الاهرام: 10-12-2000
محفوظ، والناس، والتاريخ
فى عيد ميلاده التاسع والثمانين
أين أضع هذه السنوات الست الأخيرة فى صحبة هذا الهرم الحى وأنا أحاول أن أكاشف الناس بما يمكن أن يقبع خلف أقنعة من يعرفونه بصفته طبيبا نفسيا، بما يشمل ضعفه، ووحدته، وحزنه، وحيرته، وجهله، ومحاولاته المستمرة للاستزادة والتغير من خلال الناس، مرضى وأصحاء؟
هذا هو السؤال الذى خطر لى حين غامرت مؤخرا بكتابة فنشر ما أسميته ‘أدب المكاشفة’ فى ترحالات ثلاث ، هى مزيج من أدب الرحلات، وأدب الاعتراف، والسيرة الذاتية، .
عرفته وقد تخطيت الستين ، وكان ذلك قبل أسابيع من بلوغه الثالثة والثمانين. وكانت أسئلة تلاحقنى وأنا أعيش خبرة لم تكن فى حسبانى أبدا . عمرتنى إذ ذاك أسئلة كثيرة منها: هل يمكن أن أتغير؟ هل ما زلت قابلا للتعلم ؟ هل يمكن أن يصوغنى والد من جديد بعد هذه السن؟ تبينت قرب نهاية الترحال الثالث أنه لا يجوز أن أدعى أننى كتبت سيرة، أسميها ‘أدب المكاشفة’ دون أن أذكر ما أعيشه -الآن – طولا وعرضا، ومع هذا الإنسان الفريد .
خبرتى معه-كشخص قريب جدا ـ لا تتعدى الست سنوات الأخيرة، وهى محدودة إذا قورنت بمن أعرف ممن يعرفه منذ حوالى خمسين سنة مثلا: مثل أحمد مظهر، أو عادل كامل، أو توفيق صالح، أو منذ حوالى ربع قرن مثل جمال الغيطانى أوزكى سالم أو يوسف القعيد، وآخرين، خبرتى معه هذه قد حركت وعيى، وقلبت بعض آرائى، ووضعتنى فى اختبارات تلو اختبارات جعلتنى أعيد النظرفى كثير من الأمور. كانت -ومازالت – من الثراء والعمق بحيث اعتبرتها جاءت فى وقت مناسب جدا من تطورى. هل ما زلت أتطور؟ أم أننى أوهم نفسى بذلك وأنا على مشارف السبعين؟
كنت فى البداية (أكتوبر 1994) أقابله كل يوم بلا استثناء، قلت إنها فرصة للناس أن يعرفوا ما عرفت. وطفقت أكتب حواراتى معه من الذاكرة بعد عودتى من اللقاء مباشرة، أو فى اليوم التالى على الأكثر. استمر ذلك ثمانية أشهر ونصف ملأت فيها بضع مئات من الصفحات، ثم توقفت تماما حتى تاريخه. أدركت استحالة ملاحقة كل ما تصورتـه مفيدا، فكل ثانية معه، معهم، هى مفيدة. تصورت أن مثل هذا العمل يمكن أن يستغرق وقت فريق من الباحثين لعشرات السنين. ثم إن لقائى به بدأ يقل تدريجيا حتى انتهى غالبا إلى يوم واحد فى الأسبوع هو يوم الحرافيش، يوم الخميس من كل أسبوع.
بعد الحادث الأثيم، وحين بلغنى سماحه ودعاؤه لقتلته بالهداية، كتبت أخاطبه فى هذه الصفحة قائلا’يا شيخنا: أستحلفك -بأن أدعو ربي- ألا تموت الآن. مازال هؤلاء الشباب الذين طعنوك فى حاجة إليك، لن يشفيهم إلا مثل إيمانك، لن يعلمهم إلا درس مثل هذا الدرس: حين أرادوا إطفاء نورك – وهو يعكس نور الله علينا إبداعا وإيمانا- أبى الله إلا أن يحفظك ليتم بك نوره عليهم وعلينا’.
