الاهرام 14/12/2001
محفوظ 90
أنا أحب هذا الرجل حبا جما. أحمد ربى أننى عشت فى عصر أفرزه, وأننى اقتربت, ولو متأخرا, من حضور وعيه مباشرة, وأننى لامست دفء نبضه, وحظيت بسماح إنصاته, واستمعت إلى سديد رأيه. أقر وأعترف أن شيخى هذا, وهو يتم العقد التاسع, أطال الله عمره, ما زال أكثرنا دهشة مما يستجد, وأكثرنا تمثلا لما حدث ويحدث, وهو ما زال أكثرنا أملا فى الغد, مع أنه أكثرنا انجراحا بالظلم, وهو أكثرنا تحملا للغموض, مع أنه أكثرنا وضوحا فى الفكر, كما أنه أكثرنا صبرا على الاختلاف, مع أنه أكثرنا تحديدا فى المواقف.
كيف نجح وينجح فى كل هذا إلا أن يكون قريبا جدا من نفسه, متصالحا فعلا مع منظومات وعيه, ممتدا جدا إلى آفاق ما بعده, حتى وجه الحق سبحانه وتعالى.
حين نال محفوظ جائزة نوبل, كتبت فى الأهرام أن الجائزة قد شرفت بنجيبنا.., وهى تعلن اكتشاف هرم مصرى معاصر, ولا تدعى بناءه, فلنا فضل البناء ولهم فضل الكشف الأخير, ذلك لأننا اكتشفناه كما هو من قديم, لكن كشفهم هذا جاء ليضعه حيث ينبغى عندهم لا عندنا’.
هذه الجائزة , التى لم تنج أبدا من الغمز واللمز بحق وبغير وجه حق , كادت تهتز مصداقيتها هذا العام, سواء بالنسبة لمنحها لنايبول فى الأدب أم لكوفى عنان عن السلام. لم ينتبه كثير ممن أثار الغبار حول الجائزة دون تحفظ إلى أن ما أعطاه نجيب محفوظ للجائزة من مصداقية كان جديرا أن يذكرهم أن مستوى الأدب قبل موضوعه, هو أصل التقييم, وأن عطاء الإبداع قد يتم من خلال ما يطرح من تحديات, وليس فقط بقدر ما ينحاز إلى قيم ظاهرة, وبالرغم من كل ذلك , كان على كل من تناول هذا الرأى أن يذكر ويذكرنا أن نجيب محفوظ كان, وسيظل نجيب محفوظ, يرتفع بكل ما ينتمى إليه ويعطيه شرعيته ومصداقيته, ولا يرفعه أى من ذلك إليه.
بتلك المناسبة (نوبل محفوظ) كنت قد أرسلت اقتراحا في1/11/1998 لرئيس تحرير مجلة فصول (أ.د. عز الدين إسماعيل حينذاك) أقترح عليه أن تناقش المجلة أو الهيئة العامة للكتاب فكرة إصدار دورية نقدية خاصة بأعمال نجيب محفوظ, باعتبارها أعمالا ولادة ملهمة متجددة أبدا, إلا أن شيئا من ذلك لم يتم, مع أن ثمة عملا واحدا (مثل عوليس , جيمس جويس) قد صدرت عنه دورية خاصة لعدد من السنين. الهدية الحقيقية التى يمكن أن نقدمها لأنفسنا وليس لنجيب محفوظ, هو أن نعجل بصدور هذه الدورية التى لن تثرى نقد نجيب محفوظ وحده, بل لعلها تكون عونا للكتاب والنقاد, والقراء, وكل من يهمه أمر إبداع هذا البلد, ومشاركته فى مسيرة الإبداع الضرورية لمواجهة ما يحيق بالبشر كافة فى كل مكان فى العالم.
حين قرأت له مؤخرا (الأهرام 8 نوفمبر 2001) أن أقرب أعماله إليه هى الثلاثية, والحرافيش, وليالى ألف ليلة وليلة غمرتنى طمأنينة الائتناس, فهذه الأعمال هى كذلك بالنسبة لي, حتى أننى جعلت الحرافيش والليالى فى مقدمة ما تناولت من نقد أعماله. الحرافيش بإيقاعها الدورى الحيوى وهى تعرى الخلود وتنبه إلى ما يمكث فى الأرض من خلال الوعى الموضوعى بما هو موت حقا, ثم ألف ليلة وليلة بحضورها الكاشف المخترق لطبقات الذات المتداخلة المتجادلة طول الوقت. حين كنت أناقش معه هذا الذى كتبه مساء نفس اليوم , أضفت حرصى الخاص على وضع ‘حضرة المحترم’, و’حديث الصباح والمساء’, بجوار ما ذكر, فهز رأسه موافقا, وإن كنت تعلمت ألا أقرأ هزة رأسه بنفس المعنى على طول الخط, وكم حاولت أن أميز بين هزة وهزة, رغم أنها كلها تتسم بالطيبة والسماح, لكن لكل هزة معني, ولكل زاوية دلالة.
أملت, وما زلت محتفظا بأملى هذا رغم كل ما نحن فيه, أن يكون محفوظ هذا هو ما يمثل ما هو ‘مصرى’, ومن هو ‘مصرى’ , حقيقة وفعلا’, أملت ألا يكون فلتة زمانه, أملت أن ما قرأته فى أعماله, ثم ما قرأته فى حضور وعيه بيننا, ثم ما قرأته فى رجع وجدانه فينا, ثم ما قرأته فى تنظيم فكره وحدة يقظته لنا , أملت أن يكون كل هذا هو مصر وقد تكثفت بتاريخها ووعودها فى شخصه, وكم طمأننى هذا الأمل حين يحيط بى عكسه (اليأس) من كل جانب.
يا شيخنا العزيز, ما زلت تعلمنا ألا نتوقف وأنت تحافظ على ضوء فجرك يشرق برقا متتاليا فى إبداعاتك الحلمية النقية المكثفة الأخيرة فى فترة نقاهتك الممتدة إلى الشفاء الكامل بإذن الله.
هل نستطيع أن نرد جميلك بأن نكون أهلا لما تأمل أن نكونه ؟
لو نجحنا فى ذلك, ثم نجحت الأجيال بعدنا فى مثل ذلك , لكانت هى الهدية المستمرة التى أتصور أنه لا يرحب بشىء فى الدنيا أثمن منها.
إن المأزق الذى يمر به العالم الآن يحتاج إلى حلول جديدة لم تطرق أبدا , لأن المحن التى يمر بها العالم هى محن جديدة تحمل من الخطر أكبر من كل حسابات البشر.
يا شيخنا الغالي: إننا نحتاج إلى مثل إبداعك لنواجه كل هذه التحديات الجديدة, نحن أحوج ما نكون إلى إبداع غير مسبوق فى كل مجال دون استثناء , من أول مراجعة أساليب ممارسة الحرية السياسية ومزاعم إرساء العدل حتى شجاعة استلهام النصوص المقدسة لتناسب الآن وتصنع الغد القادر على استمرار التطور.
ولن يقدم على مثل هذه الحلول إلا من تعلم منك أن يتجاوزك دون أن ينكر فضلك.
يا شيخنا الغالى , كل عام ونحن قادرون على حمل مسئولية ما حملتنا, كل عام وأنت بيننا أوفر عطاء وأجمل حضورا, وأعمق إبداعا.