الوفد 6 /12/2001
نجيب محفوظ : فى عيد ميلاده التسعين
(11 ديسمبر “1911 - 2001”)
مسئولية أن نستوعب ما هو “نجيب محفوظ”
رفض نجيب محفوظ أن يحتفل بعيد ميلاده التسعين هذا العام (11 ديسمبر 1911)، وعنده حق، لكننى أعرف أن ما يسعده أكثر، فى هذه الظروف خاصة، هو أن يـبلـغـه أن وجوده قد ترك لنا ما يخلد به فينا، ومن خلالنا. ليس فقط بما سجل وروى وأبدع رموزا، وإنتاجا، على الورق، ولكن أساسا بما تركت بصماته على أرض الواقع، وفى وعى ناسه،وهو يحاول أن يعيش كما خلقه الله، ليمتد فى رحابه إلى ماليس كمثله شيء
محفوظ التاريخ يمشى بيننا
لعل نجيب محفوظ كان يصف نفسه حين أعلنها على لسان أب يخاطب ابنه فى مقدمة روايته ‘العائش فى الحقيقة”وهو يقول”… كن كالتاريخ، يفتح أذنيه لكل قائـل، ولا ينحاز لأحد ثم يسلم الحقيقة ناصعة هبة للمتأملين”.التاريخ الذى يعـنيه محفوظ هنا ليس هو التاريخ المكتوب فى كتب التاريخ أو وثائقه، وإنما هو التاريخ الحى الماثل فى وعى الإنسان وهو يعمر الأرض، وهو يتعثر، وهو ينتكس، وهو يبحث عن الحقيقة، وهو يصاب بالعمى عنها، ليقع ثم يقوم، يعاود البحث. إن تعبير محفوظ ‘كن كالتاريخ..’ لا يعنى التشبيه، بقدر ما يحدد ما هو التاريخ، وكأنه يقول ‘..أنت (أنا) التاريخ”، ذلك أنه أردف بعد هذه النصيحة من الأب استجابة الإبن وهو يقول:’..وسعدت جدا بالتوجه إلى تيار التاريخ الذى لا أعرف له بداية، ولن يتوقف عند نهاية، ويضيف كل ذى شأن إلى مجراه موجة مستمـدة من حب الحقيقـة الأبدية”. نجيب محفوظ هو هذه”الحكاية بلا بداية ولا نهاية” محفوظ ملبوس أبدا بالفحر حول الجذور، امتدادا إلى آفاق ‘المابعد”بلا كلل.
التاريخ الحقيقى، والتاريخ الوثائقى
التاريخ الحقيقى لـلبشرية يسجـل على لوحين لا يندرجان فى علم التاريخ الوثائقي: اللوح الأول هو الكيان البيولوجى للكائن الحى، ذلك اللوح المحفوظ المبرمج القادر المسمي”الدنا” فى بؤرة نوايا خلايانا، ليتجلى فى الذاكرة والوراثة والمناعة والطفرات التطورية. إن التاريخ الذى يسجل فى نوايا خلايا الأحياء نوعا بعد نوع، حتى الإنسان جيلا بعد جيل هو التاريخ الحقيقى، حيث لا يخضع للأهواء أو يقبل التزوير.
المصدر الآخر (اللوح الثاني) للتاريخ هو ناتج ما هو نحن، ولعل أكثره دلالة وإحاطة، هو الناتج الإبداعى. الإبداع أكثر مصداقية فى حكى ما هو الإنسان فى فترة تاريخية بذاتها، هو أصدق من التسجيل الوثائقى، ومن الرص الشهاداتى. الإبداع يحتوى الواقع ثم يفرزه، وهو يسجله بموضوعية فائقة لأنه يتجاوز الحكى المعلوماتى، والتصوير الساكن، والوثائق والشهادات المشبوهة. النص الأدبى يعرى الواقع الخارجى والناس من خلال معاناة فإبداع كاتبه، ثم يأتى الإبداع النقدى بعد ذلك ليعيد قراءة النص فيصنف ويرتب الواقع البشرى أعمق وأكثر دقة وإحاطة، إنه يخلق من الواقع واقعا أصدق، لا خيالا بديلا.
