الوفد
26-10-2011
لماذا لا نتعلم من موت عزيز أو حاكم؟
خلال ثمان وأربعين ساعة مرت علىّ نعوش كثيرة، وكأنها ذاهبة ليجمعها قبر واحد بناه يزيد المصرى (محفوظ فى “حديث الصباح والمساء”) قرب ضريح سيدى نجم الدين، أو كأنها تفسير لحلم عاشور الناجى (الكبير، فى ملحمة الحرافيش) حين رأى الموت ، نعم هكذا :
عصر الخميس بالعيادة أبلغنى الممرض وهو يشاهد التلفاز فى صالة العيادة أن القذافى مات (قتل)، وفى نفس المساء هاتفتنى ابنتى “منى” أن خالها يرحمه الله، وكانت أمها معها خارج القاهرة، فعزيتها وزوجتى هاتفيا وأنا أذكر بعض مواقف شقيقها الطيب الذى أصبح مرحوما، وصباح الجمعة وأنا فى طريقى إلى قصر العينى التعليمى الجديد (الفرنساوى للأسف) لأعود ابنتى الصديقة كاتبة القصة الرقيقة المرحومة “نهى فتحى”، أبلغنى زوجها الإبن العزيز ياسر عبد السلام هاتفيا أنها تعتذر لأنها لم تنتظر قدومى، فعجلتْ إلى ربها “ليرضى”، وفى نفس اليوم قرب الظهيرة، كلمنى أخى أ.د. محمد شعلان أن إبننا معا أ.د. مصطفى أبو عوف الطبيب قد تركنا دون استئذان، هكذا مرة واحدة !!
غمرنى حزن غريب مختلف غامض جاثم غرقت فيه فلم يبق به ما يكفى لاستوعب اختفاء أنيس منصور من الأهرام ومن الدنيا بعد أقل من يوم آخر” …. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ”
كنت أحسب أننى عرفت الموت، وأننى تعلمت منه ما يكفى، وحين فعلها شيخى نجيب محفوظ وتركنا دون استئذان لعلمه أننا لم نكن لنأذن له، رحت ألومه فى رثائى له حتى قلت: ” “لا، ليس هذا وقتُـها، أفلستَ تعلم أننا فى “عِـز” حاجتنا إليك؟ أفلستَ تعرف ما جرى؟ أفلستَ تعرف كيف تنهشنا السباعُ الجائعة؟ أفلستَ تعرفُ أن ما يأتى بدونك لهْوَ أقسى ألف مرة؟ ” فحضرنى ذلك من جديد ، أوضح وأقسى هذه الأيام.
لكننى ما زلت أصل أن للموت عظة رائعة، لكن كيف تتسرب من بين أصابع وعينا كما يتسرب الماء من أيدينا هكذا؟
رحت أسترجع بعض ما كتبته فى الموت سنة 1974 تحت عنوان “حكمة المجانين”، ثم عدت وحدثته فى موقعى الآن (2011) تحت عنوان “مواقف ورؤى”، وجعلت أتساءل هل وصلنى أنا – قبل القارئ- بعض ما كتبت بحقه؟ مثلا :
- إذا استطعت أن تعى حركة الزمن بتواضع وموضوعية … فأنت مستوعب حقيقة الموت: أمّ الحقائق وروعة الوجود.
- لا يمكن أن تستمر فى فعل أجوف، أو أن تؤذِى بلا جريرة، أو أن تشقَى بلا منطق، إن كنت على يقين لحظىّ دائم أن الزمن يمر، ألم تلاحظ أن كل لحظة غير ما قبلها وما بعدها يا أخي؟!
- كل آلامك الشخصية ومعاناتك النعـّابة، يمكن أن ترجع إلى أنك نسيت أن تتغزل – بالقدر الكافى – فى حركة عقربى الساعة نحوه (نحو الموت)
- إذا كانت أيامك محدودة .. ومسيرتك محدودة هكذا ، فكيف تفسر أى انفعال غبى، أو بؤس أنانى؟؟
- الموت المفاجىء هو مكافأة الحياة الثرية بالأفعال والانفعال، والموت التدريجى هو تعذيب للطامع الأعمى ..، ولكنه تمهيد للمستعد الذكى.
