نشرة “الإنسان والتطور“
22-3-2011
السنة الرابعة
العدد: 1299
مزيد من إعادة النظر ومراجعة فى :
كيف تشكل وعى هذا الشباب الرائع؟
مقال قديم 1996(2 من 2)
مقدمة:
فضلت أن أعيد نشر الفقرات الأربع (نعم .. ولكن) التى نشرت أمس دون المقدمة ليتواصل الحضور فى وعى المتلقى، ونحن نبحث جذور تشكيلات وعى الشباب وكيف انطلقت فى 25 يناير..
* * * *
1- نعم: “أغلب” الشباب المصرى اليوم لا يتقن شيئا، ولا يتعمق فى شىء، لغته مترهلة تقريبية، ومعلوماته حرفية سطحية، وعلاقاته سريعة مجهضة (“يسرى ذلك على: أغلب طلبة الجامعة وخريجيها بل وهيئات تدريسها وجمهرة غالبة من الموظفين بلا وظيفة: فى الحكومة والقطاع العام”).
ولكن ..
إذا أتيحت لهؤلاء الشباب الفرصة فى ظل منظومة محكمة، ومتابعة ملاحقة، فإننا نفاجأ أنه أنجز وتعمق وأتقن، وأضاف “الأمثلة: شبابنا فى الخارج، وبعض قفزات إنجازات الداخل فى مجال السياحة أو التجارة وليس فى مجال البحث العلمى أو فدادين الاستصلاح الخمسة (!!) للأسف”
2- “ نعم: “أغلب” الشباب المصرى تنازل عن حقه فى الحلم، وفى الخيال، وفى الأمل، بحيث أصبحت قياساته آنِيّة،ومطالبه عاجلة، وحكمه فورى.
ولكن ..
إذا ضاق به الواقع فإنه يندفع إلى خيال أسطورى جامح، وبعضهم يروِّض هذا الخيال فيحقق به واقعا أقوى من الخيال، مثل شطحات الهجرة الناجحة، وإنجازات الإبداع الواعدة والمتزايدة.
3- نعم: “أغلب” الشباب المصرى يفتقر إلى الإبداع، فهو إما نسخة مكررة من صورة سلفية (وليس من إبداع السلف الصالح)، وإما أراجوز نشط يقلد المستورد من الخواجات بلا إضافة ولا تمييز.
ولكن ..
يبدو لى فى كثير من الأحيان أن هذا جمود مرحلى يعلن الشاب من خلاله موقفا احتجاجيا، وفى نفس الوقت ينذر بانقضاض خطير، وقد يتم هذا الانقضاض باختراق التقاليد فالإنطلاق الإبداعى، كما قد يتجه إلى عكس ذلك حسب الفرص المتاحة.
4 – نعم: “أغلب” الشباب المصرى شاخ قبل أوانه، ولبس عمامة الجد الصارم، فنحن نرى الآن القيم الأخلاقية (التقليدية عادة) والدينية (الشكلية عادة) تتجه من تحت إلى فوق، من الأبناء إلى الوالدين، وليس العكس كما كان مألوفا، فالابن هو الذى ينبه والده إلى الحفاظ على الصلاة فى المسجد كل الأوقات، والبنت تنصح، وأحيانا تفرض على أمها لبس الحجاب، ولا اعتراض على ذلك من حيث المبدأ، لكن ما يصاحب هذا الموقف الوعظى، والإرشادى، يكون عادة اتباعا حرفيا لمظاهر وطقوس الدين دون إكمال الحوار مع الله، أو مع النص أو مع الآخر، فيصبح الشباب عجوزا يصدر أحكاما، وليس مستكشفا يطور موقفا.
ولكن ..
هذا الموقف الأخلاقى (السطحى) الكهل، يعلن فى داخله حاجة الشباب الى الفضيلة، والرغبة فى الالتزام، صحيح أن ما أتيح له من ممارسات ومفاهيم حول الفضيلة كان مختزلا وظاهريا، ولكن مجرد الاهتمام بما يجب وما لايجب هو إعلان ضمنى بأن الشباب يحاول أن يأخذ المسائل جدا لا هزلا، وأنه حريص على الحصول على منظومة مامن القيم، وأنه لم يجد “تشكيلة” كافية فى سوق القيم المعروض عليه، فاكتفى بالجاهز الواضح مهما كان سطحيا أو مختزلا.
نعم: “أغلب”
5 – (كثير من) الشباب المصرى انفصل عن كل ما هو مصرى، وكل ما هو عربى، وكل ما هو أصيل، وكل ما هو تراث، ويمثل ذلك هذه الفئة من الشباب التى تربت فى المدارس الخوجاتى (تعمدت استعمال كلمة خواجاتى دون اللفظ العربى “الأجنبية”، ومنها إلى الجامعة الأمريكية أو الخارج، فالبنوك وشركات الاستثمار وما أشبه.