البداية من قراءاته فى مصر القديمة
بدأ نجيب محفوظ الكتابة المنشورة سنة 1932 بترجمة ‘مصر القديمة”، ثم تلاها مباشرة تقريبا (بعد مجموعة قصص قصيرة : همس الجنون 1938) بثلاثية عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة (1939. 1943، 1944 على التوالي). وهو لم يعد إلى مثل هذا التناول، بعد نضج فائق، إلا ليكتب ‘العائش فى الحقيقة (1985) بمستوى آخر لعمق آخر(هذا، فضلا عن لمحات عابرة فى قصص قصيرة هنا وهناك). هذه الرحلة فى التاريخ لا تمثل ما أعنيه بالإبداع “التأريخ”، (الواقع الإبداعى) على الرغم من أنها سميت المرحلة التاريخية (محمود العالم). إن تقييم هذه المرحلة من وجهة نظرالمداخلة الحالية هو أنها إعادة صياغة (إبداعية) لتاريخ قديم. إن هذا لا يعدو أن يكون بمثابة تحديث خيالى لقراءة فى التاريخ، فهو ليس تمثلا إبداعيا لواقع معاش. هذا المستوى هو قراءة أكثر منه معايشة، فانصهارا، فإعادة تشكيل.
تاريخ البشرية يتجلى رموزا
لم يفصل إبداع محفوظ بين تاريخنا(تاريخه) وتاريخ البشرية (بل تاريخ الحياة أحيانا). هو لم يقصد ذلك ابتداء، لكن انتماءه إلى الحياة، ودوام سعيه لاكتشاف الحقيقة، ألهماه أن يقرأ تاريخنا على أرضية أوسع بامتداد أبعد. إن حضور شعب، ثم فرد على هذه الأرض أو تلك فى زمن محدد، ليس إلا تجسيدا لمسيرة الحياة برمتها حيث يستحيل فصل الوجود البشرى حتى فى حضوره الفردى عن ملحمة الوجود الحيوي(التطور). من هنا راح محفوظ يبحث بإلحاح لم يهمد عن ‘الطريق” إلى الله، بقدر ما راح يحفر حول جذور الحياة. فى هذه المحاولة تداخل الموقف الفلسفى بالموقف الصوفى بالموقف التأريخى. وهكذا اضطر محفوظ أن يبالغ فى اللجوء للرمز وهو يعيد كتابة التاريخ حتى خيل إلى أن ما يميز هذا التجلى الرمزى لم يكن استيعاب الواقع إبداعا بقدر ما كان إظهار القدرة على إعادة تشكيل التاريخ حالا بلغة آنية لا أكثر. اعتبرت أنه قد غلبته إغراءات الأداة بعد أن تمكن من صقلها مع إلحاح الرسالة فاستغنى عن إضافة عمق الوعى الإبداعى الذى يضيء التاريخ لا يرمزه تحديثا. تجلى هذا البعد الرمزى فى أكثر من عمل كان أهمها، وأخطرها، ‘أولاد حارتنا” حيث بلغ الرمز من الفجاجة ما عرى المرموز له حتى رجحت كفة سلبيات المحاولة على إيجابياتها، وترتب على ذلك ما ترتب. لكن الرمز تخـفى أكثر فى أعمال أقل طموحا مثل حكاية بلا بداية ولا نهاية وهو يقدم الكتب الثلاثة التى هزت البيت الكبير والطريقة. لم يتردد فى تقديم كوبرنيكس فى ثوب الشيخ أبو كبير هو يعلن ‘..أن بيتنا ما هو إلا فرع من فروع لا حصر لها من بيوت الطريقة”، كما تخفى سيجموند فرويد فى ثوب الشيخ أبو العلا ‘ذاك الوحش الذى يتلذذ بالأعراض..إلخ”.