يدور حديثى معه أحيانا حول الموت. حكيت له يوما عن حديث أجرته إحدى الصحفيات مع فرنسوا ميتران بعد أن تيقن من نوع مرضه و قرب نهايته . سألت الصحفية متران عن توقعاته لما ينتظره بعد موته، فأجاب متران بحرص متوسط، ‘إنه يعتبر أن الخلود فكرة مملة.’ أطرق محفوظ مليا كعادته حين يسمع ما يستأهل النظر، ثم رقع رأسه قائلا : إن متران مخطئ، لأن قرب الواحد منا من حبيبه من البشرلا يبعث على الملل إطلاقا، فما بالك إذا كان هذا الحبيب هو الله سبحانه. كيف يصبح الخلود معه مملا ؟ كان هذا الحديث منذ خمس سنوات.
لم أر أبسط ولا أعدل منه فى الحكم على الناس، مع ميل إلى المبالغة فى المجاملة واحترام كل المحاولات، صالحنى على النحاس باشا من باب لم يخطر على بالي: ذكر لى كيف كان محبا أشد الحب للنحاس باشا وليس فقط لسعد زغلول، وحين وصف لى كيف كان يخفق قلبه وهو يشاهد النحاس باشا يسير (يتمشي) على كورنيش الإسكندرية ومحفوظ بعد صبيا فيافعا شعرت أننى أمام حب جميل لزعيم أمين. كنت قد خاصمت النحاس باشا وأنا عمرى تسع سنوات حين كتب الرسام رخا تاريخ 4 فبراير بصورته حتى انتهى بالراء الأخيرة والنحاس باشا ملقى على ظهره مستسلما للخيانة، وإذا بالأستاذ نجيب محفوظ يصححنى بعد نصف قرن، ويقنعنى ، فأحب الرجل وأشعر كم نظلم الناس حين نراهم بأعين متحيزة ونحن بعد أطفالا.
حين يقترب الأمر من عبد الناصر والسادات،أعجب من شيخى وهو يترجح ما بين المجاملة والموضوعية حتى يصبح عرضة للهجوم من أنصار هذا أو ذاك. إلا أنه كان يبدو شاكرا السادات لتحريره الأرض واسترداد الكرامة، أكثر مما يبدو متحمسا للحركة المباركة التى قام بها عبد الناصر وصحبه دون أن ينكر فضل عبدالناصر فى تثوير الحركة فى بعدها الاجتماعى .
أرفض هذه التسويات الكمية التى تعدد الحسنات على ناحية والسيئات على ناحية، وتتكلم عن الحل الوسط، والممكن، مثلا نقول : عبد الناصر عمل عشرين عملا حسنا، وخمسة نصف نصف، وعملا واحدا مثل الزفت (هزيمة 1967) ، والسادات عمل ثلاثة عشر عملا سيئا وعملين ‘كلـشـنـكان’ (كل شيء كان) وعملا مجيدا جدا (أكتوبر 1973) !!!! ما هذا؟ التاريخ ليس حسبة جمع وطرح مثلما تعد علب المعلبات على رفوف محل ‘بقالة’.، وبلغة لعبة نعم…. ولكن’،(التى نلعبها فى العلاج الجمعى خاصة)، يمكن صياغة الحكم المائع هكذا : نعم عبد الناصر ثائر ليس كمثله أحد، لكنه استسلم لمراكز القوى (كأنه ليس هو صانعها). نعم السادات حرر سيناء بذكاء الفلاح المصرى وشجاعة من يدفع حتى سمعته ثمنا لملء الكف من طين أرضه لكن ظهرت دكتاتورته وفاشيته فى اعتقالات سبتمبر، وهكذا. كنت أحاور الأستاذ محتدا حين تصورت خطأ أنه يلعب (حتى مع نفسه أولا) هذه اللعبة، والأستاذ يشجع من حوله على مثل هذه الحدة لأنه يتحملهم ويحترمهم ويحاورهم بجد لا مثيل له. تعلمت من اختلافى معه مثلما تعلمت من انبهارى به، أختلف معه حول الديمقراطية الغربية ، وحول حلمه أن يحل الإنجاز العلمى المعاصر مشكلة الوجود البشرى، وحول مبالغته فى مجاملة كل الذين يحاولون الكتابة حتى لا نعود نميز من الذى يمكن أن يستمر ، وغير ذلك كثير.