ولكن ..
بعض هذا الفريق بعد أن ينجح ويستقر يجد نفسه -إذا لم يهاجر- فى أرضه، والبلد يواصل المسير بفضل انفصاله وبالرغم منه فيتحرك فيه ما يجعله يؤلف ثلة، فجماعة، ففريقا، فناديا، فأرضا، فمصلحة مشتركة، فوعيا مستقبليا، فوطنا جديدا.
6- (كثير من) الشباب المصرى تبلد إحساسه، فلم يعد يشارك لا فى الرأى ولا فى الرؤية، بل لم يعد يتعاطف لا مع مشاكل وعواطف الأسرة، ولا مع الناس: لا ناسه (مواطنيه) ولا الناس عامة.
ولكن ..
هذه المسألة بالذات لاتخص الشباب فحسب، والنظام مسئول عن مثل ذلك، فالمشاركة بالرأى لا تصبح عادة متنامية إلا إذا أثبتت فاعليتها، والمشاركة بالعواطف فقط هى نوع من الطفلية الخائبة إن لم يصاحبها رأى متولد من مصداقيتها، ومن ثم دافع إلى التغيير، وما دام لا هذا ولا ذاك هو فى أفق المتاح حاليا، فإن الشباب لايشارك، وهو سوف يشارك حين يجد نفسه فى مجتمع يضع المشاركة فى موقعها الحقيقى، كجزء لايتجزأ من صنع القرار.
7 – (أغلب) الشباب المصرى ساخط يلقى اللوم، بحق وبغير وجه حق، لدرجة تشعر معها كأنه يتصيد الأخطاء لا يلاحظها أوحتى يرصدها، وهو يلعن كل شئ وكل أحد (من باب الأخذ بالأحوط)، ولا يعطى بديلا.
ولكن أليس هذا هو ما بقى له من إعلان لموقفه ورفضه، ثم إن هذا السخط المتواصل، رغم سلبياته الأكيدة، هو رؤية حادة، قد تخفى جوانب جيدة لا ينبغى أن يتعامل معها بنفس نوع السخط والإنكار ثم إنه من ناحية أخرى نوع من الصراخ بأنه: ما لا تنصلح الأصول حقيقة وفعلا، فإن الإصلاحات الفرعية والثانوية والظاهرية هى تسكين لا عمر له، ولا فائدة منه.
8- (فريق من) الشباب يريد أن يثور وأن يعترض، وأن تتحدد هويته، فيندفع بحماسه الفائق إلى مثاليات رافضة، تحت عناوين وشعارات قيم مقدسة (مصنمة) ثابتة، ثم يجد نفسه جاهزا للفعل بعد أن يئس من كل سبيل آخر .. فيعصبون عينيه بعد أن جمدوا فكره، ويسلمونه السلاح، ويعدونه بالجنة، وهات يا قتل وياتخريب ويا إرهاب.
ولكن..
هل وجد هذا الشباب سبيلا آخر للثورة والاعتراض وتحديد الهوية، سبيلا حقيقيا فيه من الاحترام والمشاركة والإبداع ما يحقق له نتائج اندفاعته، ومشروعية رفضه فى إطار واقع حقيقى، ثم ترك كل هذا وراح يختار ذلك الطريق الاخر المدمر والمخرب؟
وعلى الجانب الآخر:
9- (كثرة من) الشباب المصرى قرر أن يستقل عن الدولة وعن التبعية، فراح يمزق (أو يركن) شهادته ويتعلم الحرف، وراح يغلق المذياع بل والتليفزيون ويسمع الكاسيت، (حتى لو أسميناه نحن هابطا) والقادر منهم راح يرفض تعليم الدولة ويلتحق بالمدارس الأجنبية والجامعة الأمريكية وما يماثلها إن وجد (مثل بعض المعاهد والكليات التكنولوجية الخاصة الجديدة)، وكل هذا يقول إن الشباب أزاح، أو يزيح الوصاية، ويبحث عن البديل.
اللغة الجديدة !
ولكن ..
هذا الاستقلال هو استقلال عشوائى، وكل فرقة مستقلة، تصنع لها جزيرة خاصة، بل تكاد تؤلف لها لغة خاصة، وشفرة خاصة، وهوية خاصة، ولعل ما نسمعه عن اللغة الجديدة (مية مية، إللى هو، دماغ.. إلخ) ، ونبكى من خلاله، أو نتباكى، على اللغة المهذبة، واللغة الدمثة، وأحيانا اللغة العربية، لعل فى كل ذلك ما يؤكد ما ذهبت إليه مما أسميته الجزر المستقلة، وبالتالى فلن يكون هذا الاستقلال إيجابيا إلا إذا تجمعت هذه الجزر فى مجرى النهر الواحد، أو حتى داخل البحيرة الواحدة.
