الاهرام: 8 / 12/ 2001
حديث الثلاثاء مع الدكتور يحيى الرخاوى
الصديق الحميم لنجيب محفوظ:
مجموعة همس الجنون بها ملامح ما يسمى بالتيار النفسى
المبدعون أساتذتى ونجيب محفوظ طبيبى النفسى الذى يعالجنى إذا لزم الأمر
الدكتور يحيى الرخاوى نعرفه عالما مشهورا فى طبيعة النفس الإنسانية كما نعرفه أديبا له أعماله الأدبية الراقية نثرا وشعرا وإلى جانب هاتين الخاصيتين التى قلما تجتمعان فى إنسان واحد تربطه صداقة حميمة بكاتبنا العالمى نجيب محفوظ حتى يكاد يكون من القلائل الذين يحفظون أسراره الشخصية، وذلك من خلال العلاقة المباشرة بينهما.
ولتبين رأى العالم والأديب إلى جانب رأى الصديق كان هذا الحوار.
(1) المعروف أن أستاذنا نجيب محفوظ من خريجى قسم الفلسفة بجامعة القاهرة, ترى إلى أى مدى استفاد من دراسته هذه فى كتاباته الأدبية؟
الأديب عامة, ونجيب محفوظ بوجه خاص, يستفيد من أى شاردة وواردة تصل إلى وعيه, وهو لا يفعل ذلك بقصد مرتب, وشيخنا الجليل يمتلك آلة لاقطة , وحافظة فائقة الجودة, حتى وقتنا هذا, ولا بد أن ما درسه فى سن الشباب كان من بين ما التقطه , فاختلط به, ففاض منه فى إبداعه. هذا بصفة عامة, فإذا تذكرنا الزمن الذى تفتح فيه وعيه الجامعى على التحصيل, (الثلاثينيات), وتذكرنا أساتذته الأفاضل (من أمثال مصطفى عبد الرازق) وتذكرنا حقيقة الفلسفة من حيث تناولها للتساؤلات, والكليات, وتدريبها دارسها, وعاشقها على التفكير النقدي, والمراجعة, وتحمل الغموض, والسير فى طرق النهايات المفتوحة, التى لا ترتكن إلى يقين, فى حين تواصل التوجه إلى حقيقة واعدة, فلا بد أن نستنتج أن نجيب محفوظ قد تأثر بدراسته هذه دون أن يقحمها بشكل مباشر فى إبداعه. إننى أسمى ذلك ممارسة “فعل الفلسفة’ دون تفلسف. إننى أتصورأن نجيب محفوظ قد تناول مسار الإنسان ومصيره, وتساؤلات وجوده, وإشكالات علاقاته من خلال استعمال أدواته الأدبية القادرة بشكل شديد بالغ التناسق, إنه بذلك يمكن أن يعتبر نموذجا لتوظيف الأدب فى الكشف لإيقاظ وتحريك فإطلاق مسار الوعى البشرى إلى وعوده.(فعل الفلسفة)
(2) ما هى الروافد النفسية التى استقى منها نجيب محفوظ ثقافته فى هذا المجال والتى عكسها فى رواياته؟
أى مجال؟ إن كنت تعنى مجال “فعل الفلسفة’ كما أشرت إليه فيما يتعلق بالتساؤلات المفتوحة, ومسار الإنسان ومصيره, فإن روافد محفوظ هى كل ما مر بحياته ووصل إلى أى من مستويات وعيه ظاهرا وباطنا. إن مصادر المبدع ليست مجرد قراءاته أو دراسته الجامعية, ثم إن نجيب محفوظ لم يأل جهدا فى التحصيل المثابر طول الوقت من كل المصادر دون استثناء . علمت منه, وعنه, أنه كان يعكف فى فترة من حياته على القراءة المنتظمة فى الموسوعة البريطانية, وقد فسرلنا ذلك بأنه:’.. من خوفى من الجهل بما ينبغى معرفته’.
