الوفد: 29-2-1994
مذبحة الحرم الإبراهيمى والنظام العالمى الجديد
النذير، والجنون، وقائمة الاتهام
بعد هذه المجزرة (90 قتيلا وخمسمائة جريح فى الحرم الإبراهيمي)، لم يعد هناك مجال للانتظار، بل لإعادة النظر
.. كل هذه النذالة والناس سجود ؟؟؟!!!!!
أخشى أن يقول الناس ضعيفوا الإيمان أين الله يحمى من سجدوا له له!!؟ أخشى أن نتصور أن الموضوع بعيد عن مصير ينتظرنا جميعا، هذا الذى كان يحدث فى واحة الديمقراطية يا أمريكا، ثم تشجبه يا سيدى كلينتون بأشد لهجة، هكذا قالت وكالات الأنباء، شكرا جزيلا، ذلك لأننا كنا نتصور أن تحيزك القديم أو المحتمل -عذرا لسوء الظن – سوف يجعلك تشجب هذه المجزرة بلهجة متوسطة أو هادئة، لكن مصداقيتك وعدلك وموضوعيتك جعلتك تشجبه بأشد لهجة، هذا هو ما ينبغى فعلا، ألم تعامل العراق حين اعتدى على بلد مجاور صغير بنفس الأسلوب فسحقته بأشد هجمة، ثم رحت تجرده بالتعاون السلبى مع حكامه من كل مقومات تسمح له – بعد الشر- بالرد على من اعتدى على الحرم الإبراهيمى.
ولكن لنرجع إلى تخصصنا، هذا الرجل الطبيب الإسرائيلى النذل ليس مجنونا، لأن كل من أنشأ هذا البلد المسمى إسرائيل (الرمز المصغر للنظام العالمى الجديد/ القديم ) تصرف نفس التصرف تحت سمع وبصر العالم، وأمريكا تصرفت نفس التصرف فى العراق تحت سمع وبصر العالم، وروسيا (وليس الصرب) تصرفت نفس التصرف فى البوسنة، فلو حكمنا على هذا السفاح بالجنون إذن…(إستنتج أنت من فضلك وعيب تقول على نظام عالمى أنه مجنون !!!)
وحتى لو كان مجنونا، فبالرغم من أن الجنون حدث فردى إلا أن المجنون إنما يعبر عادة عن وعى جماعى يسود مرحلة بذاتها.
ولنا أن نتصور لو أن هذا الحادث قد حدث هنا فى مصر فى كنيسة أو كنيس، هل كان السيد كلينتون سيكتفى بالاستنكار الشديد جدا والتأثر الذى هو تأثر فى غاية التأثر؟ أم أن الإنذارات السرية والعلنية كانت ستوجه، والمعونات سوف تقطع، والسياح سوف يمنعون من الحضور لأن بلدا لا يستطيع أن يحمى ستمائة ضحية منهم مائة قتيل من إغارة فرد واحد لا يستطيع أن يحمى زائريه إلى آخره إلى آخره، ألم يسأل مسلم من هؤلاء الذين يحاربون السياحة فى بلدنا لماذا يتدفق السائحون إلى إسرائيل بمعدلات أكبر وأكبر مع وجود كل هذا الجنون وهذا اللاأمان هناك ؟ ألم يسأل نفسه من يخدم؟ ولمن يقدم المبرر لخراب بيوتنا؟
