نشرت فى الدستور
10-5-2006
ليس بقوات الأمن يتحقق الأمان (الإيمان)
(“ربنا موجود ربنا معانا”)
يا مّ المِدلاّت لا تزعلى على اللى صاْرْ،
خوفى عَ ضِلّ النجيلةْ، إلهوا ينْضار،
خوفى عَ ضِلّ النجيلةْ من عجاج أمشير
……
يا غاِلَيَةْ علِّمـينا عن حِقيِقتِكى.
هذه المقاطع مقتطفة – بتصرف- من د. نهلة عبد الله إمام فى المصور عدد الخامس من مايو.
يا ام الّمدلات يا سينا علّمينا عن حقيقتكى” !!، كيف تعلمنا “دهب” عن حقيقتها؟ أقول لكم كيف علَّمتنى:
كنت هناك من الجمعة للأحد 24/4 بعد غيبة تسعة أشهر مضطرا، تلقتنى مرحبة مثل عادتها. هى، أكثر من أى موقع فى سيناء، التى احتوتنى رحماً حانيا أتجدد فيه كلما مِتُّ أو كدت، أصبحتُ مؤخرا أتجنب طريق سانت كاترين إليها، لم أعد أطيق أن أمر على نخل وادى فيران بعد أن أصابته كهولة مبكرة، وكأن مرض ألزهايمر أصبح معديا يصيب الأشجار الرجال فى شبابهم، أصبحوا مثل شواهد القبور وقد استطالت حزينة، وحيدة معا. كدت أصدق التفكير التآمرى الذى يزعم أن السبب هو أن إسرائيل سرقت المياه من جوف الجبل، أصدق أن شيئا – غير المياه- قد سرق منا، سرقه بعضنا منا، فإذا عادوا هم فسرقوه هو هو، فهم لم يسرقوا شيئا، نحن الذين سرقنا أنفسنا .
كلما شددت الرحال إليها ترددت فى جوانحى سيمفونية بعثٍ ما، قبل أن اصل إليها، يكون قد غمرنى عزفٌ ممتد يحضّرنى للحن اللقاء الذى يتجدد أبدا. لى منزلٌ هناك متوسط الإسكان، أو دون ذلك، هو أجمل المنازل!!!
المهم، قبل الحادث بيوم واحد، الأحد، خرجت من البحر بعد سباحة طويلة قرب الغروب، وإذا بجسدى ملئ بمعرفةٍ ما، معرفة لم تتحدد بفكرة معينة، ليست نشوة، أو فرحة، بل معرفة !كيف؟ لا أدرى؟ غادرت دهب ممتلئا بها وبما لا أعرف. فى اليوم التالى حدث ما حدث، فعرفت: انقبض جسدى (ليس قلبى فقط)، فى داخلى مُشَوَّهًا بشعا، أحسست أنه منكمش مهزوم داخل هيكلى وكأنه محتوى حبة “عين جمل” تعفنَتْ فجأة. شعور هو عكس ما شعرت به فى اليوم السابق بالضبط، فهمت، فرُعبتُ أن تنكمش دهب بداخلى قبل خارجى. بعد يومين حدثت المفرقعات فى شمال سيناء، نادتنى، قررت أن ألبّى. حاول أن يثنينى كل من يعرفنى/يحبنى! عن الذهاب خوفا علىّ، فازددت إصرارا.
مع أن أنغام السفر التمهيدية كانت حزينة بخوف، استقبلتنى دهب فى حضنها الحانى ولم تكن تنزف برغم الجروح، ولا هى حتى تئن، ذهبت إلى الموقع، عانقت جارى فى السكن صاحب سوبر ماركت غزالة، وتبادلنا ما قسم بلا كلام. على بعد خطوات يقع مطعم “توتا” ذو المطبخ الطليانى والجماليات المتنوعة. كنت كلما رأيت صاحبه (الأستاذ محمد، وزوجته الأسترالية) أهنئه بتجديداته، وأشكره نيابة عن مصر لأنه يشرفنا – هكذا- أمام ضيوفها، كانت زوجته تفهم وتفرح بالتعليق. وأنا خارج من عنده التفتُّ إلى السبورة التى يكتب عليها توقيت “الساعات السعيدة”، فوجدت شيئا آخر غير ما اعتدت. قرأت:
“ياللى بتفجر نفسك فينا:
مش كنت تفكر: “إنت بتعمل ايه؟”.
كلنا بنى آدمين: بيض، سود، أو حتى من الصين.”
ياه!!! كيف التقطها “محمد” بهذه البساطة؟ كل المطلوب من هؤلاء الشباب، لهؤلاء الشباب، هو أن يتعلموا كيف يستعملون نعمة ربنا “أن يفكروا”. كل ما تقوم به سلطاتنا، بأنواعها، وبالذات التربوية والدينية الرسمية، هو أن تقزِّمَ فيهم، فينا، نعمة التفكير هذه حتى تموت، فلا يبقى لشبابنا إلا أجسادا يستعملها غيرهم “قنابل موقوتة”، لأغراضٍ لا يعلمون هم عنها شيئا.
على لافتة من القماش فوق مبنى تحطم أغلبه (مقابل “غزالة”) قرأت ما يلى:
“ربنا موجود، ربنا معانا”، ثم بالإنجليزية: No more Blood(لا مزيد من الدماء) ثم: “وداعاً يا توشكر.
قال لى صديقى الشاب العامل هناك: “شفت اللى جرى لنا”؟ أشرت إلى اللافتة وقلت له: “لكننا نرد أفحم رد”، ثم أردفْـتُ: “ما معنى “وداعا يا توشكر”؟ قال: ألا تعرفه؟ زميلى! صاحبك؟ قلت: محمد؟؟، قال، نعم، هو محمد توشكر، البقية فى حياتك. وتعانقنا يكتم كلٌّ منا نشيجه عن الآخر.
أثناء تموينى السيارة، وأنا أهم بالرحيل تقدم منى بدوى لا أعرفه وقال فى غضب”: مش تكتبوا بقى إن الأرض يحميها اصحابها” سألته “هل تعرفنى؟ قال “لا”، قلت له هل تقرأ ما يُكتب؟ قال: لا ، قلت له: إيش عرفك أننا لا نكتب ما تقول؟ قال: إللى حصل وبيحصل. قلت له: ألا يجوز أننا نكتب، وأنهم لا يسمعون؟
وحين قرأت مقال د. نهلة لاحقا “بدو سينا أدرى بشعابها”، أيقنت أنها سمعتْـنَا.