التجلى الأعمق لدورات الحياة
تتكرر المحاولة بلا انقطاع (دون نسيان زعبلاوي) حتى تنضج وهو يمتلك ناصية الرقص فى دورات الحياة مباشرة دون حاجة إلى رمز يستعيد به أحداث التاريخ. راح بكل تناغم مع المطلق يعرى ضلال الخلود وهو يساويه بالموت الآسن، كما وضع الوعى بالموت فى بؤرة الحفز إلى الحياة التى نجح أن يرسم دوراتها وكأنه يدور معها فى دوار الإيقاع الحيوى دون حواجز، ظهر كل ذلك فى درة أعماله ‘ملحمة الحرافيش” (1977).ومع أنها بدت لى خاتمة المحاولات لفرط ما اتسق تناغمها، إلا أنه عاد من جديد إلى البحث بنفس أهدأ فى رحلة ابن فطومة، وأيضا ظهرت مؤخرا ملامح كثيرة من نفس التجلى فى أصداء السيرة الذاتية. هذا تاريخ دوار، فهو حاضر معاد فى تصعيد حافز. لكنه تاريخنا لأنه تاريخ الحياة.
تاريخ الواقع بالسرد الطولى (روايات الأجيال).
لا يكاد يخلو عمل من أعمال محفوظ، حتى ما غاص منه وبه فى خيال شاطح (مثل رأيت فيما يرى النائم وليالى ألف ليلة، وحتى أحلام فترة النقاهة) من حضور الواقع الظاهر كما يعيشه أى منا بلغته الآنية وحضوره البسيط العميق الرائع. يتجلى ذلك بوجه خاص فى روايات”الأجيال” خاصة، بدءا من الثلاثية، وليس انتهاء بحديث الصباح والمساء (الذى شرح فيه تطور الطبقة الوسطى المصرية بشكل خاص خلال قرنين من الزمان، منذ نزول نابليون على شاطئ الإسكندرية 1798 حتى أحداث سبتمبر السادات 1981)، ثم ‘يوم قتل الزعيم” و”باقى من الزمن ساعة”.
محفوظ يؤرخ للسياسية
أظهر هذا التجلى مدى سعة المسافة بين موقف نجيب محفوظ المتحفظ (لا المحافظ) وهو يدلى بآرائه السياسية فى الحياة اليومية، وبين نجيب محفوظ السياسى والثائر المغامر حتى القتل فى إبداعه الروائى. يبدو أن إبداعه على هذا المستوى قد عوضه عن التزامه المتحفظ أبدا. نقرأ ذلك التنبيه على ضرورة التحفظ وهو يصدر من الوالد للإبن فى مقدمة العائش فى الحقيقة ‘..ولكن إحذر أن تستفز السلطان، أو تشمت بساقط فى النسيان”. ثم إنه ألحق ذلك بقوله مباشرة ‘كن كالتاريخ، يفتح أذنيه لكل قائل.ولا ينحاز لأحد. ثم إنه أتبع ذلك بقوله وكأنه يصف نفسه ثانية، ويخاطبها: ‘…أما أنت، فتريد الحقيقة، كل على قدر همته”. هكذا ظهر البعد السياسى فى إبداعه مكملا (وليس بالضرورة متناقضا مع ) الرأى السياسى فى تصريحاته وأحاديثه الرسمية المنشورة (وليس الخاصة بالضرورة). ومع ذلك فإنه لا يكاد يخلو عمل واحد من التجلى السياسى الناقد الثائر المقتحم للجارى على السطح بما فى ذلك التاريخ المسجل بالوثائق والشهادات، إلا أن بعض رواياته حظيت بقدر أكبر من غيرها فى الاهتمام بهذا البعد مثل الكرنك، وثرثرة فوق النيل، ويوم قتل الزعيم، وميرامار واللص والكلاب والشحاذ.
التجلى الذاتى (السيرة الذاتية)
صرح محفوظ أكثر من مرة أنه لن يكتب سيرته الذاتية، بل إنه ذهب أبعد من ذلك حين برر تحفظه هذا بأنه لا يرى فى سيرته الذاتية ما يستأهل الإشارة بوجه خاص، فهى -حسب قوله- لا تختلف عن سيرة أى مواطن مصرى وجد فى ظروفه، وهو لم يكن فى ذلك مدعيا التواضع، بل لعله – من فرط أمانته – أراد أن يبلغنا أنه (نجيب محفوظ) يمكن أن يتكرر بلا أدنى تقديس. ثم إنه فى نفس الوقت لم يتردد (ولا يتردد) أن يجيب كل سائل عن خصوصياته إجابة صادقة ومباشرة، وإن لم تكن كاملة طبعا.