فى إحدى جلسات الأستاذ مؤخرا (يوليو 2000) ثار جدل حول قول مأثور، ربما معنى حديث شريف يقول إن عملا سيئا واحدا يعمل أخيرا قد ينسخ كل ما قبله من أعمال حسنة، والعكس صحيح: أى أن عملا واحدا حسنا قد يرجح كل الأعمال السيئة السابقة له ويدخل صاحبه الجنة، وتساءل السائل كيف هذا والله سبحانه هو الذى حدد أن’من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره’، هز الأستاذ رأسه وتحول الكلام قصدا أوبغير قصد.
أصررت أن أشرح وجهة نظرى للسائل والأستاذ، وهو أنى أفهم أن عملا واحدا فى عكس الاتجاه قد يـجب كل ما قبله فى حالة واحدة : هو أن يكون هذا العمل الأخير قد كشف حقيقة وطبيعة كل ما كان قبله. بمعنى أن هذا العمل الأخير يكشف لنا ما كان يبدو من قبل خيرا فإذا بهذا العمل الأخير يؤكد لنا أنه كان زيفا كله، كذلك إذا كان هذا العمل الأخير خيرا لدرجة يجب بها ما قبله فإن ذلك يعنى أنه دعوة كى نعيد النظر ، لعل ما كنا نظنه شرا من قبل ، لم يكن إلا تكتيكا كان يخدم الخير الاستراتيجى فى النهاية. هز الأستاذ رأسه مرة أخرى بعد انتهائى من هذا الشرح المجتهد.
أنا لا أفهم هزة رأسه فى أحيان كثيرة، أهى هزة مجاملة، أم تفويت، أم دعوة أن أكمل الحديث. رحت أطبق نظريتى فى حالة عبدالناصر والسادات: لعل وظيفة صدمة- فهزيمة 1967 هى أنها أظهرت أن ما قبلها لم يكن ثوريا، نقيا، عميقا، ذا معنى شامل قادر على القيام بالنقلة الحضارية والإنسانية التى لوح بها عبد الناصر ونظامه فى البداية. كذلك لعل هيجة إغارة الاعتقال بالجملة التى أقدم عليها السادات فى سبتمبر 1980 قد كشفت كيف أن ما قبلها كان اندفاعة جيدة ومفيدة، لكنها لم تكن خالصة لوجه الوطن والحضارة والناس. هز الأستاذ رأسه من جديد ولم يوافقنى ولم يرفضنى.
نجيب محفوظ ليس سياسيا محترفا ولا هاويا، هو مواطن ملتزم، شجاع، مشارك طول الوقت، قادر على إعلان رأيه بقدر ما هو قادر عليى تغييره متى توفرت عنده معلومات كافية وصادقة الناحية الأخرى. وهو رغم الحواجز الحسية التى امتحنه الله بها فى السنوات الأخيرة، لا يكف عن متابعة الأحداث بكل إخلاص ومشاركة.
حين نشر الأستاذ المدرسة المحيط محمد حسنين هيكل مؤخرا إعادة رأيه فى موقف عبد الناصر ومسئوليته من هزينة يونيو ، (وجهات نظر-أغسطس 2000) أوجزت رأيه للأستاذ ، مضيفا رأيى فى أنه: مقال شديد الحرفية، مستعرض التوثيق، جذاب المنظر، متحيز المخبر، أشبه بـ ‘أبحاث الترقية’ عندنا فى الطب خاصة، قلت لشيخى معقبا : إن الوثائق لا تقول الحقائق. الوثائق تثبت ما سـمـح بإثباته كتابة. أوجزت له أيضا كيف أراد الأستاذ هيكل بكل ذكائه وحرفيته أن يقارن (ليقارب) صمود عبد الناصر ‘النفسي’ (فى 1967 بأسفه على قرار الانسحاب)، بصمود تشرشل (سنة 1940) ثم يقارن (ليفارق) احتفالنا البكائى النعاب(سنة 2000) بـ 5 يونيو سنة 1967(نحن العرب)، باحتفال فرنسا بـ 11 يونيو سنة 1940. كل ما علق به الأستاذ على هذا المقال أنه قال وهو يرفع حاجبيه بحساب: ‘لكن تشرشل، وفرنسا، انتصرا’. وسكت.
أعرف عنه روعة العرفان بالجميل، واحترام الرأى الآخر، وعدم المساس بأى غائب يرى فيه خيرا، أو يلتمس له عذرا. فما بالك إن كان صاحب فضل، وذكاء، ومدرسة !
