الوفد: 28/11/2002
محفوظ: جدل “الممكن/المستحيل”
أرفض: من حيث المبدأ، ومن حيث المنهج، أى كتابة فيها شبهة استعمال مصطلحات تخصصى إسهاما فى الحديث عن شخص أحبه، ناهيك عن هذا الإنسان الجميل الأب الرائع الطيب المعطاء. إن كل ما يستطيعه أى شخص يريد أن يضيف لمحة التقطها من جانب من جوانب حضور محفوظ الشخصى أو الإبداعى هو أن يرصد بعض ما تردد فى وعيه من أصداء شخصيته: مبدعا وجليسا بديعا يكشف لنا أنفسنا والدنيا والمسار والمصير فى إبداعه وفى مجلسه على حد سواء. هو يجلس بيننا يستمع أكثر مما يفتى، ويتساءل أكثر مما يجيب. وحتى مجرد التقاط بعض ما تردد فى وعيى من أصداء شخصيته وإبداعه تبدو لى من أصعب ما يمكن، لذلك قررت -استجابة لطلب رئيس التحرير- أن أكتفى بمحاولة توضـح معنى شائعا، لكنه ملتبس عند معظم الناس، وهو المعنى الذى تمثله تلك الشخصية الجميلة خير تمثيل، أعنى معنى “السهل الممتنع” أو بالتعبير الأكثر تحديا: “الممكن المستحيل”.
كثير ممن يرددون تعبير ”السهل الممتنع” لا يدركون أبعاد مضمونه بقدركاف. إنه تعبير يشير إلى كيف أن الأمر، أو الشخص، الذى قد يبدو سهلا واضحا مباشرا، هو فى نفس الوقت فريد نوعه بحيث لا يمكن أن يتكرر، كما يستحيل أن يقلد. قد نستعمل هذا التعبير بسطحية عابرة، وقد يعنى معنى شديد العمق من حيث إشارته إلى نوع رائع من تمام دورة ارتقاء بشرى، أعنى أن شخصا ما قد عاش مبدعا مجاهدا الجهاد الأكبر، حتى أمكنه أن يدور دورته الكبرى، فعاد إلى أبسط صور التواجد محتفظا بعمق خاص يجعل من أبسط البسيط ما يرادف أروع العمق. إن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، حتى بعد أن دار دورته الكاملة بما فى ذلك الإسراء والمعراج ، ظل يمضى بين الناس بشرا يمشى فى الأسواق، وجـدا طيبا يداعب أحفاده، وإنسانا لينا رقيقا يلين لهم بما رحمة من ربه. لم يكن ذلك على حساب عمق وجوده، ولا عظمة رسالته، ولا مسئولية حمله لذلك القول الثقيل، الذى أضاء به الدنيا قبل أن نتراجع نحن عن حمل منارته. كذلك بوذا، يقال أنه عاد فردا عاديا سهلا بعد دورته العظمى،وهو ممتنع أصلا وطبعا.
هذه هى دورات من يغامر بتجربة الحياة، عاشها فردا عاديا، أم كتبها أدبا، أم أشرقت فى وعيه علما، وهو يكدح إلى ربه كدحا فى كل حال، كلها دورات تتكامل الواحدة تلو الأخرى إذا ما حملنا أمانة الحياة، وقررنا أن نخوضها. حين أقرأ عن الأمانة التى عرضها الله على السماوات والأرض والجبال، وتصدى الإنسان لحملها، لتنتهى الآية الكريمة بأنه كان ظلوما جهولا، أفهم منها أن الله سبحانه قد وصف الإنسان بالجهل والظلم نهيا له أن يكون كذلك، وحفزا له أن يجاهد على مستوى مسئولية ما تصدى له. لا يكون الإنسان مسئولا عن الوعى الذى امتحن به، والحرية التى يتحرك فى رحابها، إلا إذا جاهد الجهاد الأكبر ليكون كذلك. فلا يعود “ظلوما جهولا’.إننا أحوج ما نكون إلى مثل حى يعلمنا بعض ذلك. فوجدته فى هذا الصرح الشامخ من الوجود البشرى الذى يسير بيننا وكأنه ممكن سهل، فإذا اقتربت منه تبينت كم هو صعب مستحيل، لكن العبرة ليست فى أن تعلنها هكذا وكأنك تقول أحجية (فزورة)، العبرة هى كيف تتعلم منها لرحلتك الخاصة جدا، فى هذه الحياة الرائعة جدا.
