نشرت فى مجلة سطور
عدد أغسطس – 1998
ماذا بعد الزعم باختفاء الطبقة الوسطى؟
أو”الحراك الاجتماعى” و”الحراك التطورى” والطبقة الوسطى
منطلق شخصى:
ينشأ المصطلح من معايشة مشتركة ومتفاهمة لواقع الحال فى تمايزه وتباينه، ثم يستقر ويتحدد، ثم يتعمق، ويتأكد، ثم يتوقف ويتجمد، فيحول دون نمو أو مراجعة ما احتواه من مفهوم أو مفاهيم، لفترة تطول أو تقصر حسب قدرتنا على تحمل العودة إلى اقتحامه وإعادة النظر فيما وصل إليه.
ويسرى هذا بالطبع على مصطلح “الطبقة الوسطي”، فى نشأته، وفيما آل إليه. فللطبقة الوسطى ما يميزها، ويحدد معالمها، ويبين أخلاقها، ويكتب سيرتها، وهأنذا ما زلت أشعر أننى أكتب هذه السطور من داخل طبقتى الوسطى، وأننى أتوجه بها إلى قارئ من الطبقة الوسطى، فإلى أى مدى إذن يصح كل هذا (أو بعضه)؟ وماذا يعنى الزعم باختفائها (باختفائنا: قارئى وأنا)؟
تتعرض الطبقة الوسطى – مرحليا- للإنكار، أو التمييع، أو للتجاوز على أحسن الفروض، وذلك تحت زعم اتساعها حتى تسمح باحتواء ما فوقها وما تحتها[1] أو بتصور تزايد الاستقطاب الطبقى باضطراد زيادة الفقراء فقرا، والأغنياء ثراء، ولن ينفعنا أن ننقذها من الضياع أن نقسمها أيضا إلى شرائح أكثر عددا[2] ولعل فى هاتين الحجتين (أو المظهرين) المتطرفتين فى التناقض ما يسمح لنا بإعادة النظر فى المسألة، دون ضرورة الاستسلام لضياع هوية هذه الطبقة، وفى نفس الوقت، دون الاستسلام لجمود المصطلح ودلالاته فى مواجهة حركية الظاهرة.
فإذا كانت معايير المنظور التاريخى الذى يسجل حضور هذه الطبقة وتجلياتها، ومعايير المنظور الاقتصادى الذى يؤكدها، ومعايير المنظور الاجتماعى الذى يعلنها ويحددها، أقول إن كانت كل هذه المعايير تخضع الآن لحراك يهددها جوهريا، بل ويتنبأ بزوال مصداقيتها، فإن المنطلق الذى أنطلق منه هنا والآن، يدعونى إلى قراءة معطيات معيار آخر، مصدر آخر قد يكون أصدق تعرفا على هوية هذه الطبقة، مصدر قد يحيل دلالات هذا المفهوم إلى ما يتخطى معاييره التاريخية والاقتصادية والاجتماعية وصولا إلى ما يجعل هذه الهوية أبقى من المعايير التى قيست بها فى مرحلة بذاتها. أعنى بكل هذا ماسجله الأدب الروائى خاصة (والقصصى عامة) لماهية ومسار وحضور هذه الطبقة، وإذا أردنا مثالا صارخا وشهيرا جدا، فإن نجيب محفوظ (شخصيا)، وأعماله (عامة) هى خير شاهد على زعمى هذا، أعنى زعمى بأن أدبنا المعاصر هو مصدر هام للتعرف على هذه الطبقة جملة وتفصيلا، ولعله مصدر أهم وأكثر ثراء بما بين أيدينا، من معلومات كثيرة يقال لها “علمية”، وهى تمتلئ بأرقام الإحصاء وجداول المقارنة.
ليس معنى التحفظ السابق أننى أزعم أن الطبقة الوسطى- مفهوما وواقعا- باقية كما هى، أو أنها ينبغى أن تبقى كما نتصورها وننتمى إليها، بل إننى أدعو إلى مراجعة جادة لجذور ما تعنيه وما تشير إليه فكرة الوسط، وفكرة الطبقة فى ضوء المتغيرات الأحدث.
فـ “الوسط” يشير- عند الغالبية- إلى موقع بين طرفين، وعند فئة غير قليلة إنما يعنى تسوية ما بين نقيضين، تسوية تعادلية، هامدة فى العادة، مع أن للوسط – حتى معجميا- مدلولات أو معان أخرى أرقى وأشمل مثل: العدل والخير. كما أن مدلول “الطبقة” قد يتوقف عند المستوى الاجتماعى والاقتصادى، ثم يعد كل ما عدا ذلك نتاجا ثانويا لهذا المستوى بالذات.