على الرغم من هذا العزوف المبدئى، فإن سيرة نجيب محفوظ تجلت فى كل أعماله (عدلت عن أن أقول أغلبها)، هى لم تتجل ببعدها الظاهر، وإنما بمستوياتها الكيانية المتعددة. إن نجيب محفوظ، هو من المبدعين القلائل (أو النادرين) الذين لم يعيشوا هذا التناقض الصعب بين ما هم، وما يكتبونه. وفى نفس الوقت إنه لا يوجد تماثل أبدا بين شخصه وبين ما يكتب. إنه يحضر -شخصيا – فى كل ما يكتب، وهو يحضر مبدعا لشخوصه المتفردة – غير ما هو -أيضا فى كل ما يكتب. كلا الحضوريـن سهل ممتنع، فعلا، لكن لكل لغته، وتشكيله ليكمل بعضه بعضا.
ومع كل هذا التحفظ، فإن محفوظ قد سمح فى بعض أعماله بجرعة أكثر فأكثر من سيرته الذاتية بدءا بالثلاثية، ثم المرايا، فحكايات حارتنا ثم أخيرا أسمعنا أصداءها أكثر اختراقا وتكثيفا فى ‘أصداء السيرة الذاتية ‘. وهكذا نجد أنفسنا جاهزين لننتقل إلى نجيب محفوظ الشخص التاريخ، وليس المبدع تاريخا.
محفوظ التاريخ يمشى فى الأسواق
إذا كان إبداع محفوظ قد غمرنا بكل هذا الثراء والإثراء لما هو تاريخ، فإن شخصه-بيننا- ليس أقل ثراء، ولا أقل إعجازا. فى خطوط عريضة، انتظارا لعودة مناسبة، أحاول أن أكشف عن بعض ما عايشتـه مما هو نجيب محفوظ المواطن المصرى الذى يعمل موظفا: يأتمر، ويأمر، ويقبض مرتبه، ويحال إلى المعاش، ويرعى أسرته، ويمشى بين الناس، ويطرح نفسه حيثما كانوا، ليجعلها فى متناولهم طول الوقت دون تردد. إن حضور نجيب محفوظ شخصا هكذا يبدو مختلفا من حيث الموقف والموقع، لكنه أبدا ليس متناقضا، ولا هو متصارع مع بعضه البعض. ومن ذلك:
محفوظ رب الأسرة والحرفوش
هذا بعد لا يحق لى – ولا لأحد- أن يقترب منه، فهو ما أتاح بعضه لبعض حوارييه إلا ثقة بهم، ويقينا من أمانتهم، ومن عجب أن يكون مثل هذا البعد هو الأهم عند كثير من النقاد والمؤرخين، ليس بالنسبة لمحفوظ فحسب، وإنما بالنسبة لأى قائد أو رائد أو مبدع، مع أنه – فى نهاية النهاية – بعدا ليس متاحا أبدا مهما ترك من علامات، أو استنتج من شهادات الأقربين.
إن ما يمكن أن أشهد به فى هذه المنطقة، على قدر ما أتيح لى، هو أنه بـعد لا يتناقض – عموما – مع غيره فى عمق جوهره، لا بالنسبة لنجيب محفوظ مبدعا، ولا بالنسبة لنجيب محفوظ شخصا يمشى بيننا، ويسمح لخاصته أن يعرفوا أكثر فأكثر. هذا التناسق بين الشخص وإبداعه ليس حال أغلب من هم ليسوا محفوظا من المبدعين. إنه بعد طيب رائع، لا يزيد الأبعاد الأخرى إلا عمقا، وثراء، ومصداقية، ونبضا حيا.
محفوظ الموظف (الروتيني)
محفوظ الموظف، (المطيع، والمرؤوس، والرئيس المسئول، والرقيب). هو من أروع ماساهم فى تكوين محفوظ الإنسان والمبدع معا، لقد سمح هذا البعد لمحفوظ أن يخالط الواقع حتى يعجن بمائه يوما بيوم، فتعمقت علاقته بالالـتزام الراتب (الروتين) الرائع، وتأكدت صلاته بالناس الحقيقيين.
ثم إن محفوظ من كثرة ما أحب هذه الفرصة وأدرك مدى ضرورتها وروعة عطائها، اندفع فى ‘حضرة المحترم” يقدسها حتى ألهها، وكأنه ضرب ما عاشه فى مائه، ليبلغنا مدى قدسيته رغم اغترابه الظاهر.
