الاهرام: 30-6-2003
محنة الأخلاق
تحكى نكتة مصرية (يقال أنها منذ الملك فاروق!! وفى رواية لى عن نجيب محفوظ أن الملك نفسه هو الذى حكاها!!) أنه أثناء استجواب متهم ضبطت معه قطعة حشيش، سأله الضابط : ‘سين: ما تفسيرك لوجود هذه فى حوزتك’؟. فسارع الحشاش المصرى الظريف وخطف قطعة الحشيش وابتلعها، متصورا أنه بذلك قد أفسد القضية بغياب ‘جسم الجريمة’, إلا أن الضابط ابتسم فى هدوء، وأخرج من جيبه (أو من حرز آخر) قطعة أخرى من الحشيش وراح يكمل التحقيق أنه ‘سين على هذه’.
أنتظر كل يوم خبر تلفيق العثور على أسلحة الدمار فى العراق، ليس أسهل على من زور الوثائق أمام مجلس الأمن، ولا على من أوصى مخابراته بكتابة تقارير ملفقة، أن يدس بعض الجراثيم هنا، أوالكيماويات هناك، ليعثر عليها بعض الخمسة عشر ألف مفتش أمريكى دون مفتشى الأمم المتحدة الذين عجزوا عن أن يسعفوهما بما يبغيان. لا أظن أن السيد بوش وصاحبه بلير سوف يصبران طويلا على انتقادات شعوبهما وبعض نوابهما على عدم عثورهم على أسلحة دمار تبرر ما فعلوا ويفعلون. ومع ذلك فالنكتة المصرية توحى بأنه ما أسهل عليهم أن يبلغوا منتقديهم زورا أنهم عثروا على بغيتهم، ولو بعد حين.
قديما كنا نسمع المثل القائل أن ‘كل شئ جائز فى الحب والحرب ‘ لكن يبدو أن الإنجازات البوشوية البليرية الأخيرة امتدت بفاعلية المثل إلى أن يكون كل شيء جائز فى الحرب، والحب، والسياسة، والتجارة، والإعلام , بل وفى البحث العلمى الذى يسخر بعضه لخدمة شركات الدواء التى لا يقل إسهامها فى الحرب والسياسة عن إسهامها فى تخريب اقتصاد العالم وتعجيز الملايين عن العلاج.
إن الإنسان المعاصر يمر بمحنة أخلاقية لاتقل عن المحنة الاقتصادية والسياسية والتطورية. إن كل هذا القتل والقهر الجاريين مبنيان للأسف على مزاعم ترفع شعارات أخلاقية مثل ‘الشر مقابل الخير’ – أو ‘ حقوق الإنسان مقابل انتهاكها’. إلخ،
إن الأخلاق ليست كلاما يكتب على ورق، ولا هى مواثيق تستعمل من الظاهر، إن الأخلاق فعل حى يمشى على أرجل. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن. لقد امتهنت كلمات الأخلاق حتى أصبح استعمالها عبئا ثقيلا على حقيقتها. مجرد استعمال كلمات ‘الأخلاق’ قد يكون خداعا لا يحقق إلا ضدها،الأخلاق فعل حركى يحقق مسئولية الوجود البشرى إبداعا متوجها نحو هارمونية متصاعدة تتناغم بالعدل لتحقق الجمال المميز للوعى البشرى فى أوج جدله الإيمانى على أرض الواقع .
أخشى ما أخشاه أن نخدع بدورنا – وقد آلت حال الأخلاق عندنا إلى ما آلت إليه – فنكتفى بتدريس مادة بعنوان’التربية الأخلاقية’ بديلا عن ممارسة الأخلاق قدوة تحتذى على كل المستويات.
أخشى أن يتكرر ما قالته إحدى المدرسات لابنتى يوما فى لجنة امتحان ‘حرام عليك، خل عندك رحمة، ما تبقيش أنانية وغششى زميلتك’ أخشى أن يحدث مثل ذلك تماما فى ‘مادة الأخلاق’ المزمع تقرير تدريسها جدا، ثم نقرأ بعد قليل ‘مانشيتا’ يشيد بتحسن أخلاقنا لأن امتحانها جاء من المقرر، و أنه لم ترد للصحف شكوى من صعوبة امتحان مادة الأخلاق، ثم يصدر كتاب من مسئول رسمى يؤكد تحسن أخلاقنا لأن نسبة النجاح فى مادة الأخلاق قد بلغت 89 % فى عام كذا، 92 % فى عام كيت !!!