نشرة الإنسان والتطور
بقلم : يحيى الرخاوى
2001-1980
نشرة يومية من مقالات وآراء ومواقف
تعتبر امتداداً محدوداً لمجلة الإنسان والتطور
22-7-2009
السنة الثانية
العدد: 691
الفصل الأول
لعبة الكلام: الحالة الثانية (2 من 2)
أنا قالع ملط، لكنى مش عريان!
طَـيـّبْ…! طَـيـّبْ !، واحدهْ واحدةّ.
أنا حاقـْلـَع اهُـــهْ:
أدى صورتى يا سيدى: شَـرْمـــطْــْها،
وادى قصـّـة حبْ،
وادى عقدة نقص، وكسرة قلب.
أهو كلّه كلامْ
مستويات الوعى بين التفريغ والتعليل
قلنا من البداية أن العلاج النفسى ليس هو العلاج بالكلام، وإن كان الكلام من أهم وسائله. فى هذه النشرة اليوم سوف نتناول تقييم مستوى ومحتوى الكلام، وخاصة ما شاع عن العلاج النفسى، بل وبالذات عن التحليل النفسى. هذه الإشكالة شارك في إثارتها ما شاع عن التحليل النفسى بوجه خاص، وهى تتعلق باختزال العلاج النفسى إلى:
(1) الترييح
(2) التفريغ
(3) التركيز على البحث عن السبب وخصوصا فى الطفولة،
وقد تناولنا هذه النقط الثلاثة بالنقد التفصيلى فى مواقع أخرى (أقربها حين رفضنا حكاية “إذا عرف السبب بطل العجب” ،حتى وصل النقد إلى الزعم بأنه “إذا عرف السبب زاد العجب)،
المتن هنا هو على لسان مريض بلغت بصيرته الناقدة عمقا قاسيا وهو يعلنها هكذا :
- إن هناك احتمالا أن كل (أو أغلب) ما يحكيه المريض ليس إلا القشرة الظاهرة لما يعيشه أو يعانيه أو يتذكره،
- وأن هذا المريض (الذى يأتى المتن على لسانه) هو المريض الساخر الكاشف المخترق – مثل كثير من المرضى – قد يحجب، بإرادة ما، ليست بالضرورة واعية، حقيقة داخل داخله،
- وأنه “بصراحة” ، فى مستوى ما من وجوده، لا يستأمِن طبييه عليها، (هذا إذا وصل هو إلى معرفتها أصلا).
معنى ذلك أن الكلام الظاهر قد يكون أبعد ما يكون :
o عن الكلام الكامن،
o ثم عن التركيب الغائر،
o ثم عن الحقيقة.
وسواء كان المريض يعرف أنه لا يكشف عن “كل طبقات ذاته”، أولا يعرف، فإنه فى كثير من الأحيان، يكون كل (أو أغلب) ما يحكيه ليس إلا
- تصوره عن أسباب مرضه،
- أو العوامل الظاهرة التى أدت لظهوره،
- أو التى هيأت لظهوره،
على الطبيب إذن ألا يستدرج للاستلام لهذه القشرة الكلامية، التى تكون فى كثير من الأحيان تبريرية أكثر منها تعليلية،
فقد يثبت أنه ليس المهم هو أن المريض حرم من الحنان أو أُنكر الاعتراف بوجوده فى طفولته، بقدر ما هو مهم النظر فى التركيب الذى ألت إليه مجوع ذواته ومستويات وعيه، وهى ما يمثله هذا الكيان الإنسانى الفرد الماثل “الآن” للعلاج،
هذا التركيب الحالى هو الذى يحتاج إلى إعادة تشكيل، فضلا عن أنه المتاح لذلك،
أما سبب المرض، (خصوصا أن أغلب الأسباب قد حدثت فى الماضى اللهم إلا الاضطرابات التفاعلية والموقفية الصرف)، فهو جزء من الماضى غالبا، وبما أننا لا نستطيع عادة تعديل الماضى، وكل ما نملك إزاءه هو تذكره، أو تذكر بعضه، أو حتى تذكر ما أخفاه عنا دونه (أخفى الماضى بظاهر ما يقال كما يشير النص:
أدى صورتى يا سيدى،….، شَـرْ مـــطْــْها،
وادى قصـّـة حبْ، وعقدة نقص، وكسرة قلب.
لابد – إذن- من تحجيم هذه الشائعة البالغة الشهرة، الجسيمة الخطأ فالإضرار التى تقول: إن العالج هو “كلام وتفريغ”
::::::::::
واضح من سخرية بصيرة المريض (المتن) أن تركيز الطبيب (المعالج) على محتوى ما يقوله المريض، وظاهر ما يحكى، إنما يبعد الطبيب عن صلب القضية
المريض هنا يقولها تنبيها ساخرا: “أهو كله كلام !!”
