مدخل إلى العلاج النفسى الوجودى
ترجمة وتقديم: د. عادل مصطفى
”سواء أكانت الحياة كفنا أم شرنقة، فإن على كل إنسان أن يحول حياته بنفسه”
الكسندر إليوت – آفاق الفن
”… ذلك الانتساب الذى يهتف بنا حين نصحو فى الصباح : لك شيء فى هذا العالم فقم”.
غسان كنفانى – الرسائل
”فقد ينبغى أن تفهما يا إبنى أن كل واحد منا يلقى أول الشباب وحشا قائما يريد أن يأخذ عليه الطريق. وهذا الوحش يا إبنى يعرض على كل واحد منا سؤالا خاصا، فاعلما أن هذه الأسئلة مهما تختلف فإن جوابها واحد لا يتغير. نعم!
ليس هناك إلا جواب واحد لهذه الأسئلة كلها، وهذا الجواب هو “الإنسان”، وهذا الإنسان الفرد بالقياس إلى كل واحد منا هو شخصيته”
أندريه جيد – أوديب
الضمير هو الصوت الذى يهتف بالإنسان فى سرية وصمت أن يستخلص نفسه من تشتت خسران النفس ومن الاستغراق فى “الناس” لكى يأخذ على عاتقه مسئولية أن يكون نفسه.
إنه نداء النفس لنفسها من الخسران إلى الأصالة
هيدجر – الوجود والزمان
الكلمات مثلا : كنت أريد كلمات لي، ولكن التى تحت تصرفى قد ساحت فى ضمائر لا أعرف لها عدا ; إنها تنتظم فى رأسى من تلقاء نفسها بفضل العادات التى اكتسبتها لدى الآخرين، وأنا إذ أستعملها فى الكتابة إليك، لا أفعل ذلك بلا اشمئزاز
سارتر – ايروسترات
لا يكون الإنسان نفسه فى تجربة الإبداع إلا بقدر ما يخرج مما هو هويته جدل بين ما هو وما يكون. إنها أمامه أكثر مما هى وراءه – بوصفه، جوهريا، إرادة خلق وتغيير. لنقل ليست الهوية موروثا نرثه بقدر ما هى إبداع نحققه. فالإنسان خلافا للكائنات كلها، يبدع هويته فيما يبدع حياته وفكره
أدونيس – النص القرآنى وآفاق الكتابة
إن نظرية الكوانتم قضت على النظرة إلى الكون على أنه يوجد هناك آمنا.. وأننا يمكن أن نلاحظ ما يجرى فيه من خلف منظار دون أن يكون لنا دخل بما يجرى هناك. إلا أننا بقدر الدرجة التى نقيس بها الكون فإن الكون يتغير. فنحن نغيره. ويتعين أن نلغى كلمة ” ملاحظ ” وأن نستبدل بها كلمة ” مشارك ” ونظرية الكوانتم تخبرنا بأننا نتعامل مع كون مشارك
آرشيبالد هويلر – طبيعة الكشف العلمى
إن الذات الإنسانية ليست هى الإنسانية بوجه عام، فإن الإنسانية لا توجد، وإنما الكائنات الإنسانية الفردية هى الموجودة. والواقع الوجودى لا يقوم فى الجنس أو النوع، بل فى الفرد العينى. والكليات شأنها شأن الجماهير، هى تجريدات لا أيادى لها ولا أرجل
كيركجارد – نقشت على قبره
الإنسان مذنب دائما وأبدا. إنه مذنب منذ لحظة الميلاد، ومدين لنفسه بكل مالم يحققه من الممكنات التى منحت له، وبكل ما كان يذخره له المستقبل.. مدين حتى النفس الأخيره إن كل فعل وكل قرار وكل اختيار يتضمن نبذ كل الممكنات الأخرى التى تنتمى أيضا لوجوده فى تلك اللحظة يتمثل الذنب الوجودى إذن فى هذا الفشل فى تنفيذ التفويض الممنوح له بتحقيق كل ممكناته
بودلير – “إلى القاريء – أزدهار الشر
هناك وحش أقبح وأخبث وأقذر منها جميعا وإن كان لا يطلق حركات كبيرة ولا صيحات شديدة ولو شاء لجعل الأرض حطاما وابتلع العالم فى تـثاؤب واحد إنه السأم – هذا المسخ الرقيق الذى يحلم بالمقاصل وهو يدخن نارجيلته وفى عينه دمعة تمتليء بها رغما عنه.
مقدمة:
آثرت فى هذه التقدمة أن تكون تتمة لملامح العمل الذى تتناوله أكثر مما تكون تكرارا له أو تنويعا عليه. فالنص الذى بين يديك هو عجالة موجزة فى العلاج الوجودي، فيه من عيوب الاختصار ومزاياه. فمن عيوبه أنه لابد تارك جوانب يجمل استيفاؤها كيما تكتمل الفائدة ويتم القصد، وهو ماحاولت جهدى أن أقوم به فى هذه التقدمة التى أعلم أنها لا تسلم من العسر والإفاضة[1] ومن مزاياه أنه يترفق بالقاريء المعاصر المتعجل بطبعه، فيقدم له ما قل ودل ويدخل به إلى صميم الموضوع من أقصر طريق، ويقدم إليه زبدته فى قبضة واحدة، دانية سائغة سهلة الهضم، على وعورة الموضوع وعمقه فى واقع الأمر.
وقد اتفق لهذا العمل ميزة ثانية تأتيه من طريق آخر غير طريق الاختصار. فقد قام بوضعه اثنان من أساتذة العلاج الوجودى كلاهما حجة وإمام، بل رائد ومؤسس لهذا الصنف من العلاج فى زمننا المعاصر، مما يمنحك الثقة أن النبع أم والورود حميد، وأنك على الخبير سقطت.
لكأن المدرسة الوجودية تقدم للعلاج النفسى بعدا ثالثا وتضيف إليه عمقا جديدا.
وأطرف ما فى الأمر أنها لا تجحد فضل المدارس الأخرى ولا تلغيها، بل تبقى عليها وتفيد من إسهاماتها وتتوغل من تحتها إلى أعماق ما خطرت ببال رواد المدارس الأخرى ولسان حالها يقول : ” ما جئت لأنقض بل لأكمل”. فالدوافع الفرويدية والأدلرية، والاشتراط السلوكي، ونماذج يونج البدئية، والصبغة الاجتماعية البينشخصية… الخ، كل أولئك كشوف ثمينة وخطوط هامة غير أنها تتركنا مع صورة للمريض غير مكتملة صورة باهتة غائمة لا عين فيها ولا تعبير، صورة تجوز على كل مريض ولا تميز أى مريض. زد أنها صورة مستوية ينقصها العمق.. البعد الثالث.. البعد الوجودى.
تأتى المدرسة الوجودية لكى تكمل هذه الصورة الغفل، وتهيب بالطبيب النفسى أن يتثبت فى كل لحظة أنه يرى المريض الفرد على ما هو عليه، لا أنه ببساطة يسقط عليه ما حفظه من نظريات، ويرجع عليه ما تجرعه من دروس. وإنه ببساطة يراوغه ويناوره كى يوقعه عاجلا فى شبكة التشخيص.
من الألفاظ التى يكثر تداولها بين الوجوديين لفظة Dasein ، ولفظة Daseinanalysis ولفظة فينومينولوجيا. أما كلمة Dasein فقد ترد كما هى بالألمانية، وتعنى “حرفيا الموجود – هناك” (والموجود هنا أيضا) there – being، أى الوجود الجزئى المتعين المحدد كوجود الإنسان الفرد. وقد تنقل إلى تعبير الوجود الإنساني، أو الواقع الإنساني، دون إخلال كثير بالقصد. وقد تنقل كذلك إلى الوجود – هنا والآن – لتضفى شيئا من معنى الحضور الإنسانى المباشر الذى تحمله اللفظة الألمانية الأصلية. ومن ثم يكون تعبير Daseinanalysis هو التحليل الوصفى لوجود إنسانى بعينه فى موقف محدد والإبانة عنه. أما الفينومينولوجيا فهى المنهج الذى يتم به هذا التحليل.