حين استرجعت ما وصلنى من نجيب محفوظ فى ست سنوات بعد معرفتى اللصيقة به، وما وصلنى من إبداعه خلال نصف قرن، خطر ببالى أن هذا الشخص يمكن أن يعتبر سجل الحياة المصرية المعاصرة، ليس فقط بما كتبه، ولا بما قاله ويقوله، ولكن أساسا بما كانه ويكونه. حين يكتب يونان لبيب رزق، ذلك المصرى البالغ الدماثة، البالغ الأمانة. عن الأهرام ‘ديوان الحياة المصرية المعاصرة’. أشعر أن نجيب محفوظ قد سجل فى خلاياه بما وصله وما حمله وما حصله ما يعتبر ‘السجل البيولوجى للإنسان المصرى – (المعاصر)’.
عندى رأى ‘تطوري’ لا ماركى، كففت عن الحديث فيه لكثرة ما قوبل بالرفض، وعن الدفاع عنه لبعده عن الغالب الشائع علميا فى هذه المسألة، وهو أن السجل الحقيقى الوحيد لـلتاريخ هو جينات الكائن الحى، وأن ‘دنا’ DNA خلايا الإنسان المعاصر الموجود فى نوايا خلاياه’الآن’ هى تاريخه، لا أكثر ولاأقل. شجعنى هذا الشطح ‘العلمي’ أن أرى محفوظا باعتباره هذا السجل الحى لما هو نحن.
الفرق بين الوثائق المسجلة فى أوراق محفوظات وزارة الخارجية البريطانية، أو مكاتبات إسرائيل الرسمية، وبين المبدع المتمثل لناسه فى حقبة معينة من الزمان هو فـرق شاسع.
إن المبدع الأمين يخلط التاريخ بلحمه ودمه ،يحتوى الناس والأماكن والأشياء، ثم يحتوى المعلومات التاريخية وإشارات الحوادث، لكنه لا يستسلم لهذا أو ذاك، ولا يفرزه كما هو. إنه يهضم كل ما يصله هذا بوعى ناقد، ثم ينضح – جديدا أصيلا – بما احتوى، مرة فى صورة إبداع، وأخرى فى صورة معايشة آنية يومية تنضح بدورها على من حوله. إن عظمة نجيب محفوظ أنه عاش ويعيش الناس، هو لا يعاملهم ولا يتفرج عليهم، بل يتمثلهم. ثم إنه عاش ويعيش التاريخ، هو لا يقرأه، ولا يستسلم له، بل يعيد إفرازه. ثم إنه عاش ويعيش السياسة والسياسيين، لا يصفق لهم، ولاينكر فضلهم. بل يعيد صياعـتهم.
يتجلى كل ذلك فى إبداع محفوظ الذى يعتبر تاريخا قائما بذاته من أول رادوبيس حتى أصداء السيرة، مرورا بحديث الصباح والمساء (الرواية التى سجلت وحدها ما يقرن من قرنين من الزمان: من أول دخول نابليون مصر حتى سنة 1978) وأيضا مرورا بالثلاثية وميرامار والباقى من الزمن ساعة. وكل إبداعاته !!.
والأهم والأصعب أنه يعيد إفراز ماحمله فى كل دنا من أنوية خلاياه فى حياته اليومية إبداعا حيا.
والأصعب من الأصعب أنه ما زال يسجلنا فى خلاياه بنفس النشاط والطزاجة والألم والدهشة.
إن التاريخ الحقيقى هو ما تبقى فى خلايانا ‘هنا والآن’،ثم ما خرج منا فى إبداعنا بما هو نحن كما نحن. وكل ما عدا ذلك وثائق مقولة بالتشكيك؟ وإذا كان أغلبنا قد تشوه بما ليس هو، فإن سجلنا فى خلايا محفوظ تقول إن تاريخنا مجيد وواعد، باعتبار أنه احتوى ناسه كأصدق ما تكون الوثائق البيولوجية. لو صح هذا فما أكبر المسئولية، وفى نفس الوقت، ما أشرف الألم، وأعظم الأمل.
إن كان نجيب محفوظ، كما عرفته شخصا ومبدعا هو سجل مصر الحيوى، ووثائقها البيولوجية، فعلينا أن نستبشر خيرا مهما حدث، ويحدث. وماحدث ويحدث ليس قليلا.