نجيب محفوظ, وحتى هذه اللحظة شديد الحرص على متابعة كل جديد, حتى مع ماأصاب حواسه من صعوبات تحول دون القراءة والدرس. يوم الخميس الماضى حكيت له عن بعض معالم كتاب “موت الأدب’ تأليف ألفين كرنان (ترجمة: بدر الديب)., وهو أحد إصدرات المشروع القومى للترجمة (شكرا, لجابر عصفور), فإذا به يطلب منى تلخيصه, ولم أكن قد انتهيت منه, فوعدته أن أفعل لاحقا , وإذا به ينظر إلى جليسنا الثالث, الصديق زكى سالم ويقول ‘ شوف يا زكى التقصير, الأدب مات واحنا ما عزيناش !!’, ويضحك ضحكته الواسعة الرحبة . هذا هو نجيب محفوظ طالب المعرفة الذى لا يكف عن التلمذة أبدا .
(3) هل تعتبر رواية السراب هى أول عمل فى إطار التيار النفسى فى أدب نجيب محفوظ؟
صحيح أن رواية السراب هى رواية محملة بجرعة نفسية محيطة وعميقة إذ تتناول مشكلة نوعية من الوجود تغلب عليها “الذاتوية’ (الشيزيدية المغلقة) , لكن لا يمكن اعتبارها “أول”عمل ينطلق من منطلق نفسي. إن أول مجموعة قصص قصيرة لنجيب محفوظ “همس الجنون’ (قبل السراب بعشر سنوات) كان بها من ملامح ما يسمى التيار النفسى ما يؤكد بداهة أن سبر غور النفس البشرية هو من أساسيات أى إبداع أصيل. ثم إنى لا أميل إلى تقسيم الأدب إلى تيار نفسي, وتيار غير نفسي. هل يوجد أدب بلا تيار نفسى ؟ (4) هل ترى سيادتكم أن رواية “ليالى ألف ليلة’ تنبأت بالفعل بمقتل السادات ؟
أرى أن مثل هذا الزعم به نوع من الاختزال لطبيعة الإبداع ووظيفته. الإبداع الأدبى بطبيعته موقف تنبؤي, الإبداع الحقيقى يرسم الحاضر,وقد يعيد صياغة الماضي, لكنه يفصل هذا وذاك ليحدد إتجاه سهم إلى المستقبل وإذ يحدس وعوده وإنذاراته معا. إن المعمار الإبداعى الأصيل هو الذى إذا مددت خيوطه أدى بك إلى ما يمكن أن يكون المـستقبل, ليس بيقين, ولكن بترجيح موضوعي. فإذا ورد فى ليالى محفوظ ما يشير إلى مايشبه مقتل السادات, فإن ذلك يعنى أن حدسه استطاع أن يستنتج النتائج الطبيعية لمعادلات الواقع الجارية. إننى أرى أن مثل هذه القراءة (التنبؤ بالحدث الفلاني) , لا تضيف ميزة خاصة إلى عمل رائع مكثف متعدد العطاء مثل ليالى محفوظ.. إننى أعتبر ليالى ألف ليلة (بعد الحرافيش) أروع ما كتب محفوظ إن كان ثم مجال للمفاضلة, لقد عرت هذه الليالى الحوار الدموى فى علاقات البشر ببعضهم البعض, وخاصة فيما يخص الحب, والجنس, وعلاقات السلطة, وحركية عامة الناس. إنها قدمت منظورا لإيجابيات وسلبيات العدوان , وكذلك لما هو “تعدد الذوات’ (وقد تناولت هذا تفصيلا فى دراستى النقدية المنشورة عن هذا العمل).