- من عاش بحق .. يفرح بالموت إذ هو مزيد من التحرر والانطلاق، وهو يمارس كرم التخلى والإفساح.
كان لى صديق مهم جدا، وحميم جدا، المرحوم أ.د. السعيد الرازقى، حضرت اقتحام الموت له أياما وأسابيع وشهورا، ورافقته فى الداخل والخارج حتى فعلها،. فرحت أعاتبه محتجا أيضا، وكان مما قلت شعرا:
اختل مجرى العمر والأمل: دائرةٌ ملتاثة: لماذا ياصديقى؟؟ ، عَجـّـلتَ بالنهاية؟ تقضمُ فى المجهول والمعلوم أنيابُ الظلام الجائعة، هل ضقتَ ذرعا باللجاج والجشع؟
ثارت أجنة الخلايا تصطرع”، تعملقتْ فطرتك الأبيةْ، لم ترعَ عهداً، لا، ولمّا تنتظر،…..، تقفز خلف الحدِّ، بعد العدِّ، تقتحمْ ـ
ترجع نحو عشها اليمامةْ. …. (الأربعاء: 29 يناير 1986)
تصورت بعد رحيله أننى سأغير كل حياتى من فرط ما وصلنى من دروس، لكن يبدو أنه أبدا، وحتى حين كتبت شعرا يعرى هذه الخدعة، اكتشفت أن المراثى نفسها هى مهرب يثلم شحذ فعل التعلم والعظات وذلك حين قلت “أخبِّئها فى قوافى المراثى لأُغْمِدَ سَيْف دنوّ الأجَل “
ما هو المطلوب بالضبط حتى نتعلم من الموت كما نصحنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؟ هل نقلبها غما ونتوقف؟ انتبه المثل الشعبى المصرى لذلك فقال “..الحى أبقى من الميت”، وبطريقة أرق قال ” إللى خلق ما متشى”، ماشى !!،
طيب، وفى السياسة؟ ما رأيكم كيف يسستقبل الحاكم مقتل زميله بالسلامة هكذا؟ وبكل ألم واحترام: هل غير موت طفل حفيد من مواقف جده السياسية كما ينبغى إلى ما ينبغى؟ وما هى آثار عظة الموت، فى رجال المليارات إياها، ولا بد أنهم عاشوها من خلال خبرات أعزاء ماتوا لهم (فليس ثمة انتخابات في الموت) ،
ولكن دعونا نقرأ بعض القصيدة أولا :
……
……
وتسرى المهاربُ تْنحَتُ درباَ خفيَّا بجوْف الأملْ،
فأخْشىَ افْتضاحَ الكمائنَ نسف الجسور، وإغراقَ مَرْكبِعَوْدَتَنا صَاغرينَ، فَأُمْسكُها، تَتسَحّبُ بين الشُّقُوقَ، وحَوْلَ الأَصَابع، تَمْحُو التَّضَاريِسَ بين ثَنَاياَ الكلامِ، تُخَدّر موضعِ لدْغَ الحَقَائقْ، تَسْحَقُ وَعْىَ الزُّهَورِ، ولحَنَ السَّناِبلِ.
…
لماذا الدوائرُ رنُّ الطِنَّينِ، حَفيفُ المذنّبِ، يجرى ، بنفسِ المسارِ لنفس المصير، بلاَ مستِـقَرْ؟
لماذا نبيُع الْهُنَا الآن بخساً بما قد يلوح، وليس يلوحُ، فنجَتُّر دَوْما فُتَاتَ الزَّمْن؟
…..
وأخْجَلُ أَنْ تستبينَ الأمورُ فُأُضْبَطُ فى حُضْنِها: الغانية.
فأزعم أنّى انتبهتٌ، استعدتُ، استبقتُ، استبنتُ،.. (إلى آخرِهْ!!)
ويرقُصُ رقّاصُها فى عنادٍ، فتنبشُ لحْدَ الفقيدِ العزيزِ، ُتُسَرّب منه خيوطَ الكَفَنْ.
