نشرت فى جريدة الوطن
1/11/2000
مسئولية الأرقى والأبقى
أما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض.
دأب اليهود والصهاينة، والعالم الأقوى ووسائل الإعلام الأخبث على تحويل الأنظار، وتوجيه الاهتمام إلى مسائل هامشية أو تافهة أو تحصيل حاصل، حتى ننسى حقيقة ما يحيق بنا من مخاطر، فتضيع جهودنا فيما لا يجدى.
يصاحب هذه الإزاحة لعبة تزييف اللغة.
يضحكون علينا حت: ننسى جوهر المسائل لصالح الإجراءات الشكلية.
ننسى الأسماء البسيطة الموضوعية الدالة، لصالح الشائع الملتبس.
ننسى الجذور وحقيقة الاختلاف لصالح القشور وأوهام المساواة.
ونحن نتحمس أحيانا لهذه اللعبة الخطرة، حتى نعملها فى أنفسنا تلقائيا ربما تجنبا للألم أو إغماضا للعيون من خطر محدق.
نحن الذين أسمينا الهزيمة نكسة، ونسمى الدفاع عن الأرض والعرض، إزالة آثار العدوان (مع أن العدوان نفسه ما زال قائما)، ونسمى احتلال الوطن وتشويه الهوية “مشكلة الشرق الأوسط”.
ونسمى جهاد التفاوض لاستعادة الحق: تحريك مسيرة السلام، فى كل مرحلة نكتشف أن المطروح للنقاش يبتعد قليلا فكثيرا فكلية عن أصل موضوع النقاش.
يكثر الحديث خلال السنوات الماضية وحتى الآن عن أهداف لو تأملناها لكانت أدعى للضحك. فالخجل والندم.
هل يمكن أن يكون تحريك عملية السلام هدفا فى ذاته ؟ هل يمكن أن تكون زيارة السيد روس أو السيدة أولبرايت غاية المراد؟
انتفاضة القدس أمر جلل، لا أحد يرجوا استمرارها لمجرد استمرارها، ولا أحد يريد أن يشاهد كل يوم مزيدا من الأشلاء الممزقة، والدماء الجارية، والبيوت المهدمة والأسر المشردة، ومع ذلك فقد كتب علينا القتال وهو كره لنا.
فكيف نجعل مما نكره خيرا كثيرا؟
لقد أرجعتنا الانتفاضة إلى أبسط ما كان ينبغى أن يكون نقطة البدء طول الوقت، طول العمر.
القضية هى أن ثمة أرضا محتلة، وهوية مهددة، وإغارة منظمة، وظلما يتمادى.
عادت هذه المسائل تحتل بؤرة الوعى وكأنها جديدة، وهى طول عمرها هى هى لم تتغير، بل أنها زادت تفاقما، وعلى قدر ما يحاولون اختزال كل هذا إلى جزئيات انفعالية أو إجرائية، يكون التزامنا بموقف أشمل وموقف أبقى هو الرد المناسب.
قلت فى المقال السابق إنها ليست إسرائيل (أوحتى الصهاينة أو اليهود). فما هى؟
إسرائيل هى مجرد تجسيد قريب ومكثف لما يسمى النموذج الغربى/ الشمالى الذى يفرض نفسه على مرحلة البشرية المعاصرة، وهو نموذج براق منضبط، وإسرائيل تمثل أسوأ وأقسى ما فى هذا النموذج، فهى تستعمل أحدث وأقوى الأدوات ( التكنولوجيا والتسليح حتى الذرة) لتخدم أدنى القيم، التعصب والتفرقة العنصرية والتطهيرالعرقى.
حين ترجعنا الانتفاضة إلى أصول الأشياء لابد أن نستلهم منها الشجاعة ونحن نطرح أسئلة محددة حول هويتنا ومستقبلنا أورد بعضها على الوجه التالى:
(1) هل النموذج الغربى الذى تمثله إسرائيل هو النموذج الأمثل لمسيرة الإنسان عامة، ولمسيرتنا نحن بشكل خاص.
أم أن هناك نماذج أخرى مطروحة، أومطلوب إبداعها لمواجهة فشل، أو احتمال فشل ما يمثلونه ويتطاولون فيه، وقد يهلكون به. ويهلكونا معهم؟
(2) هل اختلافنا عنهم هو اختلاف مرحلة، ودرجة؟ بمعنى أننا أكثر تخلفا، وأبطأ حركة، وأجهز تبعية؟
أم أنه اختلاف نوعية وموقف أى أننا نمثل حضارة أخرى، بتاريخ آخر، بسمات أخرى، وتوجهات أخرى.
(3) هل المطلوب منا أن ننتصر عليهم بمعنى التفوق فيما تفوقوا فيه عسكريا، وتقنيا، وبحوثا علمية، وألعاب رياضية تنافسية ؟ وسعار كمى طول الوقت.
أم أننا نستطيع أن نحدد لنا مسارا مختلفا بقيم مختلفة على الرغم من استعمالنا نفس أدواتهم، والاستفادة من إنجازاتهم؟
(4) هل النصر، بمعنى إبادة الخصم وتغيير معتقدة، وفرض تبعيته، أصبح ممكنا مثلما كان فى وقت سابق من تاريخ البشرية
أم أن النصر الحقيقى هو الذى يعود على البشر، كل البشر بالخير الحقيقى.
