نبذة: فقد للمقارنة “الكمية” المستمرة التى نقارن بين انجازات الدول العربية كافة وانجازات اسرائيل خصوصا فى مجالات البحث العلمى والمعلومات (وناهيك عن آلة الحرب) والسباق غير متكافئ والمقارنة الكيفية تسمح ببداية مختلفة لأغراض تطورية إنسانية مختلفة.
الاهرام: 9-9-2002
للتعجيز والمعايرة أم للإفاقة والتدبر؟
تمتلئ أحاديثنا وكتبنا ومقالاتنا بالمقارنات المثيرة، والأرقام المتحدية التى تضع إنجازاتنا وجها لوجه مع إنجازات غيرنا. والمتأمل فى هذه المقارنات لا يستطيع أن ينكر أغلبها. ومع كل احترامنا للحقائق، ومع كل تقديرنا لحسن نية من يريد تنبيهنا إلى مدى قصورنا أو تقصيرنا، فإن علينا أن نتروى كثيرا حتى نأخذ من هذه الحقائق ما نكمل به نقصنا، ونتدبر به أمورنا.
إن نشر مثل هذه الأرقام هكذا، حتى دون نعابة أو لطم خدود، لا يقوم بالدور المرجو فى الحفز والتحريك، بل إنه قد لا يترك فينا إلا شعورا بالخجل، أو الدونية؟ إن تكرار هذه النغمة -هكذا – إنما يتضمن ما يفيد، ولو بدون وعي، أننا نعتبرهم المثل الأعلى المطلوب منا تحقيقه حتى نلحق بالعصر. هل الأمر هو حقيقة كذلك؟
وقفة المراجعة والتأنى التى أدعو لها هنا الآن لا ينبغى أن تبرر كسلنا أو تقاعسنا. إن الكسل والادعاء، مثله مثل الفخر والهجاء، لن يحقق لنا لا أهدافنا، ولا أهدافا مثل أهدافهم، إنه تنازل عن حق الحياة ذاتها. أنبه من البداية أننى أخشى أن يستعمل كلامى لتبرير تخلفنا أو للدفاع عن كسلنا. إذا كان البديل عن اللحاق بهم هو أن نقعد فى أماكننا، ونكتفى بأن نجتر تاريخنا، ونتهمهم بالمؤامرة، فكلا، وألف كلا، فلنلهث وراءهم حتى لو ظللنا عبيدا مقلـدين.
فى كتاب صدر حديثا بعنوان ‘التعليم العلمى والتكنولوجى فى إسرائيل’ تأليف الدكتورة صفا محمود عبد العال، وردت مثل هذه المقارنات بشكل جيد، برغم أن أغلبه معاد. لا أريد أن أكرر بعض الإحصاءات المقارنة بدوري، كل ما يعنينى هنا هو أن معظم ما ورد فيه من معلومات تسبقه كلمات مثل ‘عدد’ و’حجم’ و كم ‘نشر’ وغير ذلك من الكلمات الرقمية الدالة. هذا بالضبط هو ما يؤكد المنطلق الأدواتى الكمي، وهو مطلوب تماما، ورائع، ولازم، لكن التركيز على الكم بما فى ذلك أعداد البشر المتميزين علما وتقنية (عدد العلماء، وعدد التقنيين، وعدد الجامعيين..إلخ) لا ينبغى أن يكون هدفا فى ذاته.
