نشرت فى الدستور
16-8-2006
…. لكن دسّ السمِّ فى نبض الكلامْ: قتلٌ جبان !
…. الحرب هى الحرب: “وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمو، وما هو عنها بالحديث المرجم”ِ وهى قبيحة مرعبة لها قوانيها الخاصة، متى تبدا: “متى تبعثوها تبعثوها ذميمة، وتضرى إذا ضرّيتمهوها فتضرم”ِ لكنها إذا ما فرضت على المظلوم قدرا جاثما تصبح هى شرف الوجود، وطريق النجاة، حتى لو أفنت جيلا بأكمله لأنه تصدى لها باقل من متطلباتها، فإنه يسلم الراية للجيل التالى حتى ينقرض الإنسان أو ينتصر الحق.
لا يوجد عاقل يريد الحرب إلا قدَرًا مفروضا، كما لا يوجد صاحب حق يتراجع عن الحرب (فالحق) إذا فرضت عليه إلا جبانا يدعى الحكمة، ويمثّل الرحمة، ثم يقبل الإهانة سرا، والاحتقار مؤجلا.
أتصور أحيانا أنه ليس من حقى أن أكتب هذا الكلام، وأنا جالس إلى مكتبى هكذا وهو مكيف الهواء، من يريد أن يفتى فى مسألة الحرب والسلام، عليه أن يفعل ذلك وهو فى مواقعها وسط الاشلاء والنواح والخراب، والأرجح أن من هو هناك، لا يجد عنده وقت للكلام، ناهيك عن الكتابة والفتوى، والتنظير.
الإنسان، فى حروبه عبر الأزمنة، أثبت أنه أقسى وأسفل أنواع الأحياء. إنَّ وصف هذه الحروب، خاصة الحروب الحديثة بالوحشية، هو إهانة للوحوش، فالإنسان يمارس ما هو أدنى مما نسميه قانون الغابة.
الحرب هى الحرب، فإن لم نحارب، أو طالبنا بوقفها، أو قبلنا ذلك، فعلينا أن نحسن الوعى بما يترتب عليه لنتحمل مسئوليته، فما بالك إذا أعلنا أنها آخر الحروب (لا أعرف من له حق هذا الإعلان قبل آخر الزمان، إلا الله سبحانه وتعالى!!)، علينا أن نعرف المسلسل الآخر الذى ينتظرنا بتحد لا مفـر من قبوله. علينا أن نعيد النظر فى دور المؤسسة العسكرية التقليدية، ومصاريفها، وحقيقة فاعليتها فى مختلف الظروف، ولمدة كم من الزمن، وكأننا نحسب دراسات جدوى من واقع جديد، على ألا تتوقف حساباتنا على الصرف المادى، والعائد العنترى، وإنما ينبغى أن تمتد حساباتنا إلى تقييم ثروتنا المتبقية من وعى الناس، ونوعه، وكم المعارف، وحركية الإبداع، وبناء الحضارة، حيث تقوم بكل ذلك جيوش السلام الحقيقية التى لا علاقة لها بمجتمع الرفاهية ، ودعة اللاحرب ، واستقرار العروش.
الحرب إذا طالت حتى أصبحت هى الغذاء اليومى لشعب ما عبر سنين عددا، يتخلق من خلالها بشر جديد لا نعرف ملامحه حالا، لكنه يتخلق، ربما على الجانبين معا، المنتصر والمهزوم. الإبداع الذى ظهر بعد الحرب العالمية الأولى،(مثلا: كل شىء هادئ فى الميدان الغربى. رينيه ماريا ريلكة: والثانية مثلا: هرمان هسّة) ، ظهر من الجانبين حين استوعب مبدعوا الطرفين بشاعة ما يجرى، وثمن ما دفع بسبب هذا الغباء المجرم. السلام الذى يخرج من مثل هذه الحروب، حتى لو كان سلام المستسلم، هو شىء آخر غير السلام الذى يصدر بقرار يجهض حركية الصراع لصالح الظالم المتغطرس، والسلطة الملتبسة. لا أحد يدعو إلى استسلام مثل استسلام ألمانيا واليابان، لكن إذا استمرت الحرب سنين عددا حتى فرض الاستسلام نفسه بسبب واقع حقيقى وليس من خلال تنزيل من مؤسسات فوقية لم تحتمل الاستمرار، فلتكن بداية جديدة ، لحروب من نوع جديد.
الفرصة الآن، مهما كانت النتائج أوالخسائر أوالمكاسب، تتيح إعادة النظر فى كل ما أشيع عنا وعنهم طوال مدة صراعنا معهم طول هذا العمر: كم صاروخا أطلق على إسرائيل خلال ستين عاما، وكم صاروخا أطلق خلال أربعة أسابيع؟ كم يوما استمرت الحروب الرسمية، وكم شهرا أو سنة استمرت حروب المقاومة (بما فى ذلك حرب الاستنزاف)؟ ما هو أثر خبرات الحرب الحقيقية الممتدة بكل خسائرها وضحاياها على البنية الأساسية وما يسمى الرفاهية، وما هو أثرها على الوعى والكرامة والأطفال وقبول التحدى وتخليق البشر؟ ثم ماذا عن التعليم والبحث العلمى والمعلوماتية وتحريك الإبداع ..إلخ
من الذى يستطيع أن يحسب ذلك، وكيف؟
التاريخ يقول لنا إن الحروب لعنة بلا حدود، لكنها أيضا فرصة بلا حدود.
حين دافعتُ عن القتل فى الحق، باعتبار أنك حين تقتل قاتلا فقد أحييته، نبهتُ إلى أن ثمَّ قتلا آخر أخطر وأخبث هو الذى ينبغى أن ننتبه إليه أكثر، وهو الذى يختفى فى أوراق الهدنات والمعاهدات والاتفاقات، لم يكن الأمر عندى بهذا الوضوح، لذلك كتبته شعرا، فاعترض عليه الكثيرون حتى رحت أراجعه، ولم أنشره، وحين وصلنى الآن أوضح، قلت أعلنه:
القتلُ فعلُ فارسٌ،
حتماً يموتُ إنْ ظَلَمْ،
لكن دسَّ السمِّ فى نبض الكلامْ
قتلٌ جبان.