يدين جميع المفكرين الوجوديين بالفضل لعبقرية الفيلسوف الألمانى إدموند هوسرل مؤسس المنهج الفينومينولوجى فى القرن العشرين، الذى تحول من منطقى إلى فيلسوف بحت إلى مفكر وجودى فى أواخر أيامه.
والفينومينولوجيا مصطلح وثيق الصلة بالمدخل الوجودى إلى الإنسان وموقفه وعالمه. فهى منهج المفكر الوجودى وأداته، وهى سراطه السوى الذى لا يحيد عنه فى تقصى الوجود الإنسانى وفك مغاليقه. يمكن أن نعرف الفينومينولوجيا بأنها علم ” الذاتى “.. التحليل الوصفى للعملية الذاتية.. تحليل الأشياء كما تتمثل فى الوعى الإنسانى وتتراءى له وتتبدى فيه. ليس الوعى بالنسبة إلى العالم الفينومينولوجى وعاء غامضا يحوى التمثلات، أو إناء سلبيا يحمل الخبرات، بل هو فعل قصدى intentional بكل معنى الكلمة.. عملية وصل الذات أو ربطها بالموضوع .. ذات تراود موضوعا وتقصده وتعنيه وتلتحم به التحاما وإن يكون حرا. ومادام الوعى الإنسانى عملية قصدية فكل فعل بشرى هو شيء مدفوع، ولكنه مدفوع من الداخل، يحدده الشخص ذاته بحرية تامة فى ضوء ما ينتقيه من الأشياء ويراه ذا بال وقيمة. هذه القصدية فى الكائن البشرى هى التى يشكل بها واقعه ويصوغ بها ماضيه ويؤسس بها مستقبله ويومه وساعته التى هو فيها.
أراد هوسرل من منهجه الفينومينولوجى أن يرفع الفلسفة إلى مستوى العلوم الدقيقة، بأن يجعلها دراسة للمعانى والماهيات الخالصة ومجالها الشعور الخالص المطلق الذى فيه يمكن البحث عن الأصول الأولية لكل الظواهر. فظاهرة اللون أو الصوت أو غيرهما لها فى الشعور الخالص ماهية أصيلة. والهدف الأول للفينومينولوجا هو استعادة حقيقة الموضوع الذى للظواهر بدلا من إرجاعها أو حلها إلى ظواهر نفسية كما فعل علم النفس فى أواخر القرن الماضى. لا يفرق المنهج الفينومينولوجى بين خارج وداخل فى الموجود أى بين مظهر يبدو عليه ونستطيع أن نلاحظه وبين طبيعة باطنة تستتر وراء هذا المظهر. بل وجود الموجود هو ما يظهر عليه. والمظهر إذن هو حقيقة الشيء الواقعية كلها. وهو نسبى ومطلق معا: نسبى إلى شخص يظهر له، ومطلق من حيث إنه لا يحيل إلى شيء آخر وراءه. فحقيقة الظاهرة حقيقة مطلقة تنكشف كما تظهر[2]
وصفوة القول أن الوعى دائما متوجة متعد. الوعى هو دائما وعى بـ. الوعى فعل قصدى فى الصميم. الوعى متورط فى مجابهة الوجود وعلى اتصال مباشر بالعالم، وما يظهر على شاشة الوعى هو حقيقى وليس مجرد مظهر أو تحريف.
للفكر الوجودى جذور ضاربة فى عمق التاريخ. فالملامح الوجودية لا تخفى على من ينظر إلى فكر سقراط وسابقيه، والقديس أوغسطين، والحلاج، ودانتي، وبسكال، وبعض الرومانتيكيين الألمان. وصولا إلى أواسط القرن التاسع عشر حيث بدأت النبرة الوجودية تعلو وتتحدد. نتبينها فى بعض أعمال دوستويفسكى إذ يشرح الآثار الاستلابية لعصر التقدم الصناعى المفتون بالنزعة العلمية المتطرفة scientism ، ويصدع بالحرية والمسئولية فى وجه المجتمع الكتلى المتشرب بالامتثالية الاجتماعية والفلسفة الطبيعية العلمية. وتبلغ النغمة الوجودية ذروة عالية فى كتابات المفكر الألمانى فردريك نيتشه الذى التقت فيه ملكات الفيلسوف والشاعر وعالم النفس فى أصفى صورها وأسماها، وحمل حملة شعواء ضد الزيف المتوطن فى هذا العصر الحديث وأهله الذين استمرءوا الأفكار الاتفاقية والرضا الذاتى وزين لهم خداع النفس أن يعيشوا فى عالم منقسم يعانى صدعا متفاقما بين المثال والواقع، بين اليقين والإلحاد.
أما المؤسس الحقيقى للوجودية المعاصرة فهو المفكر الدانماركى سورين كيركجارد الذى توفى عام 1855 بعد حياة قصيرة براقة تاركا تراثا مكتنزا فى الأدب الموقظ والفلسفة الجادة والفكر الدينى العميق. وما يزال فكره السيكولوجى معينا ثريا وثورة علمية لا تخمد. قام كيركجارد فى كتابة المبكر ” إما – أو ” بتحليل مبدأ اللذة كما يتمثل فى الحياة اليومية للفرد، والحافز الشبقى المتوارى خلف عديد من مظاهر السلوك، وآليات خداع النفس والأوضاع الدفاعية والدوافع الخفية. كل أولئك يضعه بين علماء سيكولوجيا الأعماق موضعا متقدما سابقا لزمنه سبقا مدهشا. ولديه فى التحليل الذاتى ارتيادات تكشف أنه امتلك فهما إكلينيكيا لأزمة الهوية وللآليات اللاشعورية للضمير. تمدنا هذه التحليلات الذاتية أيضا بإطار لفهم الدفاعات والمتلازمات العصابية.
فى تحليله للسأم على سبيل المثال يميز كيركجارد بين نوعين منه:
الأول هو السأم القصدى (المتعدي) أى ملال المرء من موضوع معين أو حدث محدد أو شخص يجالسه. وهو ظاهرة سطحية لا تعبر عن موقف المرء الجوهري. إنه صنف هين من الملل له وجاهته وله علاجه الفورى الناجح. أما النوع الثانى فهو الملال الحقيقى البحت (اللازم).. ملال المرء من نفسه، وإحساسه بفراغ رهيب غريب يهدد الحياة نفسها بفقد معناها. إنه وعكة روحية أو هستريا روحية تجبه المرء بهاوية من الخواء وانعدام المعني. والعجيب أن المرء فى الأغلب ينكر حالته المرضية هذه و يندفع لا شعوريا إلى مداراتها بشتى ألوان النشاط الكاذب، وإلى التهرب من نفسه بشتى ضروب التلهى والتعلل والتسلى. إنها تلهيات خائبة توفر هجوما مؤقتا للسأم لكى لا يلبث أن ينهض أوفر صحة وأشد عرامة. إنه دوران فى المحل لن يؤدى إلى شيء اللهم إلا المزيد من السأم. إنه نشاط بائس يائس أشبه بتشنج الذبيح. نجد نموذجه الأمثل فى نيرون الذى تفنن فى الملذات بدافع السأم، وأحرق روما بدافع السأم. غير أنه نموذج يشملنا جميعا ولا يغنينا; فكلنا نيرون، لحمه من لحمنا وعظمه من عظمنا. ولن يكون للمرء مخرج من هذه الدائرة الأكولة إلا بالتوجه إلى باطنه (الاستبطان) لاكتشاف ذاته الحقيقية واستردادها، والعلو إلى الجد والوجدان والحرية والالتزام واتخاذ القرار. فبهذه النقلة فقط يكون بوسع المرء أن يلم شتاته ويجمع ذاته المتناثرة فى الوجود ويصبح ذاتا متكاملة موحدة. فالتكامل عملية لا حالة.. سعى وكدح، والتكامل ينجز ولا يوهب. والذات لا تحقق تكاملها ووحدتها إلا بالاختيار الحر. فالاختيار يقتضى الحرية وإما – أو. وفى هذا يكمن الكنز الأكبر الذى يمكن للمرء امتلاكه. إنه الغنى الخالص الذى يجعل المرء غير مدين لغيره، ويجعله أغنى من العالم بأسره. أن يكون المرء نفسه.. أن يختار نفسه.. أن يسترد نفسه، ” ذلك هو الكنز المخبوء داخل المرء، فهناك إما / أو يجعل الإنسان أعظم من الملائكة”.