علينا أن نسأل أنفسنا ونحن نحاول امتلاك هذه الأدوات، والإكثار من هؤلاء البشر المهرة : هل غاية مرادنا هى أن نلحق بهم هكذا حذوك الحاسوب بالحاسوب، وحذوك ‘النت بالنت’، فيكون النجاح كل النجاح أن نصبح مثلهم؟ لا أكثر ولا أقل؟ هل ما تملكه إسرائيل من كل هذه الأدوات والقدرات الفائقة التى نقرأ عنها بكل تقدير(وتسليم!) قد جعل أغلب الإسرائليين – من واقع الانتخابات واستطلاعات الرأي- أكثر إنسانية، وأصدق عدلا، وأكرم بشرا؟ لماذا لم ينفعهم كل هذا الكم من النشر وبراءات الاختراع فى تصحيح أساطيرهم التى يبنون عليها تبرير قتل الأبرياء وإبادة الشعوب ؟ أنا لا أشير إلى قادتهم وحكامهم فحسب، وإنما أشير إلى الأغلبية التى ولت هؤلاء القادة عليهم، والتى تقر تلك الممارسات الاستطالاع بعد الاستطلاع.
أعتقد أنه بداخل داخلنا شيء حقيقى لا يريد، ولا يقبل أن يكون -ببساطة – مثلهم ولا حتى مثل أسيادهم – أو شركائهم -الأمريكيين أنفسهم. إن الممارسات الظالمة الجارية، والتهديدات المجرمة القادمة، على الصعيد المحلي، والعالمي، خاصة منذ الحادى عشر من سبتمبر (كل سنة وهم غير ذلك)، تشير إلى أن أغلب هؤلاء الناس يفتقدون شيئا جوهريا، شيئا لم يستطيعوا أن يحققوه على الرغم من كل هذه الإنجازات الكمية الرائعة المحترمة، وعلى الرغم من كل هذه الأدوات القادرة، والوسائل الحديثة، وبراءات الاختراع، وحجم النشر، وفيض المعلومات.
إن من حقنا، بل إنه من واجبنا أن نشحذ همتنا لنتقن استعمال كل الوسائل الحديثة بلا استثناء، بما فى ذلك إنجازات تكنولوجيا المعلومات، وغير المعلومات. إن لنا – وعلينا- أن نمتلك ناصية شبكات الاتصالات، وأن نتقن لغتها، وأن نكثر من مواقعنا عليها. إن هذه الوسائل ليست ملكا لأحد، إنها نتيجة لتراكمات مسيرة العقل البشري. غيرنا بدأها ونحن أكملنا فيها شوطا رائعا حين تسلمنا مقود تسيير الحضارة فى تاريخنا الزاهي، ثم جاء متقدمو هذه الأيام ليكملوا شوطنا. إن دولا بدأت نهضتها الحديثة معنا – فى جنوب شرق آسيا مثلا- استطاعت أن تلحق بمن تقدموها فى امتلاك الأدوات وتحديات الإنتاج الكمي. لكن يـظل السؤال الهام يطل على الجميع : أى نوع من الحياة نريد أن يحققه الإنسان بكل ذلك، من خلال كل ذلك؟
لا أظن أن الرجل الأمريكي، ناهيك عن الرجل الإسرائيلى بعد أن تعرى بهذه الممارسات الظالمة، والتسطيحات العابثة، والاغتراب المتمادي، يمكن أن يكون المثل الأعلى للكائن البشري. علينا-إذن- أن نحذر كل الحذر، أن تستدرجنا الأدوات، مهما بلغت روعة أدائها، وموفور إنجازها، إلى ما تريده هي، أو ما يراد بنا من خلالها. إن الوسيلة هى وسيلة، و لا بد أن تظل كذلك. علينا أن نتأكد من غاياتنا، وإلا وجدنا أنفسنا حيث يراد بنا لا حيث نريد. ولا حيث خلقنا الله من أجله. هل نحن نريد أن نحقق’مجتمع الرفاهية’ كما تصدر لنا هذه القيمة وكأنها غاية المراد؟ أليس مجتمع الرفاهية هو مجتمع الاستهلاك، لمزيد من الاستهلاك، هو مجتمع السياحة للسياحة، هو مجتمع الكم والتراكم؟ هل هذا هو مثلنا الأعلى فعلا؟
مرة أخري: إذا لم نستطع أن نستعمل كل الأدوات والوسائل لأهداف أرقي، لنا ولهم، فلنتبعهم صاغرين.