لاحظت هذا الحضور النموذج لما هو “سهل ممتنع”مع اثنين حظانى ربى أن أقترب منهما، الأول وأنا بعد صبيا لم أبلغ السادسة عشرة من عمرى،وهو يحيى حقى،والثانى وقد شارفت على السبعين وهو نجيب محفوظ. إن الذى جعلنى أتمثل أكثر ما هو “السهل الممتنع”فى يحيى حقى،أننى عرفته فى بيت، وصحبة المرحوم محمود محمد شاكر، كانا يمثلان عكس بعضهما البعض فى ظاهر حضورهما، كما كانا فى نفس الوقت أقرب من عرفت إلى بعضهما البعض. يمكن أن يوصف محمود شاكر “بالصعب الجميل’، فى مقابل يحيى حقى “السهل الممتنع’. كان صوت محمود شاكر، وحسمه، وغضبه، وحضوره الموسوعى،ودقته المنهجية ترعب – لأول وهلة – كل من يتعرف عليه ابتداء، لكن ما إن تقترب منه أكثر حتى تجد بداخله طفلا وديعا رقيقا محبا كريما متسامحا عطوفا جميلا، ليس أسهل منه ولا أقرب. أما يحيى حقى فبعد أن تأخذك سهولته ودماثة حضوره يستدرجك – دون أن تشعر – إلى أغوار لم يكن ظاهره ينبئ بها أبدا. فتعرف أنه “ممتنع”فعلا. كتابة يحيى حقى تتصف بنفس الصفة ، “السهل الممتنع’. نفس مثل هذا التحدى وصلنى – من قبل ومن بعد – وأنا أقرأ القرآن الكريم مع والدى ثم مع أولادى ثم مع أحفادى حالا قبيل المغرب فى رمضان. أتعجب كيف أن هذا الكتاب الذى لا ريب فيه، هدى للمتقين، نزل بهذه الصورة الشديدة السهولة – خصوصا إذا قارناه بالأدب السائد فى عصر التنزيل – تلك الصورة التى تنساب دون شرح إلى عقل طفل صغير، أو وعى عجوز أمية، بمثل ما تصل إلى عقل فقيه حاذق، أو عالم نـحرير، يتم ذلك هكذا طول الوقت عبر أكثر من أربعة عشر قرنا دون أن تزداد الصعوبة، فيظل القرآن الكريم مصدرا لتفجير وعى أعماق من يقترب منه بما يجعله – طبعا – ممتنعا عليه. تنزيلا من رب العالمين.
حين أتاحت لى الظروف أن أتحرك خلال هذه السنوات الثمان الأخيرة (تقريبا) فى رحاب وعى شيخى الجليل نجيب محفوظ ، رحت أعايش هذا المعنى ماثلا أمامى طول الوقت. كنت قد استشعرت نفس المعنى من كتاباته قبل أن أعرفه شخصيا، لكننى لم أكن أتصور أن حضوره اليومى العادى بين الناس هو مـثـل أروع لأجمل صور “االسهل الممتنع’. كنت أحسب أنه يقضى وقته بين الناس ليزداد احتكاكا بمادة إبداعه، أو ليأتنس بهم بعيدا عن الورق والقلم والكتب والرمز، وإذا بى أكتشف أن وجوده اليومى هذا أكثر “سهولة”(يغريك بأنه ممكن)، ثم تكتشف أنه أكثر”امتناعا”لأنه أكثر إبداعا متحديا بإعجاز غير مسبوق. ثم إنك إذا اقتربت من هذا التناقض الظاهر، فسوف تكتشف أن ثم جدلا يجمع طرفيه ، ليكونا واحدا حاضرا بهذه الصورة البسيطة الجميلة المعجزة فى آن’.
قيل : وكيف كان ذلك ؟ إليكم هذا الفرض:
”إن ذلك لا يتم إلا إذا تقارب الواحد من بعضه البعض، إذا تناغمت مستويات وجوده، (= منظومات دماغه) مع بعضها البعض، فتكون النتيجة أن الخطاب يصل إلى المتلقى عبر أكثر من مستوى من مستويات وعيه وفى نفس اللحظة. من هنا يستقبل كل متلق المستوى الذى يناسبه، فيبدو له الخطاب سهلا لأول وهله لأنه وصل إليه مباشرة من المستوى السهل المقابل، فإذا ما اقترب هذا المتلقى من ذلك المصدر الحاضر بكل مستوياته، ، فإنه يكتشف أن هذا الذى تلقاه لم يكن منفصلا عن غيره من سائر المستويات، بل كان متضمنا إياها معا. من هنا يأتى “الامتناع، فالاستحالة، ‘.