10- (بعض) الشباب اندفعوا إلى محاولات الإبداع بصدق واعد، ورغم قلة فرص النشر وقلة فرص النقد، فإن الجهود الذاتية، والمسودات المتاحة، وبعض جهود قصور الثقافة وما أشبه: تشهد جميعا أنها موجة حقيقية من المحاولات الجادة والعميقة، وحتى المحاولات التى يقال إنها تفاهة ومشوهة، (مثل الحال فى الأغنية الكاسيت ومطربى الصحراء والعشوائيات .. إلخ) هى محاولات إبداعية بحق، تترامى فى إزعاج هنا وهناك، لكنها تعلن رفض السكون والاستسلام، ورفض القديم والوصاية. بل إن إبداع الشباب امتد إلى مجال الكمبيوتر فبرز منهم فريق أتقن إبداعات البرامج الجديدة، وفريق آخر أبدع سرقة البرامج الجاهزة والمشفرة، ورغم إنه وفى الدول النامية، والنسبة لهدف هذا المقال هو إبداع فعلا يتجاوز البعد الأخلاقى والقانونى.
ولكن..
إن الافتقار إلى الإتقان، والإيقاع الهادئ والمثابرة، والحوار والنقد جنبا إلى جنب مع كثرة الهجوم دون تمييز بالإضافة إلى الاستهانة، والسخرية، والتذكير بالماضى والقياس بالراسخ والمألوف، كل هذا قد يجعل هذه الجزر تزداد استقلالا دون النظر إلى القوارب المحيطة، أو النهر الجارى، أو حتى البحيرة الخاصة.
11- (قلة أخرى من) الشباب يتقنون التقليد، تراهم وهم ينسخون بعض النشاطات كما سبق ذكره بشأن سرقة برامج الكمبيوتر كما تراهم يؤلفون الفرق التى تغنى بلغات مختلفة وتصل درجة التقليد أنك تفاجأ بنفس الشاب (الشباب) المغنى الذى كدت تحسبه “خواجا” وهو يغنى مرة بالفرنسية ومرة بالانجليزية، تجده وقد قلبها كارم محمود، يا حلو ناديلى، وقيد قناديلى، بنفس الإتقان والحبكة، وإتقان التقليد هذا ليس بالضرورة تنازلا عن الهوية، فنهضة اليابان (فبقية شرق اسيا) كلها مبينة على إتقان التقليد، ثم إضافة شديدة التواضع ولكنها شديدة الدلالة، فهذا التقليد – بإضافة أو بدون – هو ظاهرة جدت عند شبابنا، وهو ظاهرة واعدة مهمة.
ولكن..
يبدو أن هذا التقليد لا يمكن الاكتفاء به أو الاطمئنان إليه مالم يتميز المقلد -فى النهاية- عن الأصل، ثم إن التقليد اذا أصبح هو نهاية المطاف فإنه يمكن أن يقوم بما يشبه انتزاع الجزور، بدلا من التطعيم بفرع فاكهة جديد، فهذا النوع من الإنجاز الماهر قد يصبح مبررا للتخلى عن الأصل، وكافيا للاستمرار نسخة مكررة بلا إضافة، فهى ميتة لا محالة.
12- (كثرة مناسبة من) الشباب الذين يسافرون، خاصة إلى البلاد العربية، إما بما يسمونه “طرازن” (أيه مغامر يحط حيث يصل به الترحال)، وإما بعقود متواضعة وظالمة، قد أظهروا قدرة هائلة على التحمل فى سبيل لقمة العيش، فرضوا بأصعب الفرص، وعاشوا فى أدنى مستوى، وتحملوا أقصى المعاملة ليرجعوا، لعلهم يبدأون من جديد، يبنون ما يمكن أن تستمر معه وبه حياتهم، وبذا يثبتون – رغم كل شئ – حبهم للحياة وقدرتهم على الاستمرار تحت كل الظروف.
ولكن ..