(5) بماذا تفسر تناقض أستاذنا نجيب محفوظ فى جعل المقهى مكانا للقائه بالأصدقاء وفى الوقت نفسه أسراره العائلية محظورة بشكل مبالغ فيه ؟
لا أظن أن ثم تناقضا أصلا بين هذين الحضورين, ثم إنى أتحفظ تحفظا شديدا ضد الخوض بغير أدوات, وبغير إذن, وبغير وجه حق, فى الحياة الشخصية لأى إنسان, فضلا عن مبدع رائع مثل محفوظ وضع نفسه فى متناول كل الناس, ولم يكتف بأن تكون الوصلة بينه وبين قرائه من خلال إبداعه. إن هذا الميل للحفر فيما نتصوره أسرارا عند هذا المبدع أو ذاك ليس مفيدا, ولا هو ضرورى فى كثير من الأحيان. فما بالك إن كان المبدع هو نجيب محفوظ البسيط الجميل المتاح الواضح النبيل . إن كتاب بول جونسون “المثقفون’ الذى تناول بعض الجوانب الشخصية الخاصة عند عدد من المبدعين من أول جان جاك روسو حتى برتراند رسل مرورا بسارتر وهيمنجواى وغيرهم هو خير دليل على فساد مثل هذا التناول. يتصور الناس (وبعض النقاد) أن معرفتهم (المتحيزة – بالضرورة – سلبا أو إيجابا) لحياة المبدع الخاصة جدا سوف تفيدهم فى التعرف على عمق آخر من إبداعه, أو على الأقل عن بعض دوافع إبداعه. هذا احتمال وارد, لكنه ضعيف وليس مضمونا. حياة نجيب محفوظ العائلية هى من حقه وحده , ليس لنا أن نقترب منها إلا بقدر ما يسمح هو وعائلته الكريمة بذلك, وبقدر ما سمحت لى الظروف بالاقتراب منها: أنا لم ألاحظ تناقضا مما يذكره السؤال, بل إن احترامى زاد لكل ماوصلنى من كل جانب دون استثناء, كما أننى تعلمت الكثير من جمال قيمنا, والتزام شيخنا. أنا أرفض استعمال كلمة “أسرار’ فى هذا السياق من حيث المبدأ, لا أحد بدون خصوصية , وليس كل ما هو خاص سرا.
(6) العلاقات الفكرية بين المفكرين فى عالمنا العربى تكاد تكون مقصورة على أمثلة فردية تتقدمها علاقة العقاد بالمازنى, فما تفسيرك لذلك, وبهذه المناسبة هل يمكن التعرف على قصة علاقتك بأستاذنا نجيب محفوظ؟ ومن خلال هذه العلاقة مالذى تعرفه عن أستاذنا ولا يعرفه الناس؟
لا أزعم أننى أعرف عن شيخنا أكثرمـما يعرفه أى صديق ممن يقترب منه, وصداقات نجيب محفوظ لا تقتصر على شخوص معينة , وإنما هو صديق لكل من يقترب منه, وهو يتحدث عن أصدقائه هذه الأيام بشكل فيه عرفان وحب شديدين, لأنه يعتبرهم بمثابة سمعه, وبصره, وعلامات إيقاع يومه. مع أنه هو الذى يعطينا ما يعيننا على أنفسنا, أما علاقتى الخاصة به فهى من أكبرأفضال الله على فى مرحلة حياتى هذه, هى علاقة مريد بشيخه, وأجمل ما فيها أننى حين التقيته, وجدته كما تخيلته, فلما سمح لى أن أكون قريبا منه رحت أنهل من فيض وجوده بما يثرينى ويعيننى على الاستمرار فيما أتصور أننى أستطيع الإسهام به, كما أن لهذه العلاقة فضل الإسهام فى كسر وحدتي, والحفاظ على تفاؤلي, وأخيرا فقد وجدت فيه “طبيبى النفسي’ الذى يمكن أن يعالـجنى متى لزم الأمر, وكثيرا ما يلزم !!!.
(7) ما هى الشخصيات الروائية الأقرب نفسيا لأستاذنا نجيب محفوظ الإنسان, على اعتبار أن لكل روائى شخصية هى الأقرب دائما ؟
أرجح أن كل شخوص المبدع هم أبناؤه وبناته, وكما سئل أعرابى أى أبنائك أحب إليك قال :’ مريضهم حتى يشفي, وبعيدهم حتى يعود, وصغيرهم حتى يكبر, فإننى أظن أن كل شخوص محفوظ, حتى شملول الأحدب وعجر الحلاق (فى الليالي), يكونون أقرب إليه لحظة ولادتهم فى إبداعه, وأثناء تقمصه أحوالهم والحديث بلسانهم فى الحوار وغيره, ثم إنهم يغادرونه ليحل محلهم أبناء وبنات آخرون, وهكذا. ومع ذلك فقد بلغنى حبه لكمال أحمد عبد الجواد طفلا, وللشيخ عبد ربه التائه كهلا, كأقرب شخوصه إلى نفسه.