ومرة أخرى أقدم للقارئ معلومة علمية دالة: فالمجنون والمجرم لا يتحركان إلا فى مساحة مسموح بها من الوعى الجمعى، صحيح أن المجنون يتخطى المألوف، والمجرم يكسر القانون، لكن هذا وذاك يعقدون معاهدة سرية مع المساحة التى يتحركون فيها حين ينطلق الجنون أو ترتكب الجريمة، والمجنون والمجرم عندهم من الروادع الخاصة ما يمنع فى أغلب الأحيان من التمادى المطلق إلى ما بعدها، صحيح أن ثمة حالات نادرة تتخطى حتى مجرد الخيال، لكن ذلك أيضا يتم فى سماح سرى من الوعى العام، كتب هنرى إى (أعظم طبيب نفسي/ فيلسوف فرنسى فى هذا القرن ) رأيا عن الجنون والعصر الحديث، كان ذلك فى الخمسينات وتكلم فيه على أن الجنون لا يتم إلا حين تكون هناك درجة من الحرية تسمح للإنسان أن يجن، أما محتوى الجنون فهو إعلان عن محتوى الفكر المتاح
إذن هذه الجريمة هى الفعلنة acting out التى فضحت النظام العالمى الجديد، فهى تجسد عيانيا وبشكل مباشر معلنة أن: هذا هو النظام العالمى الجديد
ثم لنا أن نتصور ماذا يكون الحال بعد رحيل الجيش الإسرائيلى تحت وهم الحكم الذاتى، ألا يدفع مثل هذا الحادث لو حدث حينذاك إلى إعلان عجز السلطة الفلسطينية المتواضعة عن حماية المسلمين والفلسطينيين، فما بالك بحماية المستوطنين..إلخ
قائمة الاتهام:
مستحيل أن يقوم بهذاالعمل فرد وحده ولو كان مجنونا مستحيل أن يدخل المسجد فرد بملابس الجيش الإسرائيلى فى الفجر والمصلون سجود دون سماح مدبر من رجال الأمن
مستحيل أن يرتكب هذا العمل من يتصور أنه أو ذويه يمكن أن يصيبهم ما أصاب ضحاياه أو أن ثمة عقاب حقيقى سينتظره
إذن، فثمة شركاء منهم، من أول من أقام المستوطنات أملا فى إبادة أو ترحيل أصحاب الأرض، حتى رئيس الوزراء كاسر العظام ومراوغ المباحثات
لكن مستحيل أيضا أن يتم هذا العمل إلا مع من يستحق أن يناله، لا جزاء لما اقترف، ولكن إعلانا لمذلته وهوانه، نحن الذين هنـــا هكذا، وضعفنا هكذا، وكسلنا هكذا، واستسلمنا هكذا، فكان هذا الذى كان، وسيكون
وليس معنى هذا أننى مع الكفاح المسلح المزعوم على طول الخط،
ولست مع أن تقوم مصر- كالعادة- بوظيفة الجندى الحارس غير المأجور لمن ينفخ فيها زعيمة تعفيه من مسئولية الدفع والحرب والكرامة
ولست ضد السلام، لا سلام كامب ديفيد، ولا سلام النرويج، ولاسلام الواق الواق
أنا مع إعلان الهزيمة بإعلان السلام، وكان هذا هو الواجب من قديم
والهزيمة – لا النكسة- هى التى تفيق الشعوب
فكما أن الموت هو أصل الحياة، فالهزيمة هى فرصة النصر
السلام المؤلم القبيح هو فرصتنا الأساسية لنرى حجم هزائمنا المتلاحقة، وبعده، ومعه، يمكن أن ندرك من مثل هذا وغيره مما سيحدث وأكثر، ندرك ماهية الصهيونية وماهية أمريكا وماهية روسيا وماهية النظام العالمى الجديد
هذا السلام الغبى ذو الرائحة الكريهة هو الذى سيضعنا أمام السؤال الكبير : هل نستحق الحياة أصلا؟ هل نحن نسعى للحصول على مؤهلات الكرامة بالإبداع والإنتاج، أم أنهاالتبعية والكذب والاغتراب بقية حياتنا
وإذا كان المتهم من جانبهم ليس فردا، وإنما هو جماعة ودولة، فإن ثمة مشاركين فى الجريمة على الجانب الآخر، .