محفوظ يتعاطى السياسة مواطنا عاديا
تحدد هذا البعد من قبل أن يكتب محفوظ زاوية ‘وجهة نظر”أسبوعيا فى الأهرام، لكن حضوره السياسى مواطنا عاديا، منذ أن كان وفديا صرفا، لا يقتصر على ما نقرأه له فى هذه الزاوية،، فهو لا يتردد فى إعلان موقفه السياسى الحريص ألا ‘يستفز السلطان” فى أى مناسبة. إننى أشهد أننى لم أعرف عنه نفاقا فى ذلك، وإنما هو يختار أى لمحة إيجابية لأى حاكم، فيأمل فيها أكثر مما تعـد، وكأنه يغرى الحاكم -بذلك – بالعمل على الاستزادة فى هذا الاتجاه. وهو على الرغم من تصنيفه باعتباره من المحافظين فإننى لا أشك أنه من أول من يتقدم المعارك متى فـرضت عليه (علينا). إنه فقط يرفض المعارك المؤجلة، والمؤجلة لكل ما هو إيجابى واجب الأداء حالا. يكمل هذا البعد أيضا تلك الممارسة السياسية الدؤوب، مهما بدت تحصيل حاصل، أو مهما تأكد من لاجدواها، فهو يذهب إلى صناديق الانتخاب، ولا يتعالى عن الإجابة عن أى سؤال مهما كان السائل، حتى لو رجح أن هذا السائل سوف يلوى إجابته.
محفوظ المقهى
هذا حضور آخر، فيه من السياسة والخصوصية معا، ما لا يترادف مع الحضور السياسى التصريحاتى (وجهة نظر)، أو مع الخصوصية المغلقة الحميمة (الحرافيش)، لكنه – ويا للعجب – ليس متناقضا مع أى بعد آخر (كيف يفعلها هكذا ذلك الرجل ؟؟!!).
إنها مدرسة مفتوحة لكل من أراد دون أى استئذان أو تحفظ، ودون أوراق اعتماد أو شروط. وهو، وحتى كتابة هذه السطور، ما زال حاضرا جدا وسطنا طول الوقت (وإن استبدل بالمقاهى الفنادق مضطرا). هى مدرسة لا أعرف لها مثيلا، فهو يبدو بيننا- بكل ما امتـحن به من إعاقات حسية- أكثرنا حضورا، وديمقراطية، وانتباها، وتقبلا للاختلاف، وتسامحا، وتعلما(لا تعليما فقط)، وبقدر انبهارى بهذا البعد، وعجزى عن الاقتداء به، ما زلت أحاول أن أستوعبه، فلا أنجح، فأدعو له: أطال الله عمره.
محفوظ فى عيوننا
هذا بعد أخير يصور محفوظا كما نراه نحن. فهو بقدر ما تقدسه بعض العيون والآمال والأحلام، تختزله بعض الرؤى والتحيزات والأحكام. لم يقتصر ذلك على تصنيفه من خلال إبداعه يساريا ملتزما (المنتمي/غالى شكري) أو روحانيا مؤمنا (الإيمانية والروحانية/ محمد حسن عبدالله) بل إن ذلك يتكرر يوميا من خلال استقبال من حوله له. كل يراه كما يريد، (خذ من محفوظ ما شئت لما شئت). يتمادى هذا الموقف حتى ترسم له صورة من خلال انتقاءات حسنة النية (أو عشوائية التخبط) ما يـظهره بغير حقيقته. كل هذا يصله ولا يحرك فيه غضاضة أو رفضا، ولا أعرف كيف يلتمس العذر لنا، ولهم.
وبعد
وسط كل مانحن فيه، وإضاءات الأمل تتوارى بإصرار، لا يبقى أمامنا إلا أن نصر على استيعاب ما هو “نجيب محفوظ”، هذا السهل الممتنع،الذى ظل يتعاطى الحياة المصرية فيعمقها ويثريها طوال تسعة قرون أطال الله عمره – فإن نجحنا أن نستعيد ثقتنا بأننا قادرون أن نفرز مثله، فنحن أهل لأن ننتمى إلى ما انتمى إليه.
هذا، وإلا…….