نشرت فى جريدة الوطن
24/1/2001
مسئولية الفتاوى العلمية
مسئولية الفتوى بصفة عامة هى من أخطر ما يمتحن به فقيه أو عالم يتعرض لسؤال مـن وثق فيه، ذلك أن رأى هذا الذى وجد نفسه فى موقف الفتوى لا ترتبط بنفسه فقط، وإنما تمتد إلى غيره، وقد يـعمم الرأى الذى يقول به على آخرين. فإذا لا قدر الله لم يكن موفقا فى اجتهاده، فقد يتحمل وزر فتواه وفتوى من عمل بها كافة. وقد اجتهد علماء المسلمين عبر التاريخ أن يتحروا الدقة كل الدقة وهم يجيبون عما يسألون فيه، ونعلم جميعا كيف تنتهى معظم الفتاوى بأنه “والله أعلم”، هذه ليست خاتمة تدعى التواضع، لكنها حقيقة راسخة تعلن قصور الاجتهاد البشرى، وأن الحقيقة المطلقة هى لله وحده.
هذا الحرج الكريم لم يعد قائما عند رجال العلم الحديث بنفس الدرجة، ولا حتى عند رجال أى تخصص، وقد إزدادت المعلومات الأحدث فالأحدث حتى لم يعد فى مقدور الإنسان العادى أن يتابعها، وبالتالى فهو مضطر أن يستفتى أهل الاختصاص.
هنا يبدأ توجيه حديثى إلى هؤلاء المختصين فى مجال العلم تحديدا.
إن ألف باء العلم هو أنه نشاط “مفتوح النهاية”، وأن كثيرا من معطياته هى مجرد فروض محتملة، وأنه حتى النظريات التى استطاعت أن تستمر عدة عقود أو عدة قرون، هى نظريات قابلة للتفنيد والنسخ بنظريات أحدث بشكل يكاد يكون هوالقاعدة. يحدث هذا فى كل من العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية على حد سواء، بل إن هذه القاعدة تمتد أيضا إلى العلوم الرياضية. إن أشهر أمثلة لهذا النسخ هى ما حدث للهندسة الإقليدية حين نسختها الهندسة بعد الإقليدية، ثم فى علم الطبيعة كيف نسخت نظريات أينشتاين نظريات نيوتن، ثم نرى علم النفس السلوكى ينسخ التحليل النفسى ثم يأتى علم النفس الإنسانى / الكيانى / التركيبى فينسخ هذا وذك، ليلاحقه “علم نفس الأعماق” الآن. هذه حركة لا تشير إلى خطأ الأولين بقدر ما تنبه إلى حركية العلم وطموح الإنسان.
هل يحترم علماؤنا - وهم يدلون بآرائهم لوسائل الإعلام المختلفة – هذه الحقائق الأولية التى تقترب من البديهيات؟ وإذا كنا نجد عذرا للجهل بهذه القواعد من جانب الإعلام وهو يطرح أسئلته على طبيب أو عالم أو أى مختص، فما عذر العالم وهو يرد بحسم جاهز؟ إن السائل يسأل عادة أسئلة “مغلقة”، أى أنها تحمل شبهة الدعوة للإجابة بـ “لا” أو “نعم”. ثم نفاجأ بالمسئول وهو يستدرج للإجابة بأنه “فى 0الواقع..” وفى الحقيقة..” إلخ أعرض فيما يلى لبعض الأمثلة المحدودة فى مجالات مختلفة لابد أنها سوف تحتاج إلى عودة تفصيلية كلما دعت مناسبة لذلك:
أولا: يجرى الحديث من عقود عن ثقب الأوزون وارتفاع درجة حرارة الأرض وكيف ستغمر مياه البحار اليابسة وتغرق الحرث والنسل، حتى أن لى بيتا على شاطئ الإسكندرية مباشرة، كنت كلما ذهبت إليه تصورت أننى سأجد الماء قد غمره.ثم تطالعنا الصحف مؤخرا بخبر آخر يقول: كل هذا مشكوك فيه. وكأنهم يقولون “وضحكنا عليكم”.
ثانيا: يجرى الحديث أكثر وأخطر حول ما يسمى خريطة جينات الكائن البشرى (الجينوم) وهذا فتح علمى رائع ويستحق كل تقدير، لكن فتاوى العلماء عبر وسائل الإعلام لا تتناول الأمر بالحذراللازم، فيصبح ما يعـد به الجينوم كأنه خاتم سليمان الذى سيحل عقدة جهلنا، ثم يشفى كل الأمراض من أول السرطان حتى الصداع. وهذا كله كلام خطير يحتاج إلى إحصاءات، وفهم، ومراجعة، وتجربة، وتتبع، وتعديل مسار، ولو عرف الناس أن هذا الاكتشاف العلمى الخطير يمول أساسا بواسطة شركات الدواء التى يهمها(للأسف) الكسب قبل أى شيء آخر إذن لغيروا موقفهم. لكن الذنب ليس ذنب الناس بقدر ما هو ذنب العالم الذى يقف أمام عدسة التليفزيون ويتصدى للفتوى بلهجة أبعد ما تكون عن العلم، لهجة تحمل أنه: “فى الواقع” و “فى الحقيقة” أكثر ألف مرة مما تحمل من: “ربما”، “الأرجح”، و”فى” حدود المعلومات المتاحة’، وهى الألفاظ العلمية الرصينة.
ثالثا: بالنسبة لطريقة تقديم الأرقام فى مثل هذه الأحاديث المذاعة أو المرئية أو المنشورة فى الصحف لا يتم توضيح معنى الأرقام أو الإحصائيات، ولا يتم تحديد تعريف ما يشير إليه الرقم. مثلا يسأل السائل عن تفسير ظاهرة الاغتصاب، والمفروض أن العالم قبل أن يفتى بالتفسير بالحديث عن غريزة العدوان وعلاقتها بغريزة الجنس مع إشارة لانهيار الأخلاق، المفروض أن يرجع السؤال إلى السائل ويستوضحه: من أين له أن هذه ظاهرة أصلا وليست حادثة فردية، لا بد للعالم أن يصحح للسائل معلوماته قبل أن يجيب بقوله: أن الظاهرة لا تكون ظاهرة إلا إذا تكررت، وتواترت بنسبة كذا، ولمدة كيت، وليس لمجرد نشر خبر أو اثنين غير موثوق فى مصداقيتهما.
إن الطبيب الذى يجيب سائلا عن تواتر مرض الاكتئاب بقوله “إن الاكتئاب منتشر بنسبة 25 % أو 30 % بين أفراد الشعب، ثم لا يوضح ماذا يقصد بالاكتئاب، هل هو يقصد مرض الاكتئاب، أم عرض الاكتئاب أم عارض الاكتئاب، إنما يبلغ رسالة تجعل المتلقى يتلفت حوله، فإذا كان واحدا من أربعة يجلسون معا، فكلام المفتى الطبيب يعنى أن أحدهم مكتئب غالبا. قل مثل ذلك عن تفسير المرض النفسى بأنه مثل مرض السكر يحتاج إلى تعويض بالأدوية طول العمر (مثلما يحتاج السكر إلى الإنسولين)، وهذا غير صحيح إلا فى أندر النادر، أكتفى بهذا القدر وربما احتاج الأمر إلى عودة لأمثلة أخرى.