ومن الواضح أن تناول المصطلح بهذا الشكل إنما ينطوى على جمود يصعب أن يناسب أى ظاهرة حقيقية، فما بالنا بظاهرة حركية فى زمن سريع كما هو الحال فيما يتعلق بـ “الطبقة الوسطى” فى “زمننا هذا” من الطبيعى إذن أن يؤدى مثل هذا الفهم للطبقة الوسطى إلى مزاعم باختفائها ولكن هل يعنى هذا أن نتخلى عن المفهوم ؟؟
جدير بنا أن نراجع هذا وذاك.
إن احترام حركية الظواهر الإنسانية يدعونا إلى النظر فيما هو “وسط” بوصفه “مرحلة” متقدمة نسبيا على مسار حركة متصلة.
وأن ننظر فيما هو “طبقة” بالبحث عن عوامل مشتركة قبل، وبعد، ومع، العامل الاقتصادى، تفيد فى تمييز نوع وجود مجموعة من الناس فى الحياة فى وقت بذاته، كما تشير إلى موقعهم على المسار، وتوجههم إلى المصير.
ومن هذه المراجعة اهتديت إلى احتمال (فرض) بديل يقول:
”إن الإنسان المعاصر لا ينتمى إلى طبقة دون أخرى، وإنما هو يقع فى مرحلة قبل أخرى، وبعد أخرى، وموقعه هذا قابل (بل وملزم فى الظروف المناسبة) بالانتقال من مرحلة إلى مرحلة على مسار نمائه (تطوره) الفردى.
وهذا المنظور، ينقلنا من الحديث عن الطبقات الاجتماعية المحددة، إلى الحديث عن المراحل التطورية المفتوحة، وقد جاءت هذه النقلة نتيجة لتسارع خطى كل من الحراك الاجتماعى والحراك التطورى من ناحية، وأيضا نتيجة لتزايد شفافية المعلومات، وفرص الإحاطة المعرفية وتعميق الوعى الكيانى من جهة أخرى. وإليكم بعض تفصيل ذلك:
أولا: مقدمات
(1) نحن نلاحظ سرعة وطبيعة وتوجه حركة الناس على مدرج السلم الاجتماعى، وعلينا أن نلاحظ إلى جانب ذلك -من أجل استيعاب أصدق- تسارع الحركة على مدرج آخر هو مدرج التطور الفردى والنوعى من أدنى إلى أعلى أو بالعكس.
(2) إننا نحتاج إذن إلى أن نرى الناس من مناظير أخرى حتى لو بدا أنهم قد تجمعوا معا فى “طبقة” أو فئة متجانسة، بمعنى أن وعينا بالمتغيرات الأحدث، وتأملنا فى واقع الحال، إنما يدعونا إلى توسيع أدوات تمييز الناس بعضهم عن بعض باستعمال مقاييس أكثر إحاطة وأرقى تصنيفا.
(3) إن من أهم ما يمكن أن يؤدى إليه توسيع أدواتنا هو أن نعيد النظر فى طبيعة العلاقة بين موقع الفرد (الطبقى) وبين حركة تطوره الشخصى، بمعنى عمق الوعى، والقدرة على المراجعة والمغامرة، وتجديد الذات، وتحمل الغموض، ووفرة التساؤل الخلاق، فى مقابل الرضا بالوجود الساكن، وتكرار الآمن، وطاعة الشائع … إلخ.
(4) إننا بتطبيق المناظير الأوسع فى المواقع المختلفة،لابد أن نكتشف وجه شبه بين المتحرك هنا والمتحرك هناك، دون حتمية التقيد بطبقته الاجتماعية، بنفس الدرجة التى نكتشف بها وجه الشبه بين الساكن هنا والساكن هناك، مرة أخرى دون التقيد بالطبقة.
ثانيا: التوالى
(1) إن تقسيم الناس إلى طبقات يعلو بعضها بعضا حسب موقعهم الاقتصادى والاجتماعى، ثم استنتاج مواقفهم وصفاتهم المميزة بناء على ذلك أساسا أو تماما، قد أصبح أسلوبا اختزاليا يحمل خطأ تنظيريا تترتب عليه أخطاء تطبيقية خطيرة.
(2) ينبهنا الحراك الاجتماعى المتسارع مؤخرا، والذى يعنى الانتقال من طبقة إلى طبقة بسرعة نسبية، إلى أن الانتماء إلى طبقة بذاتها ليس نهاية المطاف، بل لعله بدايته (على مستوى مسار نماء الفرد ذاته)، وبألفاظ أخرى، فإن طبقتى (الاجتماعية) قد يحددها موقع ولادتى، ولكنه لم يعد يفرضها.
