نشرت فى جريدة الوطن
3/1/2001
مسئولية التلقى، والكذب الموثق
نبدأ فى النظر فى تاريخ علاقتنا بالكلمة المكتوبة.
كنا حتى عهد قريب نقدس الكلمة المكتوبة خاصة إذا صدرت فى كتاب على ورق له غلاف، وله ناشر ! ثم انتقل تقديسنا إلى الوثائق الرسمية، والمواقع الإنترنيتية.
تضاعفت مسئولية الإنسان المعاصر إذ تضاعفت مصادر معلوماته. وإذا كنت قد أشرت فى المقال السابق إلى طوفان الأوراق المطبوعة، ثم الكلمة المسموعة، ثم الأقمار الموضوعة، فإن المسألة لا تقتصر على هذا، ذلك أن فيض المعلومات قد امتد ليشمل مجالات أكاديمية، ومراجع تقليدية، هذا فضلا عن اجتهادات تسجيلية منظمة يقوم بها هواة أومحترفون، كما تمولها هيئات مشروعة وشبه مشروعة، وربما “غير مشروعة”.
سوف أكتفى بالإشارة إلى ما يطالعنا من مقالات أودراسات وما يشبه الأبحاث فى الصحف والمجلات السيارة، تحت عنوان “وثائق الحادثة الفلانية..، وأوراق الفترة العلانية’، ناهيك عن المذكرات الخاصة والسير الذاتية * إهدف من وراء ذلك أن أنبه القارئ، والمتلقى عامة، كيف يضبط جهاز استقبال عقله الناقد، لعله يستطيع أن يميز، لا أقول بين الغث والسمين، وإنما أقول بين الحقيقة والخيال، ثم بعد ذلك لعله يتدرب على كشف من يضع السم فى العسل.
تفرج وزارة الخارجية البريطانية عن وثائقها كل نصف قرن، فتصبح فى متناول الدارسين والقراء والهواة والمحترفين، وتفعل مثل ذلك سائرالدول المتقدمة و المنظمة والحديثة، قل هذا عن الولايات المتحدة أو عن استراليا ثم عن إسرائيل، وتبدأ الكتابات:
يذهب كل من يشاء إلى مخزن هذه الوثائق المسموح بها، ويحدد (أولا يحدد، أو يحددون له) هدفا معلنا، ثم قد لايفكر كثيرا فى هدف آخر خفى وراء ذلك. لكن دع هذا جانبا. يتصور هذا الشخص أنه عثر أخيرا على ضالته، وأنه يستطيع أن يثبت رأيه بالاستشهاد بهذه الوثيقة أو تلك، باعتبار أن ما حفظ بعيدا عن الأنظار لمدة نصف قرن، ثم أفرج عنه أخيرا فيه فصل الخطاب. وأن ما سينشره من تفاصيل المفاوضات التى دارت بين اللورد فلان، والسفير علان، سوف يكشف النقاب عن تأكيد رأيه السابق. هو لا يحاول -عادة – أن يستفتى الوثائق ليراجع نفسه، بل ليؤكد رأيه..
نقرأ نحن هذه الوثائق، وننبهر، و نقدسها كما كنا نقدس أى كلملة مكتوبة من قبل، ها هى ذى الوثائق التى تثبت رأى صاحبها تماما، وبالحرف الواحد.
****
نحن لا نسأل أنفسنا ونحن فى حالة الانبهار هذه أسئلة واجبة يمكن أن تهدينا إلى تحديد مصداقية ما نقرأ، وربما إلى غرض من يكتب.
قبل أن أطرح الأسئلة التى تخطر لى وأنا أقرأ مثل هذه المقالات، أود أن أعتذر للقارئ لأننى لا أريد أن أشككه فى كل ما يقرأ، ولا أريد أن أحرمه من الانبهار بالكتابة الموثـقة، والأخبار المصورة على المواقع المبرمجة، وإلا كنت أدعو إلى الجهل الكريه. إننى أؤكد ابتداء أن محنة الاطلاع هى مسئولية شرف المتلقى الآن أكثر من أى وقت مضي، إن مسئولية القارئ والمشاهد، ليست أقل من مسئولية الكاتب والمبرمج صاحب الموقع.
بعض الأسئلة التى تخطر على بالى وأنا أقرأ مثل هذه المقالات الموثـــقة، أو أزور تلك المواقع تأتينى هكذا:
- مـن الذى أثبت هذا الكلام حتى أصبح هكذا وثيقة كأنها الحقيقة؟
- ما هو الكلام الذى جرى فى نفس الاجتماع (مثلا) ولم يسجل (حذف من المضبطة كما يقولون، دون خجل)؟
- مـن الذى انتقى ؟ مـن الذى قرر أن هذا يستأهل؟ من الذى أقر. من الذى مول؟
- ما هو الضمان أن ما كتب، وانتقي، وحفظ، لم تعبث به أيد مغرضة أو غير مغرضة أثناء هذه العمليات التالية.
ماذا كتب الخصم عن نفس الحادث فى وثائقه؟ خاصة الخصم المهزوم، إن كانوا لم يعدموا وثائقه.معه (نحن لا نعرف كيف كان التاريخ سوف يكتب لو انتصر هتلر مثلا!!!).
أختم مقالى بالتحذير من أن نتصور أن الطرق الأحدث فى الرصد والإعلام سوف تزيد من مصداقية الوثائق.
ها نحن نعيش الانتفاضة الرائعة المؤلمة الصعبة، نعيشها وهى تشوه بانتظام يومى تحت سمعنا وبصرنا، حالا، وعلى كل مستويات الإعلام الغربي.
هذه الوثائق الجديدة تسجل الآن ليقرأها الناس فى الغرب على أنها تاريخ اعتداء أطفال الفلسطينين الهمج على الإسرائيليين المتحضرين العزل الذين يدافعون عن أنفسهم، والذين جاؤوا للارتقاء بنا من وهدة التخلف، وإذا بنا نقابل جميلهم هذا بأن نلقى بأطفالنا تحت وابل رصاصهم لنستدر عطف العالم، أليس هذا ما تطالعنا به فضائياتهم؟.
هذه الوثائق الجديدة سوف تسجل على الـ “سى” “دى” عقبال عندك، ليطلع عليها الطفل الغربى بعد عشرين عاما حين يصبح عالم تاريخ، أو كاتب مقال مثل هذا، ليثبت لمن يتبقى منا ومنهم كيف أننا قضمنا اليد التى جاءت تطعمنا شهد الحضارة.!!!
أستغفر الله العظيم. من كل ذنب عظيم.