ويعود كيركجارد فى كتابات عديدة إلى تحليل السأم والقلق والتردد والعبث والالتزام وعدم الالتزام. وقد دأب فى كتاباته على أن يقارب الحقيقة الإنسانية فى صورتها الفردية الشخصية وأن ينأى عن الحديث بصيغه المجرد أو الإنسان العام. كان دائم القول “وجودي” – بكل ما تعنيه الصيغة من خصوصية وتعين وتفرد. وقد بلغ منهجه الاستبطانى غاية العمق فى كتابه “من المرض إلى الموت” الذى يقدم فيه تحليلا وجوديا بارعا للاكتئاب ما يزال يطبق على نطاق واسع فى مجال العلاج النفسى الوجودي. ورغم أن علاجه الخاص كان مؤسسا على الخبرة الدينية ومعاينة نفس خالدة فإن استبصاراته الإكلينيكية المتعلقة باليأس وعذاباته يمكن أن تتحول إلى استراتيجية علاجية ذات توجه طبيعي.
إن توكيد كيركجارد على أولوية الوجود والذاتية والنمو الشخصى والحدود الانسانية يجعل منه أبا ومعلما لجميع المفكرين الوجوديين فى القرن العشرين. وتبقى رائعته الكبرى هى سيرته الشخصية ذاتها وطريقته الرواقية فى مواجهة مصيره المعقد يورثها للأجيال من بعده ثروه نفسية وذهنية لا تنفذ.” لقد مات، فى نظر المؤرخ، بعلة قاتلة. ومات، فى نظر الشاعر، من شوقه الملتهب إلى الأبدية “.
تأصلت أفكار كيركجارد بعمق فى تأملات عدد من الكتاب الفرنسيين والألمان فى النصف الأول من هذا القرن وربما بعد ذلك. فقد اجتذب جبرييل مارسيل الأنظار فى الأوساط السيكولوجية والطبنفسية باستبصاراته الإنسانية الثاقبة فى عدد من المسائل الوجودية. وترك تأملات عميقة فى الموقف الإنساني، وفى الجسد بوصفه صلة الانسان بالوجود، وفى البنوة والولاء الإبداعى والانتحار.
ومايزال توكيده على البينذاتى وعلى المشاركة يتجاوب مع اهتمامات المعالجين الوجوديين حتى اليوم. شارك مارسيل فى الوجودية، شأنه شأن سارتر، بأدبه المسرحى الذى يساعد على انتشار الوجودية بين سواد الناس، مما أفادها فى الذيوع وإن أساء لها من جانب التلقى السطحى المعهود لدى عامة الجمهور.”على أن لمارسيل فضلا بارزا فى تحليلاته الفلسفية الدقيقة، خاصة فى كتابه” يوميات ميتافيزيقية ”
وفى عنايته بمسألة الملك والوجود، وتميزه بين كليهما ورفعه الوجود فوق الملك[3]
ولعل إلبير كامى وجان بول سارتر هما أعرض الوجوديين شهرة وأبعدهم صيتا. والحق أن كامى لا يعد وجوديا بالمعنى الدقيق إلا فى كتاباته الأولى. ويعتبر كتابه ” أسطورة سيزيف ” ارتيادا سيكولوجيا هاما. يرتكز فكر كامى على مفهومى اللامعقول والثورة. وهو يشبه الإنسان فى الحياة بسيزيف الذى عاقبته الآلهة بحمل الصخرة الثقيلة إلى قمة جبل ما يكاد يبلغها حتى تسقط ويكون عليه أن يعيد الكرة إلى غير نهاية. وقد كان يطيب الأمر لو أن الفتى حجر مثل أحماله، ولكنه للأسف محكوم بالوعى أو الشعور الذى يسومه سوء العذاب كلما خلا إلى نفسه وتجلى له العبث وأطبق عليه : إنه يعمل كل يوم نفس العمل ويكرر نفس المشهد، وهو يعمل ليقتات ليعمل، إلى غير نهاية اللهم إلا الموت. إنه سيناريو لا معقول ونهاية لا معقولة لكل موجود.
وقد اشتهر سارتر بتعدد الملكات، فهو كاتب قصة ورواية ومسرحية وسيرة ذاتية ونقد أدبى ونصوص فلسفية. فى عام 1943 وضع سارتر سفرا ضخما عويصا هو الوجود والعدم كان له ومايزال تأثير عظيم فى مجال الطب النفسى الوجودي. وربما يقرأ هذا العمل لتحليلاته النفسية أكثر مما يقرأ لتأملاته الأنطولوجية. أخذ سارتر عن هيدجر التيمات الكبرى فى الوجودية فصاغها صياغة جذابة فتنت العامة والخاصة. وله نظرات فينومينولوجية رائعة فى الجسد والجنسية والرغبة والسادية والمازوكية والمواقف العدائية والدفاعات العصابية التى يسميها mauvais foi وفوق كل ذلك تحليلاته الشاملة الوافية للحرية والمسئولية.
لا تفهم الوجودية existentialism إلا بنقيضها: الماهوية essentialism فالمقولة الرئيسية التى تنسب لسارتر “الوجود يسبق الماهية” لا تفهم حق الفهم إلا بنقيضها “الماهية يسبق الوجود”. لقد كانت الفلسفات الكبرى فى التاريخ فلسفة ماهياتessences [4] بمعنى أن للإنسان طبيعة وماهية سابقة على وجوده تطبعه بطابعها وتقولبه بقالبها، كما أن فكرة التمثال فى خيال المثال تسبق عملية نحت التمثال وتشكليه وتصميم المبنى فى مخطط المهندس يسبق بناءه وتنفيذه. الإنسان الفرد إذن إن هو إلا نسخه جزئية لمثال كلى مسبق أو نموذج قبلى عام هو الطبيعة الإنسانية التى تشمل كل أفراد البشر. فجاء سارتر ليعكس الآية ويقول: بل الوجود هو الأصل وهو السابق. فالإنسان يوجد أولا ثم يحدد بعد ذلك. وليس هناك طبيعة إنسانية موجودة سلفا أو ماهية مسبقة تفرض نفسها على الإنسان وتصبه فى قالبها ضربة لازب، بل الإنسان هو الذى يخلق ماهيته وصورته. فالإنسان فى أول وثبته نحو الوجود ليس شيئا. لقد قذف به إلى عالم غير مكترث فهو فى وضع مستيئس وعليه أن يختار ويفعل دون أية مرجعية. إنه يوجد أولا غير محدد بصفة ثم يغمد نفسه فى المستقبل ويبرأ ماهيته بنفسه عن طريق اختياراته ومقاصده وأفعاله التى يؤديها عن حرية هى نظير المخاطرة، لأنه يؤديها دون أية قاعدة مسبقة ودون أية ضمانات. إنه ينحت هويته كل لحظة ويضع تعريفه ويخترع طريقته فى الوجود. إنه مشروع دائم يظل يتحقق ولا يكتمل إلا بالموت.
