نبذة: مقال يشير إلى صلاح عبد الصبور وهو ينتظر نبيا يحمل سيفا كما يشير إلى حوار توفيق الحكيم وأدونيس عن أهل الكلمة (أهل القوم) المقال يؤكد أن هناك كلام الفعل ذاته، كما أن هناك كلام هو مجرد رص رموز تقتل الحركة.
الأهرام: 20-5-2002
متى تصبح الكلمة سيفا ؟
حين تشتد الأمور، ويحمى الوطيس، وتتحتم المواجهة وهى تختلط بالدم والعرق والدموع، كما تتطلب القرار والفعل والتنفيذ، الآن وليس بعد، تتراجع الكلمات العادية والخطابية حتى تبهت أو تبدو بلا لزوم، وأحيانا بلا معنى، ثم إنها قد تصير عبئا على قائلها أو كاتبها، ناهيك عن قارئها أو سامعها، بل إنها قد تصير معطلة عما هو أهم، أو مشوهة لما يتم، وتــم.
تاريخ الكلام فى نشوء الإنسان تاريخ طويل ورائع. للكلام وظيفة اقتصادية من حيث أن من خلال نشأته تمكن الكائن البشرى من اختزال الوقت، ونقل المعنى، وتسهيل التواصل باستعمال رموز قادرة مانعة جامعة. بدأ هذا على مستوى الإشارة، ثم على مستوى المشافهة (الكلام المنطوق) ثم على مستوى الكتابة، وحاليا يتطور الأمر إلى الانتقال إلى مستوى المعلوماتية التواصلية التى تجمع بين الشفاهية (الأقمار وقنوات الإعلام المسموع والمرئى)، والكتابات والمكاتبات الرمزية عن بعد (الإنترنت والبريد الإلكترونى) مضافا إلى هذا وذاك الخيال الإلكترونى الذى فاق التصورات السحرية.
المسألة الآن ليست فى التهوين من قيمة هذه الإنجازات البشرية، وإنما هى فى تحديد موقعها والانتباه إلى احتمال سوء استخدامها. الخطر أن يحل الجديد محل القديم دون أن يحتويه ويتبادل معه. مثلا: حين تحل الحضارة الكتابية محل الحضارة الشفاهية تماما تبهت العلاقات الإنسانية ويخفت الحوار البشرى، أو حين يحل فيضان المعلومات محل ملكة الانتقاء المثابر وراء الكلمة المكتوبة بما يسمح بإعادة تشكيل الوعي.
إننا – فى مصر والعالم العربى ومن مثلنا- نتوقف عند المكتوب والمسجل على حساب التجربة الحياتية والواقع نحن نكاد نكتب للكتابة، لا لما بعدها ولا لما يتفجر منها.
حين أتابع كثيرا مما يـكتب (وأكتب) أرعب إذا لم أستطع أن أرد على سؤال يلاحقنى بعد كل مقال يقول ‘إذن ماذا’؟ ما فائدة ذلك ؟ ما هو ‘الفعل’ المطلوب بعد؟
إذا كان الأمر كذلك، أو قريبا من ذلك، فى كل الأوقات فيستحيل أن يظل كذلك فى وقت الأزمات خصوصا إذا احتدت الأزمة لتصبح حربا ساخنة ظالمة غير متكافئة. فى هذه الأوقات يكون الصمت أشرف من كل الكلمات العاجزة عن المساهمة فى فعل ما. فى هذه الأوقات ينبغى أن تتراجع ‘الكلمات الأصوات’ لتحل محلها ‘الكلمات الفعل’ القادرة على إعادة تشكيل الوعى بما يترتب عليه من نتيجة تصلح ليس فقط لمواجهة الأزمة، ولكن لتعديل المسار على المدى الطويل.
تحضرنى فى هذا الصدد يوميات صلاح عبد الصبور فى مسرحيته ليلى والمجنون وهو يسجل يوميات نبى مهزوم يحمل قلما ينتظر نبيا يحمل سيفا. السيف الذى صوره صلاح عبد الصبور فى هذه اليوميات لم يكن السيف الذى قال فيه الشاعر العربى القديم ‘السيف أصدق أنباء من الكتب، فى حده الحد بين الجد واللعب’ لكنه كان سيفا من الكلام ذى المعني. يقول صلاح ‘يأتى من بعدى من يعطى الألفاظ معانيها، يأتى من بعدى من لا يتحدث بالأمثال، إذ تتأبى أجنحة الأقوال، أن تسكن فى تابوت الرمز الميت’.. ثم : .’يأتى من بعدى من يغمس مدات الأحرف فى النار’. ..إلخ’. صلاح كان يعتبر أن الكلمة تصبح جثة هامدة حين تنفصل عن معناها أو تقتصر على ألعاب الفصاحة وحركات الشفاه، أم حين تدب فيها الحياة فإنها تصبح نارا تلهب وعينا لنزيل الظلم. لم يصلنى أن صلاحا يقصد الكلمات التحريضية، وإنما ما وصلنى هو أنه إذا حملت الكلمة معناها أصبحت وقودا للتغيير الفعال، ومن ثم إعادة صياغة الحياة.
فى جدل قديم بين أدونيس ـ ناقدا- وبين توفيق الحكيم -ساخرا- نبه أدونيس إلى رفضه مقولة الحكيم بأن ‘أصحاب القلم’ أصبحوا أقل تأثيرا ولزوما، وأقل قيمة عند عامة الناس من أصحاب القدم (كرة القدم) . كانت حجة أدونيس أن الكلمة إذا نبضت بما ‘هى’ تخطت مجرد دورها أداة لغيرها لتصبح فعلا حقيقيا قادرا على إعادة التشكيل. هذا دور الكلمات فى الإبداع الحقيقى باعتباره ‘واقعا آخر’ ، واقعا قادرا عل أن يسهم فى إعادة تشكيل الواقع الماثل من خلال تشكيل الوعى بالكلمات ذات المعنى الفعال.
لسنا فى حاجة الآن إلى مزيد من الكتابة التقريرية، أو الإعلامية، أو التبريرية ، أو حتى التحريضية، كما أننا أبعد ما نكون عن الحاجة إلى إضاعة الوقت فى كتابة نرجسية ليس لها وظيفة إلا تلميع صورة كاتبها أمام نفسه أساسا، ولا إلى الكتابة الراشية التى تركب موجة انفعال العامة لاكتساب شعبية الرضا والحماس، لا أكثر.
التهديد الذى نواجهه، والذى يجسده أبناؤنا الشهداء يحتاج إلى كتابة وكلام فى مستوى هذه البطولة الرائعة التى يعلموننا من خلالها معنى الحياة والموت والكرامة. نحن نحتاج إلى كلمات من نوع آخر تسهم ليس فقط فى الخروج من المأزق الراهن، وإنما فى حمل مسئولية الحياة بما ينبغى إلى ما تــعـد به .
إن الذى لا يتقدم يتأخر، ولا يمكن أن نتقدم إلا إذا احتوى الجديد القديم، واحتوى اللفظ معناه الأول ليتجاوزه إلى معنى أعمق وأقدر، ويصبح اللفظ ‘فعلا’ لا مجرد ‘صوت’. فعلا آخر لزمن آخر،
بدءا من الآن.