(8) بعض كبار الأدباء يضيفون بعض المفاهيم إلى علم النفس من خلال تصويرهم لدقائق وأسرار النفس الإنسانية مثلما فعل ديستويفسكى فى رواياته, وأهمها رواية الإخوة كرامازوف, فما الذى أضافه نجيب محفوظ ؟
الأدباء المبدعون, من أمثال ديستويفسكى ونجيب محفوظ هم الأسبق والأعمق فى معرفه أغوار النفس الإنسانية. بعد مشوار طويل مع النظريات العلمية والمرضي, وجدت أنه لا يمكن أن تكتمل معرفتى بالنفس إلا إذا نظمت ارتيادى لهذا النبع الأصيل من الإبداع الأدبي, وبالذات من ديستويفسكى ومحفوظ. عرفت طبيعة الطفولة من نيتوتشكا نزفانوفنا, والفارس الصغير, ومذلون مهانون (ديستويفسكي), كما راجعت ناقدا عقدة أوديب من الإخوة كرامازوف والأبله وقرية استباتشكوفو وسكانها (ديستويفسكي) كذلك أنا لم أطمئن إلى فروضى العلمية حول طبيعة العدوان إلا بعد أن وصلنى حدس نجيب محفوظ فى ليالى ألف ليلة. كما رجح “الإيقاع الحيوي’ كأساس لفهم دورات النفس وأطوار الحياة فى الحرافيش , التى عرت أيضا وهم الخلود على هذه الأرض, كما أفادت الوعى بروعة بالموت وجمال حتمه, رجح كل ذلك أساس نظريتى عن “الإيقاع الحيوي”واستعادة دورات الحياة (النظرية الإيقاعية التطورية).
(9) يتعامل نجيب محفوظ مع النفس الإنسانية بمنظور أدبى, وتتعامل سيادتكم معها بمنظورعلمى.. ترى ما هى مناطق الاتفاق والاختلاف بين المنظورين؟
الاتفاق هو فى “الأصل و الهدف”, أما الاختلاف فهو فى “الوسيلة وطبيعة النقد”.
إن الوعى مؤخرا بحتمية تداخل وتكامل روافد المعرفة يشير إلى ضرورة تجنب مثل هذا الفصل التعسفى بين ما هو علم وما هو فن وأدب. إن كارل بوبر (وهو فيلسوف العلم) حين أراد أن يعلمنا الالتزام بالموقف النقدى فى العلم, عرض كيف كان بيتهوفن ينقد نفسه وهو يطور مسوداته, ليرينا كيف أن العالم يفعل ذلك نفسه بالإضافة إلى ما يضيفه نقد الآخرين, ونقد التطبيق, لكن الأصل واحد, والموقف مشترك. يعلمنا كارل بوبر وحدة الأصل وهو يقول: “الشعر والعلم لهما نفس الأصل, أصلهما الأساطير”. كما يعلمنا أيضا أن الهدف مشترك (السعى المتواصل إلى الكشف المتجدد عن بعض جوانب الحقيقة), يقول بوبر: “بين الشعر والعلم- ومن ثم الموسيقى- صلة دم, هما ينشآن من محاولة فهم أصلنا ومصيرنا, وأصل عالمنا ومصيره’.
فإن صح ذلك فى كل العلووم والفنون, فإنه أصح جدا فى العلاقة بين الأدب والعلوم النفسية.
إننى حين أعجزتنى الأدوات العلمية فى الإحاطة بما وصلنى من مرضاى ونفسى, أسعفتنى لغة الأدب والنقد فى محاولة إبلاغ الرسالة التى وصلتنى من مهنتى وخبراتى الخاصة.. أقر وأعترف أننى فى تخصصى أحاول أن أكون تلميذا مجتهدا لأساتذتى المبدعين من الأدباء, والمرضى قبل رضوخى لمعلومات جزئية تزعم يقينا مختزلا, تروج له شركات تجارية, على حساب الحقيقة.