ثم هو يـُلحق ذلك فورا بإيجاز رأيه، وإعلان أن مثل هذا الطبيب الذى استـُدرِجَ إلى هذه المنطقة التبريرية التفسيرية التعليلة، هو أبعد ما يكون عن حقيقة أعماق مريضه وطبيعة تشكيله:
عودة إلى المتن:
أنا قالع مَلــْط،
لكنى مش عريان.
هوّا انا مهبول؟
أدّيك نفسى لحمة طرية؟
على إيه؟
لو أننا تعمقنا الموقف كما تدعونا بصيرة هذا المريض الساخرة هكذا، إذن لرأينا أن التفاصيل السطحية التى قد تملأ جلسات التحليل النفسى ليست إلا مظاهر جزئية لمشكلة الوجود الأعمق، فقد تكون إعلانا للوحدة القاسية البشعة التى اكتشفها المريض بلا حل، وعلى لسان هذا الجزء تصبح صورة المريض التى فى متناول العلاج ليست هى حقيقته وإنما غطاؤه،
المريض هنا هو الذى يتفرج – من داخل داخله – على المعالج وهو يحاول أن يفسر ويؤوّل، أو حتى وهو (المعالج) يحاول أن يعيد تشكيل تركيب مريضه وذاته، من هذه المعلومات المتاحة بلا عمق أو جدوى، (لأنها ليست هى)
الطبيب على هذا المستوى السطحى لا يستطيع أن يمارس التشكيل النقدى العلاجى الذى يمكنه من أن يصيغ منه “الفرض” الأصلح.
هذا الموقف الساخر يعرفه بعض الذهانيين خاصة سواء المرضى منهم أم ذوى الرؤية الذهانية بعد أو قبيل المرض، وهم أحيانا يمارسونه بوعى جزئى على الأقل، ومن موقف السخرية هذا قد تطفو قصص الشعور بالذنب، وعقد النقص والفشل فى الحب….إلخ
المتن ينبهنا إلى أن كثيرا من هذه الحكاوى قد لا تكون إلا مجرد تفريغ كلامى، قد يخفف الضغط عن الجزء الأعلى من الشخصية ولكنه لا يغوص إلى جوهر مشكلة الوجود.
تحذير من التعميم
لا يمكن تعميم هذا الموقف بلا تمييز، إذ عادة ما ينشأ هذا الموقف ويحتد حين يشك المريض فى قدرة المعالج على استيعابه، أو فى جدية المعالج فى مواكبته، أو حين يستشعر المريض انفصال المعالج على مسافة منه، إلى موقف أشبه بالفرجة، أو حتى الشفقة، دون مشاركة فعلية أو مواجدة.
أحيانا فى موقف التعليم، يكون سؤال الطبيب الكبير (الأستاذ مثلا) للمريض “بتحس بإيه”، هو بغرض الشرح فى موقف التدريب، حتى يعلّم المتدرب كيف يسمّى مثل هذه المشاعر باسم عرض معين، أو لكى يصل فى النهاية إلى اسم مرض معين، فيكتمل الدرس،
قد يلتقط المريض هذا الموقف بحدسه، أو بذكائه، أو بكليهما فيصبح الموقف أكثر إيلاما له، وينطلق حكمه على ما يجرى أكثر سخرية وقسوة كما سيأتى فى المتن حالا:
- ثم إنه كثيرا ما يصعب على المريض أن يصف ما يشعر به (يحس بيه)،
- أو قد يكون ما يعيشه ويعايشه من مشاعر ووجدان أكثر إيلاما وعمقا من أن يُعلن أصلا،
- وأحيانا يكون المريض أكثر استهانة بجدوى أن يقول لمعالج بهذا البعد حقيقة ما يحس به
تبينت أبعاد هذا الموقف وكيف يصل إلى المرضى من خلال حماس زملائى المبتدئين المتدربين معى أثناء العلاج الجمعى خاصة وأورد بعض ذلك فيما يلى:
يدعو أحد المتدربين المريض فى موقف معين أن “يحس بمشاعر معينة” (الخوف مثلا) بدلا من أن يحكى عنها، أو أن “يشعر بالتعاطف” مع زميل آخر يكون قد تعرى أوتألم أو أعلن ضعفه أو احتياجه فى بعض مقاطع التفاعل فى المجموعة، كنت ساعتها انظر للزميل المتدرب وهو يصر على أن المريض إن لم يكشف عن مشاعره لحظتها بدرجة مناسبة، أو إن لم يشارك زميله بالعمق الكافى، فهو“لا يحس“، لدرجة اتهامه أحيانا بالبلادة، كنت أنظر إليه بما معناه “وأنت، هل لاحظت تعاطفك؟ مع من؟ وإلى أى درجة؟ وكيف يمكنك أن تظهره”، وقد يتمادى المتدرب (أو المعالج المنفصل) فى تحفيز المريض “أن يحس” بالجارى، أو بما به، ضاربا بنفسه – دون بصيرة كافية- القدوة، فقد يقول للمريض بشكل مباشر أو غير مباشر: “حس زى ما انا باحس“،
وهنا يحضرنى مثل مصرى عامى مهم يقول على لسان من يُجلد عددا معينا من الجلدات “اللى بينجلد غير اللى بيعد“،
ومثل آخر أقل انطباقا لكنه أكثر شيوعا يقول “إللى إيده فى المية غير اللى إيده فى النار“،
وأغنية أقل فأقل وهى التى تقول “عوّام ياللى على شط الهوا عوّام“،
كل ذلك يشير إلى إحاطة الوعى الشعبى بحقيقة أن النصح، والحفز، والتوجيه لمن لا يعيش التجربة بحقيقة أبعادها، أى لمن يرصدها من على مسافة، هو بلا جدوى من ناحية، وأيضا هو يشعر المريض ببعد المعالج عنه من ناحية أخرى.