نحن متهمون كذلك،
وأنا شخصيا لا أشير بأصابع الاتهام إلى من وقع اتفاق غزة وزفت، ولا إلى من وقع وثيقة كامب نيلة، ولكن قائمة الاتهام التى قفزت إلى وعيى وأنا “هكذا” هى :
1- كل من أضعفنا اقتصاديا وإنتاجيا وإبداعيا، سواء بطلقة على سائح أو خفير نظامي، أو بأن تمسك بالسلطة الأبدية فراح يحكمنا دون مشاركة، وجثم على وعينا سنين عددا دون وعى مستقبلى بحقيقة الفراغ والضياع
2- كل من أعطى أو حصل على تعليم بلا معني، وشهادة بلا محتوي،
3- كل من قام ببحث لمجرد أن يحظى ببركة النشر
4- كل من اشترى بملايين أو مليارات الدولارات آلة عملاقة أو جهازا رصينا لمجرد أن هذا هو المطلوب للمعاصرة، وهو متغافل عن إعادة النظر فى حقيقة الاحتياج وكرامة الوجود اللازمين للشخص العادى فى الشارع العادي
5- كل من نال جائزة أو فخر بجائزة بعد اضطراره لنوالها ( أو أجاز جائزة) تعلن القاعدة القديمة ” أن من لا يملك يعطى من لا يستحق” وتعديلها “أن من لا يبدع يكافئ من أخفى عجزه ممن هو مثله”
6- كل من انتمى إلى قيمة الرفاهية هدفا أولا وأخيراونحن لم نحقق بعد قيمة الكفاف
7- كل من خدع الناس بلافتات كاذبة يعلن فيها انتماؤه إلى الكونجرس الفلانى والمجلس العالمى العلاني، والمؤتمر الترتانى، وكأنه بذلك أضاف علما أو حقق إنجازا
8 – كل من استكان إلى كسله يجتر أفكارا لم يولدها، إذ يكرر ما يلقى فى وعاء جمجمته (قحف رأسه) من بقايا التاريخ وفضلات “بلاد برة”
أنا منفعل ؟ نعم
أعمم حتى قد تضيع مسئولية ذلك المجرم (الطبيب !!!) ؟ نعم
ذلك لأننى إذا كنت لا أستطيع أن أحاكم هذا السفاح الوغد، ولا يكفينى أن يعدم هو وكل أهل مستوطنته، بل وكل أهل بلده، فلأحاكم نفسى وأهلى أولا وجميعا
ثم إنه حتى لو حكم بالإعدام على كل أهل مستوطنة هذا النذل، حتى لو أزيلت كل المستوطنات من الأرض المحتلة، حتى لو أزيلت إسرائيل نفسها وظللنا نحن هكذا هكذا تماما، فسوف نخلق من بيننا، ومن نفاياتهم ومجرميهم إسرائيلا جديدة، وطبيبا روبنشتيانا جديدا، ومذبحة جديدة
فانتبهوا
من يهن يسهل الهوان عليه
وبعد ( ورغم أننى أعرف أن الإجابة هى فى الاتجاه الآخر بتبريرارت أعلمها تقريبا والعياذ بالله)، وبعد دعونا نتساءل :
هل يجرؤ أحد منا بعد ما حدث أن يقتل مساعد شرطة فى أجازة (مهما كان السبب أو وضحت الفتوي)؟
هل يجرؤ أحد منا بعد ما حدث أن يشغل وقته بقضايا حلال أو حرام (من مصادر لفظية فى الكتب دون الحياة) بديلا عن عمل وإبداع
هل يجرؤ أحد منا بعد ذلك أن يتباهى بإضاعة عقله ووقته ووعيه فى القيام ببحث لمجرد أن سادته الفرنجة قد قبلوا نشره منسقا بلا معنى ولا هدف
هل يجرؤ رجل سلطة أن يخربها بالقوانين الهابطة بالمظلات، والمبانى والمكاتب الرسمية الحاوية للكذب، والانتخابات التمثيليات التوصيات المصالح ؟
إذا استمر بعد ذلك كل ذلك كذلك، فانتظروا إنا معكم منتظرون
وسوف أدعو ربى حينئذ بهذه الدعوات :
خذنا ربنا بنازلة لا تبقى ولا تذر
خذنا ما دمنا لا نستأهل أن نحمى أنفسنا بما ينبغى كما ينبغى
خذنا ليتمتعوا هم بنظامهم العالمى الجديد، ولربما يستديروا ثانية على بعضهم البعض بعد اختفائنا
خذنا بدل أن تعاقبنا بأن تدعنا هكذا بين أيديهم يحصدوننا هناك ونحن سجود، ويغتالون أبناءنا هنا فى دورهم أو وهم فى طريقهم إلى ذويهم
ما هذا بالله عليكم؟
بالله علينا ؟
ماهذا يا ربنا العزيز ذا الجلال والإكرام؟
ما هذا فى هذه الأيام الـمفروض أنها مباركة؟
أستغفر الله العظيم الذى لا إله إلا هو الحى القيوم وأتوب إليه.