(3) إن تسارع “الحراك الاجتماعى” يواكبه أو يستقل عنه ويسابقه، نوع آخر من “الحراك”، وسوف أسميه “الحراك التطوري” على مسار كل فرد أيا كانت طبقته.
فإذا كان الحراك الاجتماعى قد تسارع -فى مصر مثلا- نتيجة لتغيرات اقتصادية، وسياسية، ونفسية، أدت إليها مغامرات الهجرة الارتزاقية، واهتزازات القيم الاقتصادية، فإن الحراك التطورى المواكب يحدث نتيجة لتزايد شفافية المعلومات، واتساع مجال الفرص المعروضة لإعادة تشكيل الوعى، وسهولة الانتقال بين الثقافات الأصلية والفرعية المختلفة.
ثالثا: النتائج
لو صح هذا الفرض، فإنه قد يفسر بعض الملاحظات التى انتبه إليها كثير من الملاحظين مؤخرا، كما أنه قد يصحح كثيرا من المفاهيم الخاطئة والشائعة على الوجه التالى:
(1) إن الزعم باختفاء الطبقة الوسطى هو دليل على اهتزاز المقاييس التى كنا نحدد بها ما هو أعلى وما هو أدنى وما هو أوسط، وليس إشارة إلى اتساعها حتى شمولها كل الناس، ولا إلى تضاؤلها أمام تزايد الاستقطاب الاقتصادى.
(2) قد يرجع بعض ما أصاب الاتحاد السوفيتى – مثلا- إلى خطأ التوقف عند مفهوم غلبة طبقة بذاتها، بدلا من العمل على تسهيل توفير الفرص العادلة للحراك بنوعيه (الاجتماعى والتطورى).
(3) إن المبالغة فى التمسك بصورة الديمقراطية الغربية الحالية (وخاصة فى شكل الديمقراطية بالإنابة)، إنما يوهم بمساواة فى القدرة على التمييز، وعلى تحمل المسئولية ، ولكنه يتضمن -فى نفس الوقت- رغبة خبيثة فى إخفاء العوامل الفاعلة جدا فى التمييز بين الناس، رغبة فى تقسيمهم إلى طبقات متجمدة لها حدود خرسانية مغلقة.
(4) إن الاعتراف بفكرة “الصفوة”، بدلا من ممارستها فى السر، قد يكون ممكنا حين تصبح كلمة الصفوة مميزة لـ “مرحلة بذاتها” ، وليس لـطبقة أو فئة أو جنس أو عنصر، وبالتالى تصبح هذه المرحلة مفتوحة طول الوقت لمن يدفع ثمنها، ويقدر عليها، كما أنها تميز من ينجح فى أن ينتمى إليها، وليس من يجد نفسه فيها. هنا تصبح “الطبقة الوسطي” سمة لمرحلة تطور مفتوحة، لا مجرد مواصفات سطحية ساكنة.
(5) إن المراحل المتتالية على سلم التطور الفردى، ليست فقط متصلة بعضها ببعض، وإنما هى متناسقة مع بعضها البعض، سواء تحت قيادة موحدة للمستوى السائد فى فترة معينة، أو بتنظيم التبادل بين المستويات، حسب الموقف المناسب فى اللحظة المناسبة . بمعنى أنه لا توجد مرحلة أعلى مطلقة تحل محل مرحلة أدنى استنفدت أغراضها، وبالتالى لا يكون المستوى الأعلى أعلى إلا إذا احتوى ما قبله وتكامل به، وأحسب -أو أفترض أن هذا يمكن أن يسرى على الرؤية المقترحة فى هذا المقال للتنظيم البشرى المتكامل .
وهذه النقطة بالذات تحتاج إلى تفصيل خاص:
ذلك أنه على مسار أى تطور حقيقى، لا يختفى الأقدم بظهور الأحدث والأرقى، وإنما يحتوى الأعلى الأدنى دون محو أو إنكار، ولا يتم هذا الاحتواء مرة واحدة ، وإنما تظل حركة الذهاب والعودة فيما بينهما طول الوقت، وتواصـل هذه الحركة الجدلية النشطة بين مستوى ومستوى تضيف إلى كل منهما ما يدعم المسيرة باستمرار، وهكذا تظل كل المراحل (المستويات) متسقة داخل الكل الأحدث بقيادة الأرقى معظم الوقت، كما يظل للمستوى الأدنى الحق فى القيادة بعض الوقت حسب الإيقاع الحيوى أو الاجتماعى أو كليهما
ولتوضيح ذلك أكثر: نأخذ مثلا من تطور المخ (الدماغ)، وقد يصلح هذا القياس بالذات إذا تبنينا الفرض القائل أن المخ البشرى الحالى هو أصدق تسجيل لتاريخ تطوره البيولوجى.
