أعود، ولماذا أعود، وكل شىء موجود موجود! موجود! يا ولدى:
معالم النظام الديمقراطى الجديد
1) كلمة تحمل عكس معناها: (كلمات متقاطعة!): “المحظورة”.
2) عدد المرشحين أهم من عدد الناخبين
3) كل واحد يرشح نفسه (قياسا على: كل واحد يدلع نفسه) حتى لو انتمى إلى حزب رسمى أو حكومى
4) برامج الأحزاب: على العين والرأس، أما برامج المعارضة فهى مع وقف التنفيد بالقوة الجبرية، لكن برنامج ما يسمى الحزب الوطنى، فمحظور تنفيذها لأنها صدرت غيابيا على الورق فقط، (فى غياب الشعب).
5) مهمة المعارضة هى أن تعارض جدا، ويمكنها بعد الانتخابات أن تعارض أكثر.
6) التغيير مطلوب جدا جدا، ومقبول على شرط ضمان الاستقرار بعدم التغيير نهائياً.
7) يحتمل أن يرشح الحزب الوطنى أكثر من مرشح لانتخابات الرئاسة، لو نفعت هذه البروفة.
وبعد
الحزب المدَبِّر، والدنيا شؤون،
لا تأملْ فى باكرْ، ماَ قدّر يكون!
وبعد (أخرى):
لعن الله الحلّ الأسهل!!
لعن الله اليأس الأنذل!
والسلام عليكم، وكل عام وأنتم بخير
والله العظيم نحن نسْتأهل أفضل مما نحن فيه.
وسيحدث
(حايحصل!!).