إن ما تردد ويتردد فى وعى مريد فقير إلى رحمة ربه ورضا شيخه مثلى هو غاية ما يمكننى أن أشير إليه فى مثل هذه المناسبة، بعد أن عدت إلى ما سبق أن قلته كل عام، فوجدت أن بعضه يحتاج إلى تكرار يتردد فى فراغ وجودنا كما يفعل الصدى لعلنا ندرك بعض ما يعنى أصل الصوت الجميل. إن نجيب محفوظ -شخصيا- نص فريد، لا بد من إعادة قراءته ومحاولة تفسيره لاستلهامه المرة تلو المرة، مثل أى نص فريد.
فى أصداء السيرة الذاتية يقول نجيب محفوظ: ‘… تذكرت كلمات بسيطة، لا وزن لها فى ذاتها، مثل “أنت’، “فيم تفكر’، “طـيب’، “يالك من ماكر’..، ولكن لسحرها الغريب الغامض جـن أناس، وثمل آخرون بسعادة لا توصف’. هذا بالضبط ما وصلنى من كلماته العادية، ولفتاته الطبيعية، وما يترتب عليها إذ “لسحرها الغامض.. جـن بعضنا، وثمل آخرون بسعادة لا توصف’.
من خلال عشرتى المباشرة له فى السنين الأخيرة، فهمت ما يعنى هذا النص حين راحت أصداء حضوره تـحقق لى فرضا طالما شغلنى،فرضا يقول: “إن الحياة الحقيقية هى الإبداع الحقيقي: قبل وبدون أى ناتج إبداعى آخر، خارج عن ذات صاحبه. كما أن الإبداع المفرز نصا مسجلا خارج صاحبه، هو أمانة يعطيها المبدع للتاريخ والمستقبل، وهى تصبح ضرورة لحوح إذا كان المبدع بعيدا عن ناتج إبداعه، لكنها تصبح نتحا طبيعيا إذا كان المبدع يمثلها، وما وصلنى أن نجيب محفوظ هو من الصنف الثانى،وهذا ما يجعله ممكنا مستحيلا معا. إن هذا النوع من الإبداع يتجلى فى نوع الحياة التى يحياها الشخص، فحين يكون التــلقى طازجا، والدهشة حاضرة، والتعلم مستمرا، والأسئلة لها نفس احترام ويقين الإجابات، تصبح الحياة – مجرد أن يمر عليك اليوم تلو اليوم وأنت حي- إبداعا فى ذاتها، مجرد أن تعى كيف تشرق عليك الشمس، أن تسمع همس أنفاسك، أن تتمتع بتأمل عروق ظهر يدك، أن تعنى لمن تقول له “صباح الخير”أنه “صباح الخير’، أن تسمح لحلمك أن يبقى فى وعيك بعض الوقت كما هو دون إضافة أو تأويل أو تفسير، كل هذا إبداع فى إبداع،
حين راجعت هذا النص الذى ورد لى فى كتابة سابقة بهذه المناسبة، توقفت عند قولى ‘ أن تسمح لحلمك أن يبقى فى وعيك بعض الوقت، كما هو دون إضافة أو تأويل أو تفسير”. لم أكن أتصور أن شيخى هذا سوف يمر- بعد سنوات – بتجربة موازية تدل على حضور إبداعه مسجلا فى خلاياه حتى لو لم تتح له فرصة ظهوره مكتوبا فى حينه. حدثنا شيخنا أنه -لظروف عادية شديدة الصعوبة -تعذر عليه أن يواصل كتابة أحلام فترة النقاهة التى تحافظ على استمرار تواصله مع مريديه من القراء. لم يحل ذلك دون أن يكتب أحلاما بلغت خمسة حتى يوم الخميس 21 نوفمبر 2002. رحت أتقمصه فعجزت، كيف وهو فى هذه السن يحافظ على خمس صور كاملة، مختلفة ، مؤلفة مكثفة فى تشكيلات حلمية، لحين ميسرة أن يجد الورق والقلم والمكان ليسجلها فيه. أشفق عليه صديقنا “زكى سالم”من هذا الحمل الذى تصور أن عليه أن يحافظ عليه فى خلاياه، إذ تصور أنه سوف يضطر أن يردد كلمات الأحلام الخمس خلال نهاره وليله وهو فى هذه السن، عرض عليه زكى أن نسجلها له على شريط، أو أن يمليها على أحدنا حتى يفرغ دماغه لتسجيل ما يجد له من أحلام جديدة، لكنه رفض وفضل أن يظل محتفظا بأحلامه الخمس ، دون خشية أن تهرب منه. هل يوجد ممكن مستحيل أصعب من ذلك، وأشرف من ذلك، وأطيب من ذلك، وإن كان يبدو من بعيد أنه سهل ممكن (جرب لتعرف).