هذا التحمل فوق طاقة البشر سمح لمن شغلوهم من أصحاب المال والأعمال فى الغربة أن يسيئوا التأويل، وأن يتمادوا فى الإهانة، وأن يغرقوا فى التهديد والتحقير، بدرجة يضطر معها هؤلاء الشباب أن يبلعوا كل شئ حتى الشعور بالكرامة فيعودون يوجهون عدوانهم واحتاجهم، ليس على من أهانهم، وحقرهم(1)، ولكن على بلدهم وذويهم، وهم بذلك يفقدون كل شئ رغم كل شئ، ثم يجدون أنفسهم إما مشلولين معتمدين على ماجمعوا لا أكثر أو متسولين يشحذون مالم يجمعوا لا أكثر، أو متسولين يحذون مالم يجمعوا,هذا غير الاحتمالات الأخرى الأخطرمثل الانضمام إلى الجماعات، أو المافيا، أو الانسحاب تماما بالمرض أو المخدر أو الموت.
13- (عدد متوسط من) الشباب تعلم المثابرة من خلال تكرار المحاولات، وتغيير المهن حسب الحاجة، وكذلك التنقل بين بلدان العالم من أدنى الأردن إلى أقصى نيوزيلاندا مارا بالخليج وإيطالياوالنمسا وغيره، وهم بذالك، يثبتون أن حبهم للحياة، ومقاومتهم للاستسلام، قد سمحا لهم بوفرة الحركة والتوزيع، وأيضا بالوقوف بعد الوقوع مرة ومرات.
ولكن..
قوة طاردة:
صاحبت -فى أغلب الأحوال- هذا النشاط المتنوع، وهذه الحركة المتدفقة درجة كبيرة من التشتت والانفصال، وكم غائر من الاحتجاج واللوم موجه إلى من اضطروهم لمثل هذا، وبدلا من أن تكون الحركة ثروة حياتية متفجرة، أصبحت قوة طاردة ملاحقة، فأصبح ما تحقق من خلالها – فى كثير من الأحيان – أقرب إلى حركة النيازك المنفصلة منها إلى الدوران بعيدا ولكن منجذبا إلى الكوكب الأم(2)
وبعد:
فإن أخشى ما أخشاه أنتصل هذه المقالة بالقازئ إلى ربكة غير مفيدة، فكل ما هو سلبى قد يحمل مبررات تفسره، وقد يحتوى إيجابيات يمكن أن تعدل مسارها وتطوره إلى غير ما بدأ به.,
وكل ما هو إيجابى معرض لتغيير اتجاه، وتحطيم إنجازاته.
هذا فضلا عما يمكن أن يشعر يه القارئ من احتمال ميوعة موقف الكاتب وتلاعبه.
ليكن:
إلا أننى أدعو القارئ أن يفتربض اجتهادى، وأن يشاركنى المحاولة، وأن ينتبه إلى الحال الخطيرة التى وصل إليها الشباب إما بالإرهاب أو بالانحلال، إما بالاعتمادية، إن الزمر خطير، وشجب السلبيات وتعدادها لا يكفى.
كذلك فإن رصد ملامح الثورة الشابية دون الانتباه إلى صعوبة الظروف المحيطة، وخطورة الانحرافات المحتملة نتيجة للافتقار إلى الحذر، أو التسليم إلى خدر الحلم أو وهم الحرية، كل هذا خليق بأن يهدر كل إيجابية محتملة الرصد واعدة بالخير.
المطلوب من كل مخلص إلا يكتفى بالسخط والشجب والحكم الفوقى.
المطلوب من كل وعى صادق ألا يتوقف عند احترام المحاولات المتناثرة هنا وهناك، فيكتفى بالتصفيق لما يشبه الثورة مما لا يكتمل، ولا يستمر.
إن المسألة تحتاج إلى صبر محب للحياة، وفهم لنفوس هؤلاء الناس الأصغر، فهم يسبقه ويواكبه قدر هائل من الاحترام لا التفويت، ولا الإنكار، جنبا رلى جنب مع ما ينبغى من الحذر، ويدعم هذا وذاك التقدير العميق للأمر من المُرْ الذى رماهم على ما هو أمر مما هم فيه.
كما تحتاج المسألة إلى تعهد كل محاولة، وتنمية كل إيجابية، وتأمين كل استمرار.
لم تعد تكفى لهجة: كنا .. وأصبحت، نحن وأنتم، أيامنا وأيامكم! أيمانا، أين أيام زمان.. ماهذا الذى يسمعون. ماهذا الذى تفعلون .. إلخ
لم يعد يكفى هذا المقال ومثله، فهم لن يقرأوه,وإذا قرأه بعضهم فسوف يبتسم، والآخر-الأطيب منهم- سوف يشفق على كاتبه.
لم تعد تكفى إدارة حوارات بلا حوار، ومحاولة الإقناع بما لسنا نحن مقتنعين به
المسألة صعبة،
والجهد لازم،
والحل ممكن.
ليس قريبا، لكنه ممكن.
طبعا!!!!!!!
وإلا فلماذا، وكيف، تستمر الحياة؟
[1] – فى الغرية
[2] – 1996 – 2011