الإنسان إذن كائن” محكوم عليه بالحرية” condemned to be free يمارسها عن طريق اختيارات يقوم بها فى كل لحظة. فالاختيار حتم. حتى عدم الاختيار هو نوع من الاختيار أو هو اختيار مقنع. ومادام الإنسان حرا مختارا فهو مسئول عم وجوده وعما يكون عليه. المسئولية هى توأم الحرية. وهذه المسئولية ليست وقفا عليه بوصفه فردا بل تمتد لتشمل الناس جميعا فالإنسان يختار للآخرين فيما يختار لنفسه ويفعل للآخرين فيما يفعل، لأنه باختياره وفعله هذين يرسم الإنسان كما يرى أن يكون، ويدس ” القيم ” فى قلب العالم وبتشكيله لصورته يشكل فى نفس الوقت صورة الإنسان بعامة. وحين يختار قيمة أو فعلا ما فإن ما يأتيه يمس الآخرين بالضرورة وينعكس عليهم. المسئولية إذن باهظة ثقيلة لأنها تمس الناس جميعا. ومن ثم ترتبط الحرية والفعل الحر دائما بالكرب والقلق. “القلق دوار الحرية”. وهو مما ينزغ للإنسان أن يضع عن كاهله عبء الحرية والمسئولية، وأن يخفض نفسه من مرتبة الوجود لذاته being – for – itself الوجود الإنسانى الحر الواعى بذاته – إلى مرتبة الوجود فى ذاته being – in – itself وجود العجماوات والجمادات الغارقة فى سبات الضرورة وسكينتها.
هذا النزغ هو الذى يسميه سارتر mauvais – foi وهو لون من خداع النفس يزين للإنسان العبودية والاستسلام باعتباره مسيرا غير مخير، وضحية قوى بيولوجية وتاريخية واجتماعية حتمية قاهرة ليس له فيها يد، وكأنه مجرد شيء من الأشياء أو موضوع object من الموضوعات. ويمعن سارتر فى توكيد الحرية إلى أقصى مدي. فيقول إن الإنسان إذ يتمتع بالوعى الذاتي، فإن بإمكانه أن يعى حتى أسباب فعله ومحددات سلوكه، وهو خلال هذا الوعى الانعكاسى يقف على دوافعه ويراها ومن ثم يتملك زمامها ويصبح حرا إزاءها وفى حل من اتباعها. إن الكائن البشرى محكوم عليه أن يوجد خارج ماهيته وخارج دوافعه وأسبابه.
يقول سارتر إن هذا ليس تشاؤما بل هو الوضوح والصرامة المتفائلة، والعزوف عن التعامى والتعتيم على النفس التماسا للسكينة الرخيصة والأمل الكاذب. فالفكر ليس عبدا يخدم على أهوائنا ويعمل على راحتنا واسترخائنا. بل هو وظيفة بشرية تتعلق بتعرف الحقيقة كما هى وإماطة الوهم كيفما كان.
والحقيقة هى أن مصير الإنسان قابع داخل نفسه، ومن ثم فالشيء الوحيد الذى يمكن الإنسان أن يعيش حياة جديرة باسمها هو الفعل الحر والالتزام المسئول.
إذا انتقلنا الآن من فكر سارتر إلى متضمناته السيكولوجية أمكننا القول إن النظام الاعتقادى للمعالج النفسى (فلسفته) وتصوره لطبيعة البشر – من حيث هو تصور “وجودي”أو “ما هوى “- يؤدى بالضرورة إلى تباين بعيد فى تعريف السيكوباثولوجيا وفى تصنيف الشخص المتعين أمامه من حيث الصحة والمرض، وبالتالى فى اختيار التدخلات العلاجية الأنسب. ” لا فكاك من الفلسفة” قالها المعلم الأول قديما، وها هى تفرض نفسها فى سياق الحديث عن العلاج النفسى : إن المعالج النفسى غير المستنير فلسفيا هو معالج ناقص بل خطر. وربما يؤذى من حيث يريد أن يصلح، ويهدم من حيث يريد أن يبنى.
ويعد موريس ميرلوبونتي، المتوفى عام 1961، آخر الفلاسفة الوجوديين الكبار فى فرنسا. وهو مدين لفكر هوسرل وهيدجر شأنه فى ذلك شأن سارتر نفسه. تلقى ميرلوبونتى تدريبا سيكولوجيا ودرس السيكوباثولوجيا والتحليل النفسى دراسة جادة. وكان لعمله المبكر “فينومينولوجيا الإدراك” أثر بعيد فى الطب النفسى والنظرية النفسجسمية. وفيه يقدم تحليلا عميقا للإدراك ولدور ما أسماه “الذات الجسمية”. يرى ميولوبونتى أن الجسم الحى يتميز بالخصائص التى نسبها الفلاسفة الأوائل للخبرة وللوجود. وهو يتصور الجسم ليس فقط بالطريقة التى يتصورها الفسيولوجيون، ولكن أيضا بوصف أن الجسم يقصد وظيفيا إلى أحداث خارجية مرتبطة. وكان ميولوبونتى على دراية كبيرة بحالات عطب الدماغ وسيكوباثولوجيتها، ومشكلات التحليل النفسي. وهو يتحدث فى كتابته باللغة الإكلينيكية للطبيب النفسى محتفظا فى نفس الوقت بوضعه كفيلسوف حرفى قدير.
كان أول الأساتذة الألمان استجابة لرسالة كيركجارد هو كارل ياسبرز الطبيب النفسى والفيلسوف الذى توفى عام 1969 بعد حياة أكاديمية طويلة ومجيدة. أمضى ياسبرز سبع سنوات فقط فى مجال الطب النفسى الإكلينيكى فى هيدلبرج قبل أن يلتحق بقسم الفلسفة. غير أنه تمكن خلال هذه السنوات القليلة من وضع كتاب “علم السيكوباثولوجيا العام” الذى كان وما يزال ذا مكانة مرموقة وتأثير هائل فى حقل الطب النفسي. وعجيب الأمر أن هذا الكتاب، رغم نهجه الفينومينولوجي، لم تشبه شائبة من فلسفة الوجود عند ياسبرز التى استغرقته بعد ذلك وأهلته للتأثير الكبير فى الفكر الوجودى كان تركيز ياسبرز الفيلسوف منصبا على الإنسان الوجودي: عالمه، مواقفه الحدية، لقائه بالحقيقة، بحثه عن حدود المنهج والنظرية، ممكناته الترنسندنتالية. كان ياسبرز عقلا متينا يحذر من اختزال الإنسان إلى نظرية، ويحذر أكثر من ذلك من تشييئه عن طريق الاستلاب التكنولوجي. وسوف تظل أعماله محتفظة بقوة باقية وشباب دائم، وستبقى العلوم الإنسانية كلها مشغولة بنظراته وتساؤلاته، وفى حوار لا ينقطع مع فكره العميق النافذ.
لا يكاد يبرأ مفكر وجودى معاصر، من الذين ذكرنا أسماءهم أو لم نذكر، من أثر كبير أو صغير لفكر الفيلسوف الألمانى مارتن هيدجر الذى كتب عام 1927 تحفته الكبرى ” الوجود والزمان” فكان له السيادة والريادة على الفكر الوجودى غير مدافع. ويعد كتابه بحق إنجيل المدرسة الوجودية بأسرها. دفع هيدجر فى كتابه الوعر بكنز طائل من الأفكار والمصطلحات الجديدة صار بعضها من الرواسم الشائعة والتيمات الرائجة فى الكتابة الحديثة.
انتهج هيدجر المنهج الفينومينولوجى فأسس فلسفة فى الوجود الكلى أو الأنطولوجيا تقوم على تحليل الوجود المتعين المفرد Dasein بوصفه دخلا لمبحث الكينونة ذاتها مختطا بها ومشتركا معها فى الحدود. وأول ما يتصف به هذا الوجود المتعين المفرد هو ” الوجود – فى – العالم ” هذا هو القوام الوجودى الأساسى للكائن البشري. يجب أن نفهم الوجود – فى العالم كظاهرة واحدة غير مجزأة. فالوجود الإنسانى ليس راقدا فى العالم رقود حصاة على الشاطيء، ولا هو سابح فيه سبح سمكة فى البحر. بل هو معطى فى سياق العالم.. مخلوط بالعالم[5] بحيث يجد فى متناولة الأشياء التى يستطيع أن يتناولها ويتخذها أدوات، ويجد نفسه فى ذات الوقت محددا بالأشياء التى يجب أن يعانى منها. المكانية spatiality إذن شيء مستمد من الحالة الأولية للوجود – فى – العالم. يترتب على هذا القوام الأساسى للكائن الإنسانى نتائج بعيدة الأثر، أهمها انتفاء الثنائية التقليدية بين الذات والموضوع، تلك الثنائية التى استهلها أفلاطون وعمقها ديكارت وكرسها تكريسا نهائيا فبقيت صدعا فى الفكر الغربى وعائقا عطل علم النفس والطب النفسى قرونا عدة لقد حل هذا القوام الجديد الوجود – فى – العالم محل النماذج المغلقة للذهن جميعا، سواء نماذج الذاتية المحضة أو أو نموذج الصندوق المغلق ذى المدخل input والمخرجout put أو نموذج الذهن الداخلى المطبوع بتمثلات لما هو قائم بالخارج. الوجود الإنسانى إذن ممزوج بعالم مضروب به! بحيث إن هناك عنصرا من العالم داخلا فى صميم وجودنا. آفاق بلادنا.. مساكننا.. مناظرنا الطبيعية – هى نحن. وما الطبيعة والأشياء القائمة هناك إلا أفكار بعدية لاحقة تأتى بعد حضورنا المباشر داخل العالم وتلحق عليه.
