نشرت فى الدستور
28-12-2005
… ما الذى يمكث فى الأرض؟؟!!
…. المسألة أخطر من التصريحات والتربيطات والوعود والمهادنة والتأجيل والتلويح، صحيح أن كل هذه الحركات هى من أبجدية السياسية، لكن الناس ما لها؟ الذين انتخبوا، انتخبوا أملا غامضا، وحلما غائما، ووعدا إجماليا، وهم ينتظرن فعلا ماثلا، وحقوقا مصانة، ولقمة كريمة، وتعليما حقيقيا، وإبداعا متاحا، وإنتاجا قادرا. بقية الناس، الذين لم ينتخبوا، ليسوا منسحبين تماما، أتصورهم واقفين فى وضع انتظار (ستاند باى)، فإذا وجدوا أن المسألة جد، أو بها بعض الجد، فالأرجح أنهم سوف يسارعون بالمشاركة، حتى يجعلوا بعض الجد، أو شبه الجد، جدا بحق.
الجارى حولنا مازال بعيدا عن هذا الواقع برغم وضوح معالمه للشخص العادى وليس فقط للمحلل السياسى: السلطة تتمادى فيما هى فيه إذْ تتمسك بغبائها بشكل لا تحسد عليه، مع أن المصيبة تهددهم هم أولا وقبل كل آخر، إلى أنه يبدو أن ما يشغلهم هو أن يعدوا أنفسهم (وحوائجهم إن كانت لم تسبقهم) للقفز من على المركب فى اللحظة المناسبة، قبل أن تغرق. غباؤهم لا يسمح لهم أن يتبينوا أن توقيت غرق المركب ليس فى متناولهم. هذا بعض ما قالته الانتخابات الأخيرة على الأقل.
على الجانب الآخر نلاحظ ذكاء تصريحات الناجحين المنافسين وكرم وعودهم وهى تتردد تحت زينة الأفراح والليالى الملاح . الناس الناس، نحن، أصحاب المصلحة، سواء الذين انتخبوا أم الذين فى وضع “ستاند باى” وجدوا أنفسهم فى وضع صعب: فمن ناحية هم كفروا بالنظام القائم كفرا لا رجعة فيه، وبالتالى فكثير منهم مستعد أن يتحالف مع الشيطان فى مواجهته، ومن ناحية أخرى هم يحلمون ببديل ما، مهما بدا غامضا، بديل يحقق لهم المستوى الأدنى من الحياة الإنسانية، لكيونوا بشرا لهم حقوق، يحكمهم قانون واحد معلن، يوفر لهم الفرص، ويحفظ عليهم الكرامة.
السؤال الجدير بالنظر يقول: لو فرضنا أن من يسمون الإخوان قد تولوا المسؤولية، فكيف سنقيس مصداقية ما وعدوا به ؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال دعونا ننظر إلى نموذج يتحدى من واقع الحال:
نتذكر أن الصين ما زالت دولة شيوعية ، وأن الاتحاد السوفيتى حين انهار كان دولة شيوعية. لا أحسب أنه من الممكن أن نعزو أيا من هذا أو ذاك إلى أيديولجية الشيوعية ذاتها؟. كلنا نعلم ما حققته وتحققه الصين وهى لا ترفع شعار أن “الشيوعية هى الحل”، فى حين أننا نرى على الجانب الآخر ما تورطت فيه أمريكا متمادية فى غيها مع أنها ترفع شعار أن “الديمقرطية هى الحل”. هذه الشعارات التى نرفعها، أو نخفيها، والوعود التى نعلنها أو ندعيها، والبرامج التى ندبجها أو نلقيها ، ليس لها أدنى قيمة ما لم ير نتيجتها الشخص العادى على أرض الواقع. الصين لا يقاس إنتاجها بعدد من حفظوا كتاب ماوتسى تونج الأحمر، وإن كان أعداء الاتحاد السوفييتى يقيسون ما آل إليه بعدد بائعات الهوى الروسيات فى الخليج وغير الخليج. الصين لم تستأذن مفتييى الشيوعية حين صنعت السبح، وسجاجيد الصلاة، والساعات التى تؤذن ، والبوصلة التى تحدد القبلة حيثما سافرت، هى لم تستذن مفتى الشيوعية إن كان أى من ذلك حلال أم حرام شيوعيا، كذلك المبدعون الأمريكيون فى كل المجالات ، بمافى ذلك من يبدعون فى المنهج (العلم المعرفى بالذات) تحديا للفكر الغربى، هؤلاء المبدعون لم يستأذنوا الكونجرس فى حرمة أو حلّية أو وطنية إبداعهم (اللهم إلا ما يتعلق بالهلوكست ومعاداة السامية، الله يخيبهم).
إذا كان للإخوان أن يحلموا بتحقيق مستقبل إيمانى إبداعى حقيقى، يضيف إلى المسيرة البشرية من منطلق إيمانى يتجلى فيما يستلهمونه من الإسلام، فعليهم أن يصارحوا أنفسهم أولا قبل الناس حول حدود مرجعيتهم، ومستوى سقف حركتهم؟
من الذى يحدد هذا أو ذاك ؟ هل هى المؤسسات الدينية الخائفة النصّية المتجمدة على تفاصيل التفاصيل للحلال والحرام من وجهة نظرهم،؟ أم هى فرص انطلاق الإبداع من كل فكر توجها إلى خالقه كدحا وكشفا وإضافة وتجاوزا ؟
عليهم أن يقيموا الشعارات بالواقع، ولا يزينوا الوقع بزيف الشعارات . فلينظروا بهدوء فى كل التجارب المحيطة، القريبة و البعيدة، لينظرو بأمانة يحاسبهم عليها الله كما يحاسبنا إلى الذين بزعمونا تطبيق الشريعة (دون الطريق أو الحقيقة) وهم لم يحققوا إلا نقل الخمارات إلى داخل البيوت، ولا تنقص فضائياتهم إلا أن ترفع الأذان بالفيديوكليب، ثم ينظرون إلى من أين نهل جارودى حتى سلم، وكيف أبدع إيمانويل شميت زهور القرآن (من الحلاج إلى جلال الدين الرومى) ، ثم لينظروا فى كتابات وفتاوى على عزت بيجوفيتشى وجمال البنا وأحمد كمال أبو المجد وجارودى، أو يعيدون النظر فى قدرات الذاكرة البشرية من واقع حديث علم حديث وكيف يؤثر ذلك على مصداقية مناهج التاريخ الشفاهى كافة.
الأمور أخطر من الوعود والأمانى
والثقة فى الحق تعالى بلا حدود ، ولا يمكث فى الأرض إلى ما ينفع.
وإن كان “للصبر حدودا!!