فالمخ البشرى حاليا مرتب ترتيبا طبقيا بشكل أو بآخر: فثمة مخ أحدث هو القشرة ، ومخ أقدم ، هو جذع المخ (شاملا ما يسمى المخ الأوسط) ، وثمة مخ بينى (الداينكفالون) وهو ما بين القشرة وجذع المخ، (يتكون من مهاد ومهيد ونوايا قاعدية ..إلخ،) وكل من هذه المستويات مشتمل بشكل تلقائى -فى حالة الصحو خاصة- فى كل متناسق تحت قيادة المخ الأحدث عادة، إلا أن ثمة تبادلا فى القيادة بين المستويات المختلفة يحدث أثناء النوم والحلم، كما أن ثمة تكاملا فائقا بين المستويات أيضا يحدث أثناء الإبداع.
من كل هذا يمكن القول إن مستويات (طبقات) المخ ليست منفصلة حسما بقدر ما هى متواصلة تاريخا، ومتكاملة حاضرا، صحيح أن المخ البينى (الداينكفالون) لا يمكن أن يرتقى بنفسه إلى المخ القشرى، لكنه إذ يتكامل، ويتبادل معه يصبح أساسا لا يمكن الاستغناء عنه فى تحقيق تكامل المخ البشرى.
ولايصح القياس -طبعا- على إطلاقه، وإنما نكتفى بالإشارة إلى أنه حتى مع تمييز المرحلة الأرقى المفتوحة لكل البشر، بما هو “صفوة،’ فإن ذلك لا يلغى، ولا يقلل دور من هم دون الصفوة، بل إنه يؤكد ضرورة وجود كل المراحل (الطبقات) كل الوقت ، شريطة أن تكون المواصلات بينها مفتوحة، وقواعد الانتقال معلنة ، وإمكانيات الانتقال متاحة.
رابعا: الخلاصة
(1) إن الذين رصدوا ولاحظوا اختفاء الطبقة الوسطى محقين تماما، ليس لأنها اختفت فعلا، أو لأنها تكاثرت وتعددت مستوياتها، ولكن لأن المقاييس التى كنا نحددها بها لم تعد صالحة للعصر، وبالتالى فإذا نحن أصررنا على استعمالها فإننا سوف نصطنع طبقات لا وجود لها، نسجنها فى تصوراتنا لا أكثر.
(2) إن المرحلة الوسطى (وليست بالضرورة الطبقة الوسطى)، على مسار أى تطور، ستظل من أهم المراحل وأخطرها، باعتبارها المرحلة الواعدة بالحركة الأرقى، ومن ثم لا ينبغى تجميد حركتها عند مواصفات معينة بقدر ما ينبغى إتاحة الفرصة لانطلاقها لإكمال مسارها.
(3) إن الذى سوف يؤكد حركية الإنسان دون سجنه فى طبقة بذاتها أمران (ا) الإبداع المحرك و(ب) وفرة وتكافؤ الفرص.
(4) إنه يمكن تطبيق هذا المقياس الجديد على أى فئة تتصور أنها متجانسة ماديا، أو ذهنيا، أوعرقيا أو سياسيا، فثمة صفوة متحركة، ونكسة متجمدة ، وما بينهما فى أى فئة (طبقة) من فئات المثقفين، والتشكيليين، والساسة، والأثرياء، والفقراء، والعلماء ، ورجال الجامعة ، والبحث العلمى، والسود والبيض وأهل هذا الدين أو ذاك.
وبعــد
فإن المسألة -هكذا- تحتاج أكثر من أى وقت مضى، إلى ثورة فى التنشئة والنظم الاجتماعية والسياسية تتواكب مع ما فرضه علينا تسارع كل من “الحراك الاجتماعى” و”الحراك التطورى” نتيجة لهذه الهجمة الرائعة التى أحاطت بنا من خلال شفافية المعلومات و سهولة التواصل.
[1] – ماذا حدث للمصريين فى نصف قرن ؟ تطور المجتمع المصرى فى نصف قرن 1945- 1995 حسين أمين كتاب الهلال – يناير 1998 – العدد 565
[2] – ” رمزى زكى: وداعا للطبقة الوسطى – دار المستقبل – 1997″