إن المنتصر الذى يسحق الآخر سحقا، ويبيده إبادة، هو مهزوم فى النهاية لأنه طغى واستكبر. فإذا كان المهزوم قد أبيد وأفني، فالمنتصر قد ضل وتشوه.
هل يمكن أن نمارس نوعا من النصر على أنفسنا (الجهاد الأكبر)، ثم النصر على أعدائنا، ثم لهم باعتبارهم بشرا سوف يستفيدون من نصرنا الأرقى.
كلما ذكرت مثل هذه الآمال التى تصل أحيانا إلى درجة الأحلام، ضحك منى فريقان: التابعون المنبهرون الذين لا يرون طريقا إلا طريقهم، والكسالى المتقاعسون عن حمل أمانة ما حملنا إياه الحق تبارك تعالى.
إننا حين نتحفظ على الديمقراطية التى يمارسونها، أو نشك فى مزاعم حقوق الإنسان التى يقومون بتفصيلها على المقاس الذى يرونه، ثم يصدرون أحكامهم وهم الخصوم فى نفس الوقت، حين نفعل هذا أو ذاك، يقفز سؤال يقول: ما البديل؟
حتى لو لم يكن عندنا بديل جاهز، فإن من حقنا أن نرفض رفضا مسئولا ونحن نبحث عن الإجابة التى تمثل تحديا لا بد أن نقبل به.
فعلا لا يوجد بديل جاهز، ولكن ليس معنى ذلك أن نستسلم لنظام فاسد. أو ناقص أو خطير أو متحيز. علينا أن نقبل التحدى ونحاول أن نخلق ونبتدع ونجرب أنواعا أخرى عديدة ومتجددة للوصول إلى سبيل أرقى للمشاركة فى اتخاذ القرار، يمكن ألا يكون نسخة طبق الأصل من ديمقراطيتهم التى تنبنى على أساسين خاطئين: الأول: الانتخاب المبرمج بالأهواء والأموال، والثانى: الإنابة فيما لم أفوض نائبى فيه.
إن معركتنا ينبغى أن نصوغها باعتبارها معركة البشرية كافة. فالأقوى هو الذى يحمل هموم البشرية، ويكون تفوقه لصالح بنى نوعه عامة، وليس على حساب الأضعف ممن يختلف معه.
بقدر ما يختزلوننا إلى تفاصيل التفاصيل يمكن أن نتفوق عليهم بتعميق نوع وجودنا بالإبداع والتقدم النوعى المختلف الذى هم فى أشد الحاجة إليه.
إن ثورة التواصل والمعلومات تفتح الأبواب على مصراعيها ليس للتلقى السلبى لما يعرضونه علينا، وإنما للإضافة المتاحة لهم، إن كان عندنا ما نضيفه.
إن أى مفكر، أو مجموعة مفكرين، يمكن أن يجهزوا لأنفسهم موقعا فى هذا العالم المترامى المسمى بالإنترنت، يسع مئات الآلاف من الصفحة بتكلفة طبع كتاب واحد. يضع المفكر منا فى هذه المواقع، أفكاره، واقتراحاته، وإنجازاته، وإبداعاته، دون وصاية دور النشر العملاقة، ولا تدخل أصحاب الهوى من المتغطرسين المحتكرين.
إن الشخص العادى أصبح مدعوا للمساهمة فى الابتكار والمحاولة. حتى أصبح حلم البشر قريبا من التحقيق وهو العثور على وسائل تعميق الحرية الموضوعية لا الديمقراطية السوقية.
لنفترض أن إسرائيل لم توجد أصلا، أو أننا انتصرنا عليها انتصارا ساحقا، سيظل التحدى مفروضا علينا لنحدد توجهنا، وننمى حضارتنا، ونطلق قدراتنا لنا، وللعالمين.
السلام ليس غاية بل هو وسيلة:
الحرب والسلام كلاهما دورات متبادلة فى أوقات تفرضها الظروف متغيرة، نحن نحارب لا لنحقق السلام، ولكن لنزيل ظلما، لنسترد حقا، لنطهرأرضا، ثم ننطلق إلى ما خلقنا له، نعمر أرض الله ونرتقى بخلقه.
ونحن ندعو للسلام، لا لنسترخى ونندفع إلى رفاهية مميكنة نمطية بلهاء، وإنما نريد السلام لنتوجه بما أنعم الله علينا من أسباب، ووقت، إلى ما ينفع الناس ويمكث فى الأرض.
إن الأرقى هو الأبقى، والأرقى ليس أرقى بالتمنى، وإنما بالجهاد والمعاناة والإبداع، وحمل هم الناس جميعا لصالحهم جميعا.
نصرنا الحقيقى يبدأ من محاسبتنا أنفسنا عن كل دقيقة، وكل وسيلة، وكل فعل: هل هو توجه إلى خير البشر، وتعمير الأرض، أم إلى التطاول والغطرسة على حساب من نبيد ونظلم.
دعونا نستفيد من دم هؤلاء الشهداء بأن نفهم السلام على أنه عمل أكثر إفادة، وفرص أكثر إثراء، وزرع أكثر إثمارا، وعقول أكثر إبداعا، فإذا فرض علينا القتال وهو كره لنا، فليكن بقدر ما نضطر إليه لتحقيق العدل للكافة.
الألم يتصاعد بلا حدود، لكن الإفاقة رائعة، مهما كانت التضحيات.