أخبِّئها فى قوافى المراثى لأُغْمِدَ سَيْف دنوّ الأجَلْ.
فياليته ظلَّ طىَّ المحالِ،
وياليتَها أخطأتها النبالُ، وياليتنى أستطيب العمى”
…..
انتهت القصيدة ولم أستطع أن أستطيب العمى،
فكان نتيجة ذلك أن خاطبت الراحلين هكذا:
يا حاج عبد النبى (خال أولادى) : سامحنى، فكم أخطأت فى حقك وأنا أحاول أن انتزعك من سجن وساوسك لتنطلق إلى حقك الأرحب فى الحياة، وأنت الأطيب والأكرم، لكن قل لى: وددت لو أن أولادى عرفوا خالهم أقرب، كما عرفت أنا خالا لم يكن خالى تماما، يا خالْ. أعرف أننى المسئول يا خالْ
يا مصطفى (= أ.د. مصطفى أبو عوف): طبعا أنت تعرف لماذا لم ألقبك بالأستاذ الدكتور، لماذا لم تسمع كلامى يا مصطفى وتنمى شاعريتك التى تفجرت منذ كنتَ “نائبا” معى فى قصر العينى (1972؟) ألم أقل لك أنك تكتب شعرا أفضل منى ألف مرة؟ لماذا سحبتك سخريتك الفائقة الذكاء إلى هذا الموقف الحكمى الفوقى، ما زلتُ محتفظا يا مصطفى بهديتك لى : “قصة الحضارة” لويل ديورانت بمناسبة بلوغى الأربعين سنة 1973، برغم أننى لم أكمل قراءتها، فهمت ساعتها أنك كنت تريد أن تثقفنى ربما لتحد من شطحى، أو ربما لتحمى نفسك من اقتحامى لك لاحتوائك كما ظهرت فى حلمك الذى حكيته لى آنذاك وأنت تغادرنا، وكيف أننى كنت فيه شجرة أحتويك برعما فى أحد فرعى، وليس فرعا باسقا بجوارى.
يا أنيس يا ابن منصور: شكرا على كل ما وصلنى منك، مع أننى كنت أدقق فيه فى السنوات الأخيرة بعد أن اكتشفت أنه يحتاج إلى تدقيق، سامحنى فكم حسدت ذكاءك وموسوعيتك، وغرت منك، واكتشفت فيك بعض ما كنت أود ألا أكتشفه، ولن أحكى لك نقاشى مع شيخى نجيب محفوظ حول كتابك عن العقاد، وهو موجود فى موقعى، وتستطيع أن ترجع إليه بعد أن أصبح عندك من الفراغ ما يسمح بذلك .
يا معمر يا قذافى: هل تعرف الآن أنك مسئول ليس فقط عن مصيرك، ولا عن مصير ضحاياك، ولكن عن مصير ثروة بلادك وأنت تراهم مِن عندك أوضح، وترى اللصوص وهم يقتسمون كعكعة بترولك، بترولنا، دون حياء، فرحين بموتك، شامتين فى نهايتهك، وعندهم حق، لكن دعنى أقول لك أننى احترمت فكرة الطريق الثالث برغم قبح وتفاهة كتابك الأخضر، لكن ليس هكذا، ولا وحدك، ولا على حساب ناسنا وناسك ونفسك.
وأخيرا: يا نهى ياابنتى: هل كنت تعرفين أنك ذاهبة إليه قريبا حين عنونت كتابك الأول بعنوان يقول: “فى الطريق إليه…” الذى قبله المجلس الأعلى للثقافة فى سلسلته الرائعة المشجعة “العمل الأول” ، أرجوا أن تطمئنى، فأنا أعيد كتابة مقدمته الآن كما أوصانى ياسر بأن آخذ راحتى وأكتب نقدا كاملا، وليس مقدمة موجزة
ولكن: خذ عندك
يا يحيى يارخاوى: لا فائدة منك، فخبرتى معك تؤكد أن هذه العظة المكثفة أيضا :
“سوف تتسرب”.