حين كتبت أيضا فى نفس مثل هذه المناسبة أنبه كيف أن خلايا الإنسان (وبالذات ما هو “دنا”DNA نوايها) هى التاريخ الأصدق من كل تاريخ ، استشهدت بقول محفوظ شخصيا على لسان أب يخاطب ابنه فى مقدمة روايته “العائش فى الحقيقة : ‘… كن كالتاريخ، يفتح أذنيه لكل قائـل، ولا ينحاز لأحد ثم يسلم الحقيقة ناصعة هبة للمتأملين’. إن تعبير محفوظ “كن كالتاريخ..’ لا يعنى التشبيه، بقدر ما يحدد ما هو التاريخ، وكأنه يقول: التاريخ ليس إلا ما تحمله خلايانا. ذلك أنه أردف بعد هذه النصيحة من الأب استجابة الإبن وهو يقول: ‘..وسعدت جدا بالتوجه إلى تيار التاريخ الذى لا أعرف له بداية، ولن يتوقف عند نهاية، ويضيف كل ذى شأن إلى مجراه موجة مستمـدة من حب الحقيقـة الأبدية’. العجيب أن نجيب محفوظ الذى كتب هذا النص “العائش فى الحقيقة’، هو مثال حى لنفس العملية كما تجرى فى الكائن البشرى (بل وفى الأحياء جميعا) دون وعى بها. بدت لى هذه الحقيقة بديهية تفسر سر التطور الحيوى عبر تاريخ الحياة الرائع، لكن لم أتصور أن يلتقط حدس مبدع فريد فيصيغها ويسجلها هكذا بالنص فى إبداعه، ثم هو هو الذى يعايشها شخصيا فتتمثل لنا حقيقة مضيئة بينما هو يرشف رشفة واحدة من فنجان قهوة “سادة ‘ قبل أولى “سيجارات”المساء الثلاث، أليس هذا هو الممكن المستحيل؟.
يتجلى الممكن المستحيل فى مجال آخر جعله عرضة للهجوم من كثير من المسطحين، وهو ما يتصل بموقفه من السلطة، وآرائه فى السياسة. إن المتابع المتعجل لموقفه السياسى لا بد وأن يدهش مما يبدو ظاهرا من سعة المسافة بين موقف نجيب محفوظ المتحفظ (لا المحافظ) وهو يدلى بآرائه السياسية فى الحياة اليومية ، وبين نجيب محفوظ السياسى والثائر المغامر حتى القتل فى إبداعه الروائي. قد يفسر ناقد متواضع ذلك الموقف بأن إبداعه هذاهو بمثابة التعويض الذى يعادل موقفه المحافظ فى الحياة العادية، وقد يؤيد رأيه هذا باستشهاد ورد فى نصيحة الأب لابنه فى العائش فى الحقيقة وهو يقول : ‘..ولكن إحذر أن تستفز السلطان، أو تشمت بساقط فى النسيان’. لكن القراءة الأعمق لهذا التناقض الظاهر يمكن أن تضيف تحقيقا للفرض السابق طرحه لما هو ‘ جدل الممكن المستحيل”. فقد بـدا لى البعد السياسى فى إبداع محفوظ مكملا لــ (وليس بالضرورة متناقضا مع) الرأى السياسى فى تصريحاته وأحاديثه الرسمية المنشورة (دون أحاديثه الخاصة). تصورت أنه يعامل السلطة الحاضرة بمنطق الوالد الذى يدعم إيجابيات ابنه أكثر مما يواصل قهره وتأنيبه على سلبياته، وفى نفس الوقت فإن هذا الوالد يمد ولده هذا وسائر إخوته حتى أحفاده بحكايات مؤلفة يعرى بها الظلم، حتى يتعلم الإبن كيف يطيح بالقاهر ويفضح المنافق فى الوقت المناسب.