ويتصف الوجود الإنسانى أيضا بأنه انبثاق وصيرورة becoming . فالإمكان هو جوهر الوجود الإنساني. فما الإنسان على الحقيقة إلا ممكناته. الإنسان مشروع نفسه باستمرار. ومن ثم فالمستقبل هو اللحظة الجوهرية فى وجوده. أن يعيش المرء يعنى أن يتولى امتلاك مشروع وجوده الخاص، أن يكون مشدودا بهدف مستقبلى هو الذى يملى عليه ما يفعله هنا والآن، أن يعى ذاته لا بما كانه أو بما هو عليه، بل بما يمكن أن يكونه.. أن ينطلق فى اتجاه نفسه الحقيقية.. أن يعلو على ذاته.. أن يتخطاها إلى أقصى ما تسمح ممكنات وجوده. هذا البعد الوجودى هو ما يسميه هيدجر العلو أو التجاوز transcendence.
لكن الإنسان لا يعيش فقط فى عالم الأشياء أو البيئة أو العالم المحيط Umwelt فهناك أيضا “الآخرون” والمطالب اليومية الملحة والأحوال اليومية والرفاق اليوميون هؤلاء يحومون حول حياة المرء بمثل ما هو يحوم حول حياتهم.. شبكة من التبعثر والتفكك، وتعثر الجوهرى باللاجوهري. الوجود – فى – العالم إذن هو أيضا وجود – مع – الغير. ومن شأن هذا الوجود – مع Mitwelt أن ينزل بالإنسان إلى حياة زائفة يومية متشابهة. فالإنسان الذى ينغمس بكليته فى حياة الناس ويدفن ذاته فى حشدهم وجزئياتهم لن يسعه إلا أن يعمل كما يعملون ويفكر كما يفكرون ويسلك كما يسلكون ويثرثر كما يثرثرون. فيصبح نسخة من كائن بلا اسم هو الناس، وبذلك يخسر فردانيته وأصالته ويتحول إلى شيء بين أشياء وأداة وسط أدوات، ويقع فى الابتذال والتشتت، ويسقط فى الوجود الزائف inauthentic ، وجود المجاراة والمسايرة والامتثال واللاوجه واللاإسم anonymity ذلك هو البعد الوجودى السلبى الذى يسميه هيدجر ” الخسران”.
ولكن لماذا يسقط الإنسان هذا السقوط ويقضى على حقيقة ذاته؟ إنه يفعل ذلك فرارا من نفسه ومن العدم الذى يحاصره. فالعدم داخل فى نسيج الوجود دخول السدى فى اللحمة: نراه فى خبره السأم (السأم لا من شيء بعينه بل السأم الشامل المطبق). ونراه فى خبرة القلق (لا الخوف من شيء محدد بل القلق الصميم النهائى الناجم من شعورنا بأننا نحن وكل الأشياء والأحياء قد انزلقنا فى هاوية غامضة غير محددة). ونراه فى كل فعل من أفعال الوجود لأن كل فعل يستلزم اختيار وجه واحد من أوجه الممكن ونبذ سائر الممكنات، فهو يحمل معنى العدم ويستلزم العدم ويفرزه. ولهذا لا بد للإنسان أن يعيش فى القلق لكى ينتبه إلى حقيقة الوجود. ذلك أن الإنسان بطبعه يميل إلى الفرار من وجه العدم الماثل فى صميم الوجود، وذلك بالسقوط بين الناس والتردى فى الحياة اليومية الزائفة. ولكى يعود إلى ذاته لا بد له من قلق كبير يوقظه من سباته.
وليس أدعى إلى القلق من تلك الحقيقة التى تقف للإنسان بالمرصاد وتحول دون استمرار تحقيق ممكناته : حقيقة الموت. إن الوجود الإنسانى هو وجود للموت. وجود متجه نحو الموت. فبمجرد أن يولد الإنسان يكون ناضجا للموت، وكل حى يحمل جرثومة موته بين جوانحه منذ اللحظة الأولى. ولكن الناس يوهمون أنفسهم بالفرار من الموت ويتعامون عن حقيقته رغم أن فيها يتم الشعور بالفردية إلى أقصى درجة. فكل محتضر يموت وحده ولا يسع أحدا أن يموت نيابة عنه. فالموت هو الحادثة الوحيدة فى حياة الإنسان التى هى خاصة به بشكل فريد مطلق. وفى هذا القلق أعلى ما يكشف عن الوجود الذاتى الحق، وفيه ما ينتشل الإنسان من الخسران اليومى ويرده إلى الوجود الأصيل يرده إلى نفسه. إن الموت هو أصدق الممكنات الإنسانية وأكثرها جوهرية وأصالة. وليست هذه فلسفة تشاؤمية بل هى بالأحرى مذكر حى بأهمية العيش ذاته وجديته، ونفاسة كل آنة من آنات الحياة. فالعزيمة هى الثمرة الطبيعية للوجود للموت تكرسنا لوجود أصيل، وتحملنا على أن نعرف قيمة وجودنا ونأخذه مأخذ الجد، وأن نسعى ملء الممكن ونعيش ملء اللحظة.
هذه هى خلاصة فكر هيدجر. نقبلها ونستضيء بها. ونشفع مفهومه للخسران باستدراك واجب هو أن هيدجر لم ينف أبدا أن “الوجود – مع” هو وجه من وجوه الوجود وشكل من أشكال عالم المرء، هو الذى يمده بأسباب العيش ويقدم له الأدوات التى يحقق بها ممكناته، حين يتعايش مع الآخرين بانفتاح وحضور متبادل لوجود تجاه وجود، فى عالم اللقاء الأصيل الصادق وجها لوجه. ولن يتاح للإنسان أن يكتشف ممكناته ويحققها إلا فى هذا العالم وبه.. عالم المعية والمشاركة والتعايش.
ليس هذا دفاعا عن هيدجر بل هو استدراك موجه إلى القاريء. فالحق أن فكر هيدجر عسير حلزونى لا يفهم إلا فى كليته وتمامه، بحيث أن جل مصطلحاته وركائزه تفقد معناها إن هى أخذت على حدة، ولا تتحلى بالمعنى إلا فى سياق المذهب الكلى وإطاره. أى أنها مصطلحات محملة بالنظرية مشحونه بها theory – laden وقد يطيب لبعض المتشدقين أن يتهم السيكولوجيا الوجودية بالأناوحدية solipsism أى النظر إلى الفرد باعتباره متقوقعا فى عالم نفسه ساقطا فى بئر ذاته لا يدرى شيئا عن عالم الفرد الآخر. فالذاتية فى الفكر الوجودى لا تنفى البينذاتية بل تكملها وتقومها وتعيدها إلى نصابها الصحيح، والانفتاح الحقيقى المتبادل بين الذوات يجعل الظواهر الواحدة تشع وتفيض بنفس الأثر والمعنى على الجميع. فالوجود الإنسانى ليس كهفا وليس قوقعا. إنه دائما مشاركة العالم مع الذوات الأخري. ولن تكون هذه مشاركة حقيقية إلا بين ذوات حقيقية تعيش وجودا أصيلا، لا مجرد كتل هلامية بلا اسم ولا هوية، عبثا تلتئم وتنصهر دفعا للسأم وهروبا من الحرية ورعبا من الوحدة الصميمة وتعاميا عن حقيقة الوجود.