أحيانا يطلب الطبيب الأصغر من المريض أن يوقظ إحساسه ليخترق اللامبالاة التى تورط فيها هربا من آلامه، والمتدرب لايدرى حجم عبء ما يطلبه من المريض ولا خطورته فكأنه يطلب تفجير ذرة كامنة وقد أحيطت بجدار اللمبالاة الواقى،
هذا ليس اتهاما للمعالج الأصغر بل هو تنبيه ضمنى على مسار التدريب. وهو تنبيه مهم حتى لا يتصور المعالج المبتدئ، والمعالج عموما، أنه هو صاحب الإحساس الحى النقى، وأن المريض هو وحده فاقد الإحساس وأن عليه (على المريض) أن يتشبه به وبتفاعله حتى يكون سويا حاضرا.
فشتان بين إحساس إنسان اختبأت مشاعره رعبا،
وبين إحساس شاب فى أول طريقه وهو يكتشف طبقات مشاعره مع اكتشاف طبقات وعيه تدريجيا دون تهديد بالتفسخ أو المواجهة.
المتن هنا ينبهنا إلى أن مثل هذا المريض، خاصة إذا كان ذهانى بصيرى، يعلمنا ساخرا أن المريض لن يكشف داخل داخله إلا لمن يثق فيه بالقدر الذى يسمح له بمثل هذا الكشف، أو أقل.
الخلاصة:
كل هذا يشير فى نهاية النهاية، وبرغم قسوة سخرية المتن،
- أن الثقة بين مثل هذا المريض وبين الطبيب أو المعالج، هى المعبر الوحيد الذى يسمح بالتواصل فالكشف
- وأن وراء كل ظاهر ما هو أهم وأعمق
- وألا نقيس مشاعر مرضانا بمشاعرنا، أو بتصورنا عن مشاعرنا
بقية المتن حتى النهاية
(2)
أنا قالع مَلــْط،
لكنى مش عريان.
هوّا انا مهبول؟
أدّيك نفسى لحمة طرية؟
على إيه؟ !!!
الناس الشرفا فى الغابة أنبل منكم.
ياكـْلـُوها علناً بشجاعة من غير تبرير.
ولا ييجى واحد منهم بيهْْ،
يسأل بالعلم المتمكِّن: بـِتْـحِـس بإيه”؟
ويقلّـــب سيخى،
ويقولْْ لِى حِــسْ:
بالنار من تحتكْ.
كما إنى باحِـسْ:
بحلاوة ريحتـكْ.
الحالة دى صعبة ومهمّة،
تنفع للدرس.
تعبير “الحالة دى تنفع للدرس” هو تعبير مؤلم متواتر فى المؤسسات التعليمية، وبرغم أنه حقيقة مقبولة ومشروعة (نشرة أمس)، إلا أن وصوله للمريض بهذه الصورة الفجة، ولو بطريق غير مباشر، هو الذى مثله المتن وقد صاح فينا هذا المريض الساخر،
أن آلامه ليس كمثلها ألم،
وأنه كمن ينشوى بنارها،
ونحن الذين ندرس أو ندرّس، لا تصلنا إلا كمن يشم العابر رائحة الشواء تتصاعد مما تقلبه النار !!
أظن أنه لو صار هذا البيت المرعب بين الناس مثلا عاميا جديدا لانتبهنا أكثر، وراعينا أكثر
مرة أخرى:
ويقول لى حس، بالنار من تحتك،
كما إنى باحس بحلاوة ريحتك“