إن كل من أخذ على نجيب محفوظ موقفه المحافظ لم يأخذ إلا قشرة ما يعلن دون ثورة ما يمثل. إن نجيب مفحوظ حين ينضم إلى معسكر السلام مثلا، لا يفعل ذلك جبنا أو تراجعا، وإنما هو يذكرنا أن الحرب دائرة فعلا فى مجالات أخرى أطول نفسا وأبقى أثرا (الحضارة وخير الناس)، وأننا ما دمنا لا نحارب بالسلاح فعلا منذ عشرات السنين، ، ولن نحارب بالسلاح فعلا خلا ل أسابيع، فعلينا أن نتقن حربنا الجارية فى الإبداع والبحث والتحضر وحمل مسئولية الحرية وتعميق الوعى كما تبلغنا كتاباته جميعا. الممكن هنا هو ما يبدو انضماما لمعسكر مرفوض من أصحاب الصوت العالى ، والوعود المفرغة، والمستحيل هو أن تكون-فى نفس الوقت- محاربا طويل النفس بكل ما يمثله قتال محفوظ مع كل شياطين وآلهة الشر، تردد فى نفس الوقت أن تدعو إلى السلام الآن، تميهدا لحرب منتصرة بالسلاح إذا ما فرضت علينا فرضا ونحن مستعدون لها بما نقوم به الآن. إن التكامل الذى وصلنى ما بين موقفه البادى المحافظة فى التصريحات والحياة العامة، وموقفه الذى يضع القتل “بين العبادة والدم”(ليالى ألف ليله) هو الذى يؤكد جدل الممكن المستحيل من هذه الزاوية. إننى أشهد أننى لم أعرف عنه نفاقا لسلطة أيا كانت حتى لو فهم البعض مجاملاته على أنها كذلك. ثم إنه – فى مجال السياسة العملى – يمارس مستحيلا آخر حين يصر على أداء واجبه كمواطن إيجابى،وهو متأكد أكثر من أى شخص آخر من لاجدوى ما يفعل. فهو يذهب إلى صناديق الانتخاب,- ما سمحت له ظروفه الصحية بذلك – ولا يتعالى عن الإجابة عن أى سؤال مهما كان السائل، حتى لو رجح أن هذا السائل سوف يلوى إجابته، من منا يستطع فعل ذلك بهذه البساطة التى نراها فيه؟ من منا يستطيع أن يواصل المشى فى طريق يعلم يقينا أنه مسدود النهاية، لكنه يواصل ممارسة واجبه وهو يعرف أن له مردوده الإيجابى ولو بعد مئات السنين؟. محفوظ يرفض- مثل سقراط -أن يتخلى عما هو حق بغض النظر عن جدواه فى المدى القريب أو حتى عن هلاكه (محاورة سقراط قبل إعدامه).
ثم يتجلى “ممكن مستحيل”آخر فى تاريخ محفوظ الوظيفى التقليدى،الذى هو فى نفس الوقت المصدر الأساس لمعظم – إن لم يكن كل – ما أبدع. لقد سمح هذا البعد لمحفوظ أن يخالط الواقع حتى يعجن بمائه يوما بيوم، فتعمقت علاقته بالالتزام الراتب (الروتين) الرائع، وتأكدت صلاته بالناس الحقيقيين. ثم إنه من كثرة ما أحب هذه الفرصة وأدرك مدى ضرورتها وروعة عطائها، اندفع فى “حضرة المحترم”يقدسها حتى ألهها، وكأنه ضرب ما عاشه وشاهده -موظفا-فى مائه، ليبلغنا مدى قدسيته رغم اغترابه الظاهر. لا أظن أن أحدا وهو يتعامل مع نجيب محفوظ الموظف كان يستطيع أن يتبين منه نجيب محفوظ المبدع، فإذا علمنا أنه لم يكن أبدا ثـم تناقضا، وأن كثيرا من مادة إبداعه كان مصدرها هذا العمل “الروتيني”البسيط الخطير المنتظم المستمر، أمكننا إدراك ما نعنيه بتحقيق المعادلة الصعبة التى أسميناها جدل “الممكن المستحيل’.
وبعد
ليس معنى تقديم هذه المعادلة الصعبة بهذه الصورة أننى أريد أن أوحى للقارئ أن نجيب محفوظ مستحيلا لا يتكرر برغم ظاهر سهولته، ذلك أننى أعلم أن ما يسعده أكثر – فى هذه المناسبة خاصة – هو أن يكون هذا النموذج، رغم ظاهر استحالته ، هو ممكن للعشرات، بل المئات، بل الملايين من البشر، بل لكل إنسان يهمه أمره، وهو مهتم بأمر كل الناس.
إن المستحيل هو هو الممكن، هذا ما نتعلمه منك يا شيخنا فى كل إبداع، وفى كل يوم، وفى كل لحظة.
ولا يوجد حل آخر. وكل عام وأنت تعلمنا ما يمكن لعلنا نصنع المستحيل.