كان لنشوء المدرسة الفينومينولوجية فى علم النفس أثره فى بزوغ المدخل الوجودي، من حيث إن المنهج الفينومينولوجى هو المنهج الذى يتمسك به جميع المعالجين الوجوديين. وتتماهى الفينومينولوجيا أيضا مع مدرسة الجشطلت ومع الدراسات الحديثة للإدراك. وتعمد الطريقة الفينومينولوجية إلى الانخراط فى وصف الظواهر السيكولوجية وصفا مفصلا مستنفذا مع وقف الفروض التفسيرية فى ذات الوقت وتنحيتها جانبا، وإلى وصف الخبرة بلغة الخبرة، وتفسير الخبرة بلغة الخبرة. ولغة الخبرة فيها من العيانية والألفة أكثر مما فيها من التجريد والرطانة. لا تسعى الفينومينولوجيا إلى تفتيت الظاهرة إلى عناصر وأشلاء بل تنصرف إلى فهم الخبرة كما تتراءى مباشرة على شاشة الوعي. إن خبرات مثل القلق واليأس والحب والحرية والمسئولية والرعب والدهشة والقرار – من المستحيل أن تقاس كميا أو تختبر معمليا. إنها ببساطة توجد وتمثل. ولا سبيل إلى فهمها إلا كما تنوجد وتتمثل، ولا إلى تحليلها وتفسيرها إلا فى أسلوبها الخاص فى الحضور والتجلي. وقد طبق المنهج الفينومينولوجى أخيرا فى علم النفس الاجتماعى وفى علم نفس الشخصية. وقد أفاد أولبورت وماسلو وروجرز وستراوس وبنسفانجر من النهج الفينومينولوجي، وغدت السيكولوجيا المشربة بالتوجه الوجودى هى بحق القوة الثالثة، كبديل أقوم لكل من النموذج الفرويدى و النموذج السلوكي.
وبين كل هؤلاء يستحق السويسرى لودفيج بنسفانجر وقفة خاصة. كان بنسفانجر طبيبا نفسيا وأستاذا وفيلسوفا توفى عام 1966، ويعد نموذجا للممارس الإكلينيكى الوجودى فى أكمل صوره، ومؤسسا للفكر السيكولوجى الوجودى من خلال محاضراته وكتبه ومقالاته وإدارته لمستشفى عقلي. كما يعد بنسفانجر أدق شارح لفكر هيدجر منذ صدور الوجود والزمان، فقد كان يستخلص المتضمنات السيكولوجية لفكر هيدجر بمساعدة هيدجر نفسه، إذ كانا بجيرة جغرافية. كما تأثر بالفلسفة الفينومينولوجية وباستبطانية كيركجارد وبحوار “أنا وأنت” عند بيوبر، بالإضافة إلى عناصر لا غنى عنها من بلويلر وفرويد.
كان بنسفانجر صديق عمر لفرويد ومحللا نفسيا سويسريا رائدا. ورغم اختلافاته الصريحة مع فرويد فقد بقيت صلتهما حارة حتى النهاية، ولم تنقطع يوما من الأيام كما هو شأن علاقات فرويد بتلاميذه المنشقين. والحق أن أفكار بنسفانجر الوجودية لم تتبلور وتنمو نموا منهجيا منظما إلا بعد وفاة فرويد، رغم أنه كان قد شرع فى تطويرها منذ أوائل الثلاثينيات.
أخذ بنسفانجر عن هيدجر فكرة أن الإنسان كائن زمانى بالدرجة الأساس. وأنه يوجد بقدر مايتوجه إلى المستقبل ويسشرفه. وأنه ينظم حاضره الآنى ويصله بماضيه السالف وفقا لاستشرافه المستقبلى وصلته بالآتي. وقد لاحظ بنسفانجر فى مرضاه أن لب الاضطراب عندهم هو فقدان التوجه والمعنى فى حياتهم. مما يعنى أنهم لم يعودوا على علاقة ذات معنى بالزمن نفسه – لم يعودوا قادرين على ربط أقانيمه الثلاثة، الماضى والحاضر والمستقبل، معا بعناية وانسجام.
أفاض بنسفانجر فى تحليل الوجود الإنسانى بوصفه وجودا – فى – العالم، وتحليل الهموم الإنسانية وتمثلاتها وتحولاتها كما تتبدى فى الحالات المرضية الفردية الحية، ووصلها بعالم المريض فى أشكاله الثلاثة: العالم المحيط (البيئة) والعالم – مع (العالم البينشخصي)، بالإضافة إلى العالم الشخصى الذى أضافه بنسفانجر إضافة رائدة (وهو عالم الذات فى ديمومتها واتساقها وهويتها). ويرى بنسفانجر أن المرض النفسى يأتى من أثر ما يلحق بعالم الفرد من تقلص أو تسطح أو تشويه أو استنفاد. فالمرض هو دائما فقدان يلحق بمحتوى عالم الفرد.. فقدان للغنى والتركب الذى يجب أن تتسم به السياقات المرجعية المرض هو أن يطغى على المرء نمط واحد للعالم ويستنفده تاركا عالمية الآخرين فى جدب وقحل وفاقة.
ويعد رولو ماى مؤسس العلاج الوجودى فى الولايات المتحدة. وكانت طريقته فى البحث امتدادا للنهج الذى بدأه تيليش. وكانت لديه بعض المحاذير والمآخذ على غلو طائفة من الوجوديين وشططهم فى التوكيد على الخبرة المباشرة وخبرة هنا والآن، ذلك الغلو والشطط الذى يتمثل فى الولع الأمريكى الجديد ببوذية زن Zen Boddhism .
يؤكد رولو ماى على مسئولية المريض عن اضطراباته وعما يجرى له فى حياته مسئولية مباشرة، ويحثه على أن يواجه ما يبدو له عوامل حتمية تجبره على التسليم أو الانسحاب وتجنب الحياة. وله فى تيمة القلق إضافة رائدة هامة. يميز رولو ماى بين نوعين أو دورين للقلق : فهناك الدور الصحى الذى يضع يد المرء على مكمن إشكالية فى حياته، وبذلك يفتح له الأبواب أمام إمكانيات الحياة بصورة مختلفة ويدفعه – عن طريق المواجهة والتصدى – إلى مزيد من النمو والإبداع. وهناك دور آخر مرضى للقلق، وهو ما يؤدى بالمرء إلى تجنب هذه الإمكانيات ومحاولة الحياة فى قوقعة آمنة، ويبقى علامة تشير إلى الإمكانيات غير المعايشة وإلى الموت المبكر والوجود الضيق. وقد وجد رولو ماى فى الخمسينيات أن معظم الأفراد يعانون مما أسماه العصاب الوجودى أكثر مما يعانون من الأعصبة التقليدية. والعصاب الوجودى هو فقدان الإحساس بالذات وبالدهشة والشغف والثراء النفسى الداخلي، والعجز عن امتلاك المرء لحياته وأفعاله وعن الاستقلال الذاتى والأصالة، وعن أن يتوفر لديه بصورة مباشرة أساس داخلى ومصدر للأفعال والاختيارات. ونتيجة لهذا الفقدان ينشأ الإحساس بالفراغ والعبث والسأم والجزع واليأس، ويسود إحساس غامر بالضياع والتخبط وفقدان المعنى فى الحياة.
رسم فرنر مندل ستة خطوط هادية يشير كل منها إلى استراتيجية محددة يجب على المعالج النفسى أن يلتزم بها ولا يحيد عنها:
1- عندما نكون بصدد الماضى الخاص بكائن إنسانى بعينه، فإن هذا الماضى يجب أن تعاد كتابته باستمرار. فالماضى كما تسعيده الذاكره لا يمكن أن يستحضر فى صورة كلية تامة دائمة تمثل ما كانه هذا الشخص فى الماضى حقا وصدقا. فحقيقة الأمر أننا جميعا نقوم بمراجعة الماضى وتنقيحه كلما انطلقنا إلى الأمام. ذلك أن الذاكرة نفسها تتكيء فى عملها على الموقف الحاضر وعلى توجهنا واستشرافنا للمستقبل. ومن المعروف فى الدراسات التاريخية الحديثة أن إعادة كتابة التاريخ ومراجعته وتعديله مهمة ضرورية تقع على عاتق كل جيل من الأجيال. وليس التاريخ الشخصى من ذلك ببعيد ; فهو أيضا تلزمه المراجعة الدائمة من أجل تحصيل المادة ذات الصلة أى تجميع صورة الماضى التى تعنينا فى الحاضر.
2- يجب أن تكون لنا وقفة عند المستقبل كتاريخ فى ذاته. فالمستقبل له ضغطه ونفوذه على توجه المريض، وله أثره الحاسم فى مآل العلاج. يجب أن يظل المستقبل نصب عين المريض فى خططه وتوقعاته وأهدافه المختارة.
3- يجب أن نكون متهيئين دائما لتناول المادة الشعورية وتركها تفصح عن نفسها دون حصرها فى صيغ ليست من جنسها أو صبها فى تأويلات غريبة عنها. وبتعبير آخر يجب أن نبقى على موقفنا الفينومينولوجى فى وصف الأعراض والأحداث والخيالات والأحلام. وأن نتقصى المحتوى الظاهر manifest content بصبر ودأب واستنفاد قبل أن نتحول إلى المحتوى الكامن latent content
4- يجب أن نسلم بحقيقة اللقاء العلاجى بين المعالج والمريض وواقعيته، دون أن نرد كل تقلب يعترى العلاقة إلى مظاهر الطرح والطرح المضاد.
5- يجب أن يميز المعالج الوجودى بين ما يقوله الإنسان وما يفعله. فالمرء بفعله. وهو يبث فيه من وجوده أكثر مما يبث فى قوله. ويجب أن يلتفت المعالج أيضا إلى مدى تقارب القول والفعل أو تباعدهما عند المريض فى كل لحظة.
6- القرار والفعل هما عنصران مدمجان فى العملية العلاجية ومكملان لها. ولايصح تسويفهما حتى يتم العمل العلاجي. فالفعل – وليس تأمل الفعل الماضى وتمليه- هو التيمة المركزية للعملية العلاجية الجارية.
وأخيرا على المعالج الوجودى ألا يقع فيما وقع فيه غيره من المعالجين فيعزز الاتهام القائل بأن العلاج المعاصر هو عميل السلطة وسادن الثقافة القائمة والوضع الراهن، إذ يحمل المريض على التوافق مع معايير الجماعة والامتثال لضغوط المجتمع، وينتهكه ويسلبه ذاتيته وأصالته وخبرته لمصلحة النظام الاعتقادى للمعالج. إن المعالج الوجودى هو أول من يناضل ضد تشيييء الإنسان والتلاعب به واستلابه، خاصة إذا كان هذا الإنسان فى مرحلة ضعف وحالة مرض. إن هدفه هو أن يلتقى المريض بنفسه ويخبر وجوده من حيث هو حدود وممكنات، وأن يتقبل القلق والذنب ويبنى عليهما التزاما مسئولا تجاه ممكناته الفريدة.
إن ذاتية الإنسان لتنتهك منذ هو فى المهد وتلجئه إلى خداع النفس. والانتهاك violation هو كل موقف يتعرض فيه تكامله الداخلى للخطر والتفسخ، ويضطر فيه اضطرارا إلى تبنى وجهة نظر الآخر والانصياع لفكره. وهو فى أغلب الأحوال فكر قائم على الهوى الشخصى لهذا الآخر الذى يأبى أن يرد فكره إلى مجرد هوى شخصي، بل يريد أن يفرضه على المرء بالقهر والإرهاب.
كثيرا ما يضطر المرء، لحرصه على إرضاء الآخرين ومعايشتهم وإيثارا للسلامة والعيش الرخي، أن يغضى عن هذا الانتهاك وينفيه من ساحة الشعور ويبقى مستلبا معمى عن ذاته الحقيقية ويتبنى التقية والكتمان والكبت والمسايرة كأسلوب حياة. وترى الوجودية أن الصحة النفسية هى على النقيض التام من ذلك. فالوجود الأصيل authentic being يهتف بالمرء أن يكون شجاعا صريحا يعبر بوضوح وبملء فيه عما يريد وأن يكون نفسه فى كل موقف. وهل تكون ماهية الواقع سوى هذا الصدق والوضوح والخصوصية ؟ وهل تكون حياة التعامى والانتهاك والتقية سوى الزيف والوهم واللاواقع ؟ إن المريض فى المشهد العلاجى مدعو إلى أن يفضى بذات نفسه ويعلن عنها بجسارة ويستكشفها بعمق ويعيها بوضوح. وبخاصة تلك الجوانب التى طمسها الإنكار denial والكبت repression والانتهاك. وهو بذلك يعيد الرابطة المفقودة بين رغباته وأفعاله ومصائره. وهى رابطة لا غنى عنها لتكامل الشخصية ووحدتها وحيويتها وتطورها.
إن الحياة الصالحة هى تلك الحياة التى لا يتم فيها خنق أى جانب من الشخصية أو التضحية به لحساب جانب آخر، بل تجد فيه كل أجزاء الكائن متسعا للنمو. ولا متسع ولا نمو بلا ثمن على المرء أن يدفعه من راحته وأمانه ومن رضا الآخرين.
ولا يتم حديث عن العلاج الوجودى دون ذكر الطبيب النمسوى فيكتور فرانكل مؤسس مدرسة العلاج بالمعنى الوجودى logotherapy ، والذى بنى نظريته العلاجية على علم وافر مضفور بخبرة وجودية عميقة كنزيل بمعسكرات الاعتقال النازية.
يرى فرانكل أن سعى الإنسان إلى البحث عن معنى فى حياته هو قوة دافعية أولية وليس تبريرا ثانويا لحوافزه الغريزية. وإذا كان الإنسان عند سارتر يخترع نفسه ويخلق ماهيته، فإن فرانكل يميل إلى أن معنى وجودنا ليس أمرا نبتدعه ونبرأه بل هو أمر نكتشفه ونستبينه. وقد تتعرض إرادة المعنى عند الإنسان إلى الإحباط وهو ما يعرف باسم الإحباط الوجودي.
عندئذ ينشأ ما يسمى بالعصاب المعنوى noogenic neurosis وهو لون من العصاب يختلف عن العصاب النفسى الشائع psychogenic neurosis فالعصاب المعنوى لا يكمن فى البعد النفسى بل فى البعد العقلى أو الروحي. فهو لا يتولد من الصراعات بين الدوافع والغرائز، وإنما يتولد من الصراعات بين القيم المختلفة. وحين يكون المرض روحيا بالدرجة الأساس يكون العلاج بالعقاقير تحذيرا مضرا، ويكون العلاج التحليلى خلطا خارجا عن الموضوع. إن العلاج بالمعنى يعتبر الإنسان كائنا معنيا فى المقام الأول بتحقيق القيم لا بمجرد إرضاء أهواء وإشباع غرائز، أو مجرد تحقيق تسوية بين المطالب المتصارعة للأنا والهو والأنا الأعلي، أو مجرد التوافق مع المجتمع والتكيف مع البيئة. إن سعى الإنسان إلى تحقيق المعنى والقيم هو أدعى للتوتر والقلق منه للاتزان والسكينة. غير أن هذا التوتر هو بعينه آية الصحة النفسية ودليلها. فالصحة النفسية توتر لا اتزان.. توتر بين ما أنجزه المرء وما لا يزال عليه أن ينجزه.. بين ما هو كائن وما ينبغى أن يكون. ذلك التوتر كامن فى الوجود الإنسانى مضفور فى ماهيته وبالتالى فى صلاحيته وصحته. وبنبغى ألا نتردد فى أن نضع أمام الإنسان تحديات عليه أن يواجهها بما عنده من معان تطالبه أن يحققها. إننا بذلك نستنفر إرادة المعنى فيه من حالة هجوعها. فليس ما يحتاجه الإنسان حقيقة هو حالة اللاتوتر أو التوازن أو الهميوستازيس homeostasis ولكنه بحاجة إلى السعى والكدح فى سبيل هدف يستحق أن يعيش من أجله. فلاشيء يعين الإنسان على البقاء والاستمرار والثبات فى أحلك الظروف مثل معرفته أن هناك معنى فى حياته. يقول نيتشه: ” إن من لديه سبب يعيش من أجله، فإن بمقدوره غالبا أن يتحمل أى شيء فى سبيله، وبمقدوره غالبا أن ينهض بأى شكل من الأشكال “.
وجد فرانكل فى دراسة مسحية إحصائية قام بها تلامذته أن 55% من الأشخاص المستفتين يعانون مما أسماء الفراغ الوجودى existential vacuum وهو مصطلح أدخله فرانكل ويعنى فقدان الفرد للشعور بأن حياته ذات معني. والفراغ الوجودى ظاهرة واسعة الانتشار فى القرن العشرين. ويكشف هذا الفراغ عن نفسه فى حالة الملل. الملل هو آية الفراغ الوجودي. فالفراغ هنا فراغ من المعنى وليس فراغا من المشاغل والتلهيات. ومن المتوقع أن تتفاقم مشكلة الفراغ هذه بدرجة خطيرة على مر الأيام نتيجة التقدم الآلى والتكنولوجى الذى من شأنه أن يطرح فائضا وقتيا رهيبا فى حياة الشخص العادي. ولنا أن نتوقع أعدادا هائلة من البشر لا يعرفون ماذا يفعلون بكل هذا الوقت.
من تمثلات هذا الفراغ الوجودى حالة تعرف باسم عصاب يوم الأحد Sunday neurosis أى عصاب يوم العطلة الأسبوعية ( ولنا أن نسميه فى الشرق العربى عصاب الجمعة) وهو نوع من الاكتئاب والكرب يصيب الأشخاص الذين يصيرون واعين بما ينقص حياتهم من مضمون حينما ينحسر اندفاع الأسبوع المزدحم بالمشاغل، ويصبح الفراغ بداخل نفوسهم جليا مدويا. يعرف هذا اللون من العصاب كل معالج ممارس، ويراه فى صوره الصارخة عند مرضى اضطراب الشخصية البينية borderline personality disorder وهم النماذج المثلى للفراغ الوجودي، إذ تزداد عليهم وطأة الخواء الداخلى يوم العطلة الأسبوعية ويتعرضون للانتكاس والتناثر، وكثيرا ما يتلفنون المعالج متشبثين به مستغيثين من هول الوحدة ومن عضة الفراغ.
ومما يؤثر عن فرانكل توكيده الدائم على أن الوجود الإنسانى تجاوز للذات أكثر مما هو تحقيق لها. وقوله إن الحرية ليست دائما تحررا من الظروف ولكنها اتخاذ موقف إزاء هذه الظروف. وهو قول يذكرنا بقول هيدجر إن الضمير يهيب بالإنسان أن يهرب من العبودية إلى الحرية، وبالفعل نفسه يحول الضرورة التاريخية إلى قرار.
وقد ابتكر فرانكل تقنيات علاجية أهمها ما يسمى النية المفارقة أو القصد المفارق paradoxical intention ، وما يسمى خفض التفكر dereflection وتبقى أهم فنياته وأنجحها هى لمسته الإنسانية المرهفة وحكمته الفلسفية البالغة يبده بها مريضه فى التوقيت السليم فتكون له هدى وشفاء.
خاتمة
تذنب النزعة السيكولوجية psychologism فى حق الإنسان بشكل مؤسف. حين تلوث قيمه العليا، وتدنس ملكاته الإبداعية، وتعمه عن نتاجه وحجته وتنشب فى منشئهما كالعلق، وتغرض منه كل قول وفعل، وترده إلى حزمة من الالتواءات النفسية والتدابير والحيل. وكأن الإنسان لا يشعر ويفكر بل يسوغ ويبرر، ولا يجترح أفعالا بل ردود أفعال، ولا يأتى شيئا أبدا لوجه القيمة
فلا ينشد حقا لوجه الحق
ولا يستبق خيرا لوجه الخير
ولا يخلق جمالا لوجه الجمال
وتأتى الوجودية لكى تردنا نحن المعالجين إلى الإنسان الفرد. وتحملنا على أن نجله ونواكبه ونحسن به الظن، ونلتقيه لقاء حقيقا ونصله صلة أصيلة. وأن نكون – بحرفية وحذق – ضميره الصارخ فيه بملء صمته :
اخرج من كهف الماضى وانفض عنك وهمه
اشدد عليك مستقبلك واجعله إحداثك وارتكازك
من المستقبل تنطلق إلى الحاضر عبر الماضى مشدودا إلى ما ينبغى لا إلى ما أنجزت
كن قلقا إذن كوتر القيثار فما صلاحيتك إلا فى القلق
وما صلاحية الوتر إلا فى الشد
انطلق فى حجتك المقدسة إلى نفسك
مجتزئا بوحدتك.. مشتملا. بممكناتك
كف عن التفكير المكانى البليد.. فأنت ظاهرة زمنية
وقتك هو جوهرك وفحواك وثروتك النهائية
اعرف كيف تصادقه ولا تعاديه
تحييه ولا تقتله
كيف تتعهد فيه ممكناتك إلى أشدها، وتنميها إلى مداها
أو يتلبسك إحساس مقعد بالأثم يماشيك كظلك
وتأخذك غصة وجودية لا تبرحك
وتنظر إلى نفسك بانكسار وخجل نظرة المدين إلى الدائن عليك أن تختار صنف وجودك وفق مشيئتك وممكناتك وأشواق روحك
وألا تتهرب من الاختيار تحت أى شعار
عليك أن تنتشل نفسك من مشيئة الظروف
ومن مشيئة الناس
فالحياة حياتك
والعمر عمرك
والرحلة رحلتك
والوحدة وحدتك
والموت موتك
[1] – استرشدت فى عموم السياق بما ورد عن العلاج الوجودى فى الكتاب الأمريكى فى الطب النفسى American Handbook of psychiatry الذى رأس تحريره سيلفانو أريتى فلزم التنويه
[2] – د. عبد الرحمن بدوى: دراسات فى الفلسفة الوجودية.
[3] – د. عبد الرحمن بدوى: دراسات فى الفلسفة الوجودية.
[4] – الماهية هى ما يقال فى جواب “ماهو؟ وتطلق على المتعقل من الكائن أو الشئ مع قطع النظر عن وجوده الخارجى أو ثبوته فىالخارج فالأمر المتعقل الذى به يكون الانسان انسانا وبدونه يكون شيئا آخر هو أنه حيوان ناطق (عن تعريف الجرجانى) وقد نقل سارتر لفظ الماهية من معناه المنعارف إلى معنى الشخصية او الهوية.
فكل فرد من الأفراد يكون شخسته أو هويته التى هى ماهيته، وبهذا المعنى يكون الوجود سابقا على الماهية المتعارف عليه فهو أ “الوجود لا يدخل قط فى ماهية الأشياء بل هو مضاف إلى الماهية (الغزالى – التهافت).
[5] – تقول مارجورى جرين فى كتابها هيدجر العالم هنا ليس أولا وقبل كل شئ الكون الهائل الممتد بلا نهاية على نحو ما يصوره علم الفلك والفيزياء عند هيدجر ليس هو العالم بألف لام التعريف بل العالم بالمعنى الذى نتحدث به عن عالم الرياضة أى عن مجال مشترك للنشاط والاهتمام أو عالم شكسبير أى العصر والمجتمع الذى يؤثر فى شخصية ما كما يتأثر بها.. ربما لذلك قد قيل ان انطولوجيا هيدجر هى